“هؤلاء عبادك/ قد اجتمعوا لقتلي تعصُّباً لدينك / وتقرُّباً إليكَ/ فاغفر لهم!/ فإنك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي/ لَما فعلوا ما فعلوا/ ولو سترتَ عنّي ما سترتَ عنهم/ لَما لقيتُ ما لقيت” (الحلّاج).
ربما تكون هذه “الصلاة الشِّعريَّة”، من أهم ما يمكن القيام به، قبل الخوض في موضوعٍ شائك، كمِثل موضوعِ الشرّ عموماً، والشر المشبَّع بتديّن زائف خصوصاً. لقد لاقت الشخوص الآتي ذِكرها في ما يلي من هذه السطور، ما لاقى الحلّاج، وهي شخوص يروق لي الحديث عنها بوصفها أمثلة رصينة، ربما يُعين التوغّلُ في سيَرها الذاتية على فهم تعبير أو مصطلح “الشر المتديّن” الذي آثرتُ نحتَه ها هنا، لغرضِ مقاربة اضطهاد الفلسفة والفلاسفة باسم الدين وإلهه. تالياً، محاولة فهم هذا الاضطهاد من خلال هذا المصطلح المنحوت للتوّ. الحلّاج، واحدٌ من أولئك الشعراء المتصوِّفة الفلاسفة، الذين اضُطهدوا بذريعة المدافَعة عن الله ودينه. هيباتيا أيضاً، كذا اسبينوزا، ومحمد الشيخ ولد امخيطير..و…و..والكثير من الفلاسفة من مختلف العصور والأزمان، جرى اضطهادهم باسم مختلف الأديان والعقائد والأيديولوجيات والمقدَّسات والآلهة. كانت هيباتيا، فيلسوفة عالية ومشرقة إشراقة المُثُل وعلوّها، لكنها قُتلت باسم الدين المسيحي وإلهه. وكان اسبينوزا، فيلسوفٌ خيرُه الفلسفيّ أصدق وأنبل من أيّ خير يدّعيه ذوو العمى الدينيّ؛ وبصيرته عن الله أصدق بصيرة وأشدّها عمقاً، غير أنه عُزل أبشع عزل باسم الدين اليهودي وإلهه. أما ولد امخيطير، فهو كاتب موريتانيّ معاصر، آثرَ النَّبشَ في منظومة السلطة الدينية وفضْح ما تنطوي عليه من عنصرية وعجرفة وعنجهيّة وطبقيّة؛ فحُكم عليه بالإعدام، باسم الدين الإسلامي وإلهه.
هذه السطور إذاً، هي محاولة لفهم الشر إذ يتديّن والدين إذ يتسيَّس، فهو خطر يهدِّد دوماً حياة الفلاسفة والمفكّرين والنقديّين والممهورين بروحٍ حرّة متمرّدة وعالية. إنه حرب مستعرّة ضد الفرادة الفلسفية لصالح القطيعية الدينية. وقد تقصَّدتُ اختيار امرأة مفكرة إلى جانب رجل مفكر. تقصَّدتُ أيضاً اختيار “نماذج” من أزمنة مختلفة قديمة وحديثة ومعاصرة، واختيار مفكرين اضطُهِدوا من متطرفين يمارسون الاضطهاد باسم الأديان السماوية الثلاثة (ربما ينبغي عليّ هنا أن أوضّح أنَّ الكلام عن تطرّف مسيحي أو يهودي قديم، لا يعني زوال هذا التطرف في هذا الزمان الراهن). تقصَّدتُ ذلك كلّه، في محاولة لإظهار أن الشرّ هو واحد إذ يتديَّن، وأن آلياته وركائزه هي واحدة أيضاً، وطبيعته واحدة. وتقصَّدتُ أخيراً، الإضاءة – وإنْ في عجالة متواضعة- على بعضٍ من الإنجازات والمؤلفات والأفكار لدى هؤلاء المفكرين، رغبة منّي في ألا أنصاع خلف ثقافة “الهَم والغم” التي لا تلتفت سوى للأحزان، أو ثقافة الشفقة التي لا تفعل شيئاً سوى أن تندب وتلطم تحت عنوان “يا حرام!”، أو الانجرار اللاشعوري صوب الفرح المبطَّن الماكر لدى سماع قصص محزنة سوداء، كونها أصابتهم (هم) ولم تصبنا (نحن)، أعني تلك الثقافة التي من شأنها أن تكرّس الارتباك أمام المهم والعالي والرصين والإيجابي والمشرق الذي جرى اضطهاده، والخوف منه بدلاً من الاستمتاع به عقلياً وروحياً، بل محاولة نثر أزهاره مجدَّداً.
هيباتيا(1)
ينتهي “آغورا”-الفيلم الذي يحاكي شطراً مهمّاً من حياة الفيلسوفة هيباتيا- بالقبض على هيباتيا(التي تلعب دورها الممثلة ريتشل وايز) من رهبان متطرّفين، ثم تُجرَّد من ثيابها، تمهيداً لقتلها. وبينما ينشغل الرهبان بجمْع حجارة لرجمها بها؛ يعمد “دافوس” إلى خنقها كي لا تحسّ بالوجع. دافوس، هو الشاب الذي تمّ سحبه إلى هاوية التطرف الدينيّ، والذي حدَث مَرّة، أن تحرّش بها جنسياً؛ فصدّتْه مصدومة مشدوهة، وحين شعرَ بتأنيب الضمير وسقطَ منهاراً؛ قدّم لها سيفه لكي تنحره به، فرمت هيباتيا السيف على الأرض، وبحزن عميق قالت للشاب:”إذهب فأنت طليق”. في نهاية هذا المشهد، يُشارُ كتابةً على الشاشة، إلى أنّ هيباتيا كانت عالمة استثنائية، اشتهرت بأبحاثها في الرياضيات، وأنّه في القرن السابع عشر الميلادي، أي بعد 1200)) سنة؛ اكتشف العالم الألماني يوهانس كبلر القوانين التي توصّلت إليها هذه الفيلسوفة والعالمة. في مشهد آخر سابق، تظهر الفيلسوفة الجميلة ذات الشعر الأسود، والبشرة الفاتحة، والجيد الطويل والقوام الممشوق الملفوف بفستان خفيف طويل، ناهيك بملامح الوجه المدموغة بهدوء فلسفي رصين، يبدو كأنه على اتصال وثيق بالمُثل الأفلاطونية العليا التي طالما آمنت بها، بل عاشتْها وعلّمتْها وشرحتْها، تظهر وهي تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخطوطات ونفائس علمية وفلسفية، في معمعة هجوم جماعات متطرفة دينياً على التماثيل وهدمها، وتحطيم الرموز الفنية وحرق الأبحاث العلمية والوثائق والخرائط، بحجة ارتباطها بالوثنية.
****
هيباتيا هذه، هي فيلسوفة الإسكندرية (370-415م)، وهي ابنة ثيون أستاذ الرياضيات في متحف مدينة الإسكندرية. ربما تكون قد تعلّمت الفلسفة من فلاسفة من المدرسة الأفلاطونية المحدثة -وهي الفلسفة السائدة في الاسكندرية في ذلك الوقت – أو ربما تكون قد ثقفت نفسها بنفسها، عبر قراءة تاريخ الفلسفة ولا سيما مؤلَّفات أفلاطون وأرسطو أولاً، ثم أفلوطين والأفلاطونيّة الجديدة بعد ذلك.
تمَّ تعيينها في متحف الإسكندرية قرب نهاية عام( 400م)، وكانت حكومة هذه المدينة مسيحية أو شبه مسيحية في ذلك الوقت، في حين كانت هيباتيا لا تزال على ديانة اليونان. لمعت في ميدان الرياضيات، وفي سنٍّ صغيرة كانت تلقي محاضراتها في المتحف. يقول عنها المؤرخ المسيحي سقراط: لقد بزت أهل زمانها من الفلاسفة عندما عُيِّنتْ أستاذة للفلسفة في الإسكندرية، فقد قصد قاعتها للإنصات إلى محاضراتها عددٌ كبير من الناس والطلبة من بلاد نائية شتّى، وكانت تُخاطَب بوصفها الرّبّة أو الفيلسوفة، وعندما كانت تشرح فلسفة أفلاطون أو أرسطو، كانت قاعة درسها تكتظ بأثرياء الإسكندرية أيضاً، ليستمعوا إليها وهي تبحث في الموضوعات الجدليّة القصوى الأهم: مَن أنا؟ ما مصيري؟ ماذا في إمكاني أن أفعل أو أن أعرف؟ أين مكاني في نظام الأشياء؟ ما طبيعة الإله؟ ما طبيعة الخير والشر؟ ومن ثم، فهْم هذه الموضوعات، استناداً إلى ميتافيزيقا أرسطو، فضلاً عن الفيزيقا والكوسمولوجيا وتطبيقاتها. وفهمها أيضاً استناداً إلى إبستمولوجيا أفلاطون وتطبيقاتها على الكون المرئي باستخدام نظريات الرياضة والهندسة.
****
أحد أشهر تلاميذها، سينسيوس القورينائي (365م)، كان يسمّيها” الشارحة الحقّة للفلسفة الحقة”. وعلى الرغم من تحوّله من الوثنية الى المسيحية، وتحويله ثالوث الأفلاطونية المحدثة من )الواحد. العقل. النفس( إلى )الأب. الروح. الابن(، إلا أنّ أستاذته هيباتيا لم تغضب منه، ولم تشعر بالغيرة عندما عُيِّن أُسقفاً في كنيسة كاثوليكية من كنائس بطليمية، ولُقِّبَ بـ”الأسقف الفيلسوف”(هكذا هم الفلاسفة أصحاب الفكر الحر، يتسامحون على الأغلب، ولا يشعرون بالغيرة أو الحسد حيال شهرة الآخرين ونجاحاتهم، بل يزهدون في الألقاب وفي كل ما شابه. هذا هو المعنى الحقيقي للانصراف إلى الفكر، وهذا ما يشكّل مصدر سعادة لأستاذةِ فلسفة منسجمة وفكرها نظرياً وعملياً وحياتيّاً، كمِثل هيباتيا. لكن كبير الرهبان “كيرلس”، كان يشاهد بعين الحقد والحسد، ذاك الرتل من الجياد الذي اصطفَّ أمام أكاديميتها! وهنا تكمن المفارقة، إذ المعرفة الفلسفية من شأنها أن تحرِّر وتدفع بالروح، وبالكينونة في كليّتها إلى التسامي فوق صغائر الدنيا، بينما من شأن الجهل المقنَّع بالدين أن يعمِّق نوازع الغيرة والحسد والبغض والتعلّق أكثر بصغائر الدنيا وماديّاتها، بل الذوبان فيها والتلاشي).
درَّست هيباتيا فلسفة فيثاغورس وزينوفان والمدرسة “الكلبية” والمدرسة “الرواقية”، وقد ساعدتها ثقافتها الفلسفية في تشكيل الأساس الطبيعي لما أصبح اهتمامها العقليّ الأول، أي علم الفلك. وكان هذا العلم، في بداية القرن الخامس الميلادي، من أهم العلوم في الدراسات الفلسفية، حيث كانت الفلسفة أُمّ المعارف والعلوم. ووفق ما يروي سويداس في معجمه؛ فقد ألّفت هيباتيا، ثلاثة كتب هي:”شرح على كتاب ديفونطس السكندري، أو “الآرتمطيقا، أو علم الحساب” كما كان يسمّيه العرب. و”شرح على كتاب المجموع الرياضي” وهو العنوان الأصليّ اليوناني للكتاب المعروف في التراث العربي باسم”المجسطي”، وشروح على كتاب “القطوع المخروطية” لأبولونيوس البرجي. وينسب المؤرخون إلى هيباتيا اختراعَين: 1- الآلة الفلكية القديمة المسمّاة “الإسطرلاب”2- جهاز لقياس الوزن النوعي للسوائل وهو نوع من الهيدرومتر.
****
كان لا بد من إلقاء الضوء آنفاً، على بعضٍ مما أنجزته هذه الفيلسوفة التي طالما استوت على عرش الأسرار الفلسفية، قبل الدخول في تفاصيل اضطهادها فيما بعدُ، على يد متطرفين دينيين بعيدين كل البعد عن العقل وعن الروح المقدس، متعاطين مع الدين بوصفه مادة الدنيا. لكن المادة – إذا ما تماهينا وأفكار هيباتيا نفسها وفلسفتها- هي شر، فيما العقل هو الروح المقدس، وهذا ما يجعل هيباتيا – في معنى ما- مؤمنة صادقة وحقيقية، بل هي الروح المقدس ذاته، على النقيض من رجالٍ كذَبة ينسبون الإيمان الدينيّ إلى أنفسهم، بل يضطهدون الآخرين باسم هذا الإيمان وهذا الدين، لكنهم في الحقيقة ليسوا إلا عبيداً للدنيا ومادتها.
كان العداء عنيفاً بين المسيحية في عهدها الأول، وبين الفلسفة والعلم. وقد تجلّى هذا العداء، على الصعيد العمليّ، في اضطهاد المفكرين الوثنيين، وتدمير معابدهم، وإحراق كتبهم، وهدْم دُور العلم التي يتردّدون عليها، ونهْب ما يجدونه فيها، وهو ما كان يقوده “توفيلوس” كبير الأساقفة. وكان مسيحيو الاسكندرية ينظرون إلى هيباتيا، بقدْرٍ غير قليل من الكراهية، كونها ظلّت على ديانة اليونان الوثنية. كانت هيباتيا تمثّل ينبوعاً للعلم والفلسفة والثقافة، وهي مسائل تتَّحد في نظر المسيحيين الأوَل، مع الوثنية في هوية واحدة.
ذات ليلة من ليالي آذار/مارس415م، اعترضت جماعة من رهبان صحراء “النطرون”، طريق عربة هيباتيا بإيعازٍ من كبيرهم “كيرلس”؛ فأوقفوها، وأنزلوها ثم جرّوها إلى كنيسة “قيصرون”. هناك، أمسك بها مجموعة من الرهبان لكي يتمكن قارىء الصلوات من ذبحها، ثم عكف الرهبان على تقطيع جسدها إلى أشلاء وأمسكت كل مجموعة شلواً وراحت تكشط اللحم عن العظم بمحار حادّ الأطراف، وفي شارع سينارون أوقدوا ناراً، روموا أعضاء جسدها فيها وهم يتحلّقون حولها في مرح وحشي شنيع كما يقول ديورانت في “قصة الحضارة”).
****
لقد عزفت هيباتيا عن الزواج وبقيت مخلصة للفكر والأفكار. كانت تعتقد – كما الأفلاطونيين وهي منهم- أن الخير والفضيلة والحكمة وغيرها تحمل في داخلها قيمتها، لذا فإن الناس يرغبون فيها لذاتها. بينما استسلم الرهبان الذين قضوا سنوات في أديرة صحراء النطرون، عندما ظهر نظام الرهبنة المسيحية أول ما ظهر في مصر وفي مدينة الاسكندرية على وجه التحديد، استسلموا للغرائز الدنيا. إن وحدة هيباتيا وعزوفها عن صغائر الدنيا، هما من طراز يفضي إلى حب الحياة، من حيث أن وحدة هيباتيا هي وحدة عقلية روحية منتجة مولِّدة وخصبة، بينما عزلة الرهبان كانت عزلة كبت وحقد أفضى إلى الموت والعقم والجريمة، عبر إلغاء الآخر المختلف، وإهانة الجسد الأنثوي وإذلاله والانتقام منه بوصفه رمز الحياة والإنتاج والخصوبة والإغواء الجميل. في معنى ما إذاً: هيباتيا هي الراهبة الحقيقية الصادقة. أما أولئك، فليسوا سوى شرّ يتخذ من الدين ستاراً.
****
شجّعه عمّه “توفيلس” على تقلّد منصب “واعظ الشعب”، وقد حقق “كيرلس” في هذا المنصب السيطرة والشهرة اللتين كان يرجوهما. كان هناك كثر من تعصَّبوا إلى ما يقوله، وكانوا يطيعون أوامره طاعة عمياء، وقد اتسع مفهوم الهرطقة لدى كيرلس ليشمل كل مَن ليس مسيحياً ولا يدين بأفكاره.( لفهم الشر المتديِّن أكثر، لنا أن نجري هنا مقارنة سريعة بين هيباتيا وكيرلس، فمن خلال النبذة السريعة التي جرى التطرّق إليها آنفاً حول حياة هيباتيا الفلسفية، نجد أن هيباتيا لم تكن “واعظة” ولا تعتمد الخطابة أسلوباً، بل كانت محاوِرة وشارحة ومحبة للفلسفة ومعلِّمة لها في كل مكان، فقد كانت -حتى في الشارع- تشرح لمَن يسألها عن النقاط الصعبة في مؤلَّفات أفلاطون وأرسطو كما يقول ديورانت في “قصة الحضارة”. كذلك، لم يكن لديها أتباع عميان، وتلميذها سينسيوس القورينائي الذي تحول من الوثنية إلى المسيحية، خير دليل على ذلك. إذ من شأن الفلسفة بوصفها حرية رأي وفكر وتأمّل أن تنتج الحرية، في حين أن الشر بوصفه جهلاً، يفضي إلى الاستعباد، وإلى تسخير الدين كأداة سلطوية تحول دون أي محاولة للتحليق خارج السرب. وقد لُقِّب رئيس الأساقفة كيرلس بـ”القدّيس” في مقابل ما ارتكبه من جرائم في حق الطوائف الأخرى انتصاراً للمسيحية، بينما لُقِّبت هيباتيا بالربة كونها كانت منصرفة تماماً للفكر والمعرفة والعلم والثقافة ولتعليم هذه كلّها وشرحها. إن الفيلسوف لا يدعو أحداً إلى اعتناق أفكاره، هو فقط يفكر، يتأمل، يقدّم رأياً مبرهَناً، يطرح مفهوماً خاصاً به، ثم يرحل).
سبينوزا(2)
“عقولنا أضواء متقطعة من ضوء أبدي”
في سنة 1656 م، استدعى رجال الكنيس اليهودي، سبينوزا، بتهمة الهرطقة أو الضلال الديني، وسألوه: هل صحيح ما يقال إنك قلت لأناس إن الله جسد وهو عالم المادة، وإن الملائكة خلطٌ وهذيان، وإن النفس قد تكون مجرّد الحياة، وإن التوراة القديمة لم تذكر شيئاً عن الخلود؟.
وبعد أن تبينت لهم حقيقة آراء سبينوزا، وحاولوا بمختلف الطرق ثنْيَه عن “غيّه وضلاله”، ومن هذه الطرق مثلاً، عرْض راتبٍ سنوي عليه، بشرط أن يوافق على موالاة الكنيس اليهودي والديانة اليهودية، بكل ما في الطقوس الدينية العبرانية من إجراءات قاتمة وصارمة؛ بعد ذلك كله، أعلن رؤساء المجلس الملّي اليهودي، فشلَهم في “تقويمه”، وإبعاده عن آرائه وأفكاره. وعليه، جاء القرار بموافقة أعضاء المجلس الملّي اليهودي، على إنزال اللعنة والحرمان بسبينوزا وفصلِه عن شعب إسرائيل.(ينبغي أن ننتبه هنا إلى أن كل أشكال السلطة، ومنها السلطة الدينية، تسعى إلى “التقويم”، كونها تعتقد أن مهمتها الكبرى هي ضمّ كل خارج على “خطّها المستقيم” الخاص بها، لكي يعود و”يستقيم” في الخط نفسه، ذائباً فيه. أي ينبغي “تقويمه”، عبْر ردّه إلى الخط المستقيم القوّيم. إن الخارج على “الخط المستقيم” بالنسبة إلى السلطة، هو على خطأ دوماً، وينبغي سحقه، والسحق أحياناً يعني “التقويم”، أي إفراغ الخارج على “الخط المستقيم” من معناه ومفحواه، من فرادته وتفرّده وفرديّته).
جاء في قرار “الحرمان” إياه ما يلي: “بقرار الملائكة وحكم القديسين، نحرم ونلعن وننبذ ونصبّ دعاءنا على باروخ سبينوزا، بموافقة الطائفة المقدسة كلها، وفي وجود الكتب المنقحة ذات الستمئة والثلاثة عشر ناموساً المكتوبة بها، نصبّ عليه اللعنة وجميع اللعنات المدونة في سفر الشريعة. وليكن مغضوباً وملعوناً، ليلاً ونهاراً، وفي نومه وصبحه، ملعوناً في ذهابه وإيابه، وخروجه ودخوله. ونرجو الله أن لا يشمله بعفوه أبداً، وأن ينزل عليه غضب الله وسخطه دائماً، ويحمله جميع اللعنات المدونة في سفر الشريعة. ونسأل الله أن يخلص أولي الطاعة منكم، وينقذهم، وأن لا يتحدث معه أحد بكلمة، أو يتصل به كتابة، وأن لا يقدم له أحد مساعدة أو معروفاً، وأن لا يعيش معه أحد تحت سقف واحد، وأن لا يقرأ أحد شيئاً جرى به قلمه أو أملاه لسانه”.(هذا القرار ليس مجرّد عقوبة. إنه لؤم عارٍ وحقد أعمى. لا أظن أن هناك حقداً أكبر من هذا الحقد بحجة الدفاع عن الدين، ولا أظن أن هناك لؤماً وقسوة أوسع من هذا اللؤم وهذه القسوة. وإن كان الدين يفضي حقيقة إلى مثل هذا الحقد وهذا اللؤم وهذه القسوة، فكم هو ضروري التجرّد منه بكل ما أوتي الإنسان من أجنحةِ عقلٍ وقلب وخيال وتمرّد وشجاعة).
وبالفعل، قابلَ سبينوزا، هذا الحرمان من الكنيس بشجاعة، قائلاً: لم يرغمني “الحرمان” على شيء، ولم يَحُلْ بيني وبين شيء أعمله” وعاش وحيداً. طرده أبوه الذي كان يتوقع بروز ابنه وتفوقه في العلوم العبرانية. وحاولت أخته أن تحتال عليه لانتزاع بعض حقه في الميراث القليل الذي تُرك له، وتجنّبَه “أصدقاؤه”. يقول سبينوزا: “هؤلاء الذين يريدون البحث عن أسباب المعجزات، وفهم ظواهر الطبيعة كالفلاسفة، والذين لا يكتفون بالتحديق فيها في دهشة كما يفعل الأغبياء، سرعان ما نعتبرهم ملاحدة كفرة. بينما ترفع عامة الشعب أولئك الذين يتصدون للفلسفة، وتعتقد فيهم العلم والقدرة على تفسير أسباب الطبيعة والآلهة. لأن الذين يتربصون بالفلسفة ورجالها، يعلمون أن إظهار الحقيقة وتبديد الجهالة، سيؤدي إلى إزالة الغشاوة عن قلوب الناس وعقولهم، كون الجهل هو وسيلتهم الوحيدة للاحتفاظ بسلطتهم ونفوذهم”.
وحدثَ مرة أن عرضَ لويس الرابع عشر على سبينوزا مبلغاً كبيراً، شرط أن يقدّم له إهداء الكتاب الثاني، لكن سبينوزا رفض ذلك. وكان يفضّل حياة الهدوء والفكر وقد اعتذر عن منصب كرسيّ أستاذ الفلسفة في جامعة هايدلبيرج عام1673 ، بيدَ أنَّ حياة الهدوء والفكر لا تعني العزلة، فقد أظهر سبينوزا اهتماماً بالقضايا السياسية التي كانت تجري في وقته، بل عرّض حياته – بسبب السياسة- إلى مخاطر كادت تودي بحياته. (مَن يهتم بالسياسة لا يمكن أن يُعتبر معزولاً، كون السياسة هي من أكثر المسائل التصاقاً بالواقع وحيثياته. فلنلاحظ هنا أن كلاً من هيباتيا وسبينوزا كانا يميلان إلى الزهد في صغائر الدنيا، في المعنى الإيجابيّ للزهد، أي ذاك الذي من شأنه أن يفضي إلى المعرفة الخالصة من كل تشويش “دنيوي” مبتذل، وهذا لا يعني العزلة وعدم الاكتراث بالواقع. لا بل هما رهَنا حياتهما من أجل تقديم ما قد يرتقي بهذا الواقع).
****
الكتب الوحيدة التي نشرها سبينوزا في حياته هي “مبادىء الفلسفة الديكارتية” و”رسالة في الدين والدولة”. ظهرا في وقت واحد ووُضِعا فوراً في القائمة السوداء وحظرت الحكومة بيعهما، ما دفع إلى نشرهما تحت عناوين مختلفة لتضليل الرقابة. أما كتاب “الأخلاق” فلم يُنشر إلا بعد موته وذلك في سنة 1677. في كتابه “رسالة في الدين والدولة”، كتب سبينوزا يقول إن الكتب السماوية المنزلة لا تفسّر الأشياء بأسبابها الثانوية ولكنها ترويها وتقصها بطريقة وأسلوب قوي متدفق للتأثير على الناس، ودفْعهم الى الإيمان والنسك والعبادة، وخاصة الفئة الجاهلة غير المتعلمة منهم. إن الكتاب المنزل لا يستهدف مخاطبة العقل وإقناعه، بل جذْب الخيال والسيطرة عليه، ومن أجل ذلك تكثر فيه المعجزات. على سبيل المثال، لو قال موسى لقومه إن الرياح الشرقية هي التي شقّت لهم طريقهم في البحر الأحمر، لما كان لقوله أثر على عقولهم، ولهذا السبب لجأ الرُّسل إلى سرد قصص المعجزات، كما لجأوا إلى سرد الأمثلة والحكايات التي تتناسب وعقلية الشعب. إن تأثير الأنبياء والرسل الكبير على الناس يعود الى الأسلوب البياني الساحر الذي امتاز به أصحاب الديانات من الأنبياء والرسل بحكم طبيعة رسالتهم وشدة عواطفهم. ويقول سبينوزا إننا لو فسّرنا التوراة بناء على هذا الأساس لما وجدنا فيه شيئاً يتناقض مع العقل، أما إذا فسرناها تفسيراً حرفياً، فسنجدها طافحة بالأخطاء والمتناقضات والأمور المستحيلة، كتلك الأسفار الخمسة التي جاء بها موسى. أما التفسيرات الفلسفية تكشف لنا من وراء ضباب البيان والشعر، أفكارَ المفكرين والزعماء العميقة وتوضّح تأثير التوراة الكبير على عقول الناس.(التفسيرات الفلسفية الأخيرة هذه، التي تفضي إلى تفكيك الخطاب الديني وما يثوي تحته من تضليل لعقول الناس بما يخدم السلطة وأغراضها، تشبه ما اشتغل عليه محمد الشيخ ولد امخيطير في مقالة له سنناقشها في الآتي من السطور).
يعتقد سبينوزا، أن الناس يميلون الى الاعتقاد بأن الله يحطّم النظام الطبيعي للحوادث من أجلهم، وهكذا يرى اليهود في إطلالة النهار مثلاً معجزة لهم للتأثير على غيرهم وربما للتأثير على أنفسهم، ودفعهم الى الاعتقاد بأنهم شعب الله المختار. تجدر الإشارة ها هنا، إلى أن سبينوزا لا يفرّق بين التوراة والإنجيل وينظر إلى اليهودية والمسيحية على أساس أنهما دين واحد، وذلك عندما تزول البغضاء من قلوب الناس. يقول: لقد كانت تأخذني الدهشة عندما أرى بعض الناس الذين يفاخرون بتعاليم الديانة المسيحية وخاصة بالحب والسعادة والاعتدال والسلام والإحسان إلى جميع الناس، يقاتلون بعضهم بعضاً بمثل هذه الكراهية المريرة التي أصبحت مقياساً لعقيدتهم بدلاً من الفضائل التي يدعون بها ويعلنون عنها.
****
في كتاب “تحسين العقل”، يقول سبينوزا إن الخير الأعظم هو معرفة الاتحاد الذي يربط العقل بالطبيعة كلها، وكلما ازداد العقل علماً، ازداد فهماً لقواه ولنظام الطبيعة وكلما ازداد فهمه لقواه ازدادت مقدرته على توجيه نفسه ووضع أحكام لها، وكلما ازداد فهماً لنظام الطبيعة ازداد مقدرة وسهولة على تحرير نفسه من الأشياء التي لا فائدة منها. العلم وحده هو القوة والحرية. والسعادة الدائمة الوحيدة هي طلب المعرفة ولذة الفهم، ويجب على الفيلسوف في الوقت ذاته أن يبقى إنساناً ومواطناً.
يفرّق سبينوزا بين النظام المؤقت وهو “عالم” الأشياء والحوادث، وبين “النظام الأبدي” وهو عالم القوانين والبناء الذي يسيِّر هذه الاشياء والحوادث. في “العقل والمادة” يقول: حرصتُ على أن لا أسخر أو أندب أو ألعن أو أكره الأعمال البشرية، بل على أن أفهمها، ولذلك نظرتُ إلى العواطف لا باعتبار كونها رذائل وشروراً في الطبيعة البشرية ولكن بوصفها خواص لازمة لها كتلازم الحرارة والبرودة والعواصف والرعود وما شابهها لطبيعة الجو. (حسبنا هنا أن نُجري مقارنة سريعة ما بين كلام سبينوزا هذا الذي ينبض عقلانية وتفهّماً ومحبة، وما جاء في قرار “الحرمان” إياه من لعْن وعزل ونبذ وإقصاء وما شابه ذلك من كره وجهل)، ويتابع سبينوزا فكرته عن فهم الأعمال البشرية بدلاً من ندبها وكرهها ولعنها والسخرية منها، في كتاب “الأخلاق” حيث يحاول التأكيد على أنه “كلّما استطاع العقل أن يحوّل ما فيه من عواطف إلى أفكار؛ كلّما صار أقوى وأبعد من أن تؤثر فيه العواطف الجامحة”.
إن الانسان الحكيم، في نظر سبينوزا، يختلف في شخصيته عن شخصية البطل الأرستقراطي الذي تحدث عنه أرسطو، وهو أقل من الإنسان الأعلى المثالي الذي تحدث عنه نيتشه، ولكنه أكثر ألفة وهدوءاً واتزاناً عقلياً. وإن عقيدتنا بالجبر، بحسب سبينوزا، تُصلح من حياتنا الأخلاقية وتعلّمنا أن لا نكره أو نسخر من أحد أو نغضب من أحد. كما أن الناس في الواقع براء مما يقترفون من آثام، لذا يجب أن تأخذنا الرحمة في معاقبة الأشرار لأنهم لا يعلمون ما يفعلون. (الكلام الأخير هذا عن الجهل، وعن التعاطي برحمة مع “الشر الجاهل”، الذي يفعل ما لا يعلم، يأخذنا مباشرة إلى الفكرة نفسها لدى (الحلّاج) في بداية هذا النص، وسيأخنا أيضاً، في الآتي من السطور، إلى انعدام الرحمة الذي استشفّه محمد الشيخ ولد امخيطير، بعد إعادة قراءة واقعة تاريخية، متسائلاً في النهاية: “أين ذهبت الرحمة؟؛ لنستوعب أكثر مفهوم “الشرّ المتديّن” الذي يكرّر نفسه في اضطهاد كل فكر حر، في كل مكان وكل زمان، ومع كل مفكر حر).
****
يعتقد سبينوزا في “الرسالة السياسية” أن الفلسفة السياسية تنبع من التمييز بين النظام الطبيعي والأخلاقي أو بين حياة الإنسان البدائية قبل تنظيم المجتمعات وبين حياته بعد تنظيم المجتمعات. ليست الغاية الأخيرة من الدولة، هي التسلّط على الناس أو كبحهم بالخوف، ولكن الغاية منها أن تحرر كل إنسان من الخوف، لكي يعيش ويعمل في جو تام من الطمأنينة والأمن ويعيش في وئام مع جيرانه فلا يضرّهم ولا يضرّونه. ليست الغاية من الدولة تحويل الناس إلى وحوش كاسرة وآلات صمّاء. إنما إرشادهم إلى حياة تسودها حرية الفكر والعقل، لكي لا يبدّدوا قواهم في الغضب والكراهية والغدر، ولكي لا يظلم بعضهم بعضاً، وهكذا فإن غاية الدولة هي الحرية في الحقيقة، ويلفت سبينوزا، إلى أن القوانين التي تقيد حرية الكلام والنقد والفكر تهدم جميع القوانين في الدولة، لأن الناس لن يلبثوا زمناً طويلاً على خضوعهم للقوانين التي لا يجوز لهم نقدها. وسوف لن يتصدى لهذه القوانين أصحاب الشره والطمع من رجال المال، بل أولئك الذين تدفعهم ثقافتهم وأخلاقهم وفضائلهم الى اعتناق الحرية. ( إن كل مفكر حر، يكون هاجسه الأعظم، هو الحرية، وأن يقهر الناس الخوف في دواخلهم، على النقيض من السلطة ومقترفيها من أصحاب النفوذ والثروة، وخصوصاً السلطة الدينية، حيث تكون غايتها القصوى، هي الإبقاء على الناس خائفين مذعورين، لا بل إن خوف السلطة الحقيقي يبدأ ما أن تشعر بأن الناس قد بدأوا يتحررون من الخوف، لأنها بهذا سوف تفقد دعامتها الأساسية التي تستمد وجودها منها، وبزوالها تزول).
****
بعد موت سبينوزا بقرنين، جُمعت التبرعات لإقامة تمثال له في “لاهاي”، وعند إزاحة الستار عن تمثاله في سنة (1882) ألقى أرنيست رينان كلمة اختتمها بقوله: “ويلٌ لمن يمرّ من أمام هذا التمثال ويوجّه إهانة أو لعنة لهذا الفيلسوف المفكر، لأنه سيُعاقَب بخسته كما تُعاقَب جميع النفوس الخسيسة العاجزة عن تصور الله”.
كان سبينوزا في الرابعة والأربعين من عمره، حين نخر مرض السلّ رئتيه، وقد أعدَّ نفسه لنهايته المبكرة هذه، ولم يخَفْ إلا على كتابه الذي لم يجرؤ على نشره في حياته، أي كتاب “الأخلاق”، فوضعه في دُرج مكتب صغير وأقفل عليه، وأعطى المفتاح إلى صاحب المنزل الذي كان يستأجره، وطلب منه أن يرسل المكتب والمفتاح إلى الناشر في أمستردام بعد موته.
محمد الشيخ ولد امخيطير
“لا علاقة للدين بقضيتكم أيها لمعلمين، فلا أنساب في الدين ولا طبقية ولا”أمعلمين” ولا”بيظان”
تلك كانت بمثابة صرخة جريحة جارحة، استهلّ بها الكاتب الموريتاني محمد الشيخ ولد امخيطير، مقالتَه “الدين والتديّن ولمعلمين”(3)، المنشورة في أيلول2014، في موقع “ينايري دوت كوم”. اعتُقِلَ الكاتب على إثْر ذلك، وطالبت النيابة العامة في مدينة نواذيبو بإعدامه رمياً بالرصاص، بتهمة الإساءة إلى الرسول، وفقاً للمادة (360) من القانون الجنائي الموريتاني، الذي يستمدّ أحكامه من الشريعة الإسلامية. كذلك، طالبَ عددٌ من رجال الدين بـ”ألا يُعامَل بالرأفة على الإطلاق” حتى لو أعلن توبته، وبأن يُقتَل ويُدفَن بحسب شرع الله (يمكن ملاحظة أن كُرْه”الرأفة”، هذه السمة الإنسانية/الأنثوية الرفيعة، هي قاسم مشترك بين رجال الدين الذكوريين المتزمّتين جميعاً. وحسبنا هنا العودة إلى خطاب المتطرفين الدينيين وما اقترفوه ضد هيباتيا وسبينوزا آنفاً، لنتلمَّسَ هذا التقاطع الرهيب!). يقول البعض إن ثمة دوافع اجتماعية عنصرية، كانت وراء مسيرات شعبوية أيضاً، شهدتها شوارع المدن الموريتانية المختلفة، طالبت بتطبيق حكم الإعدام، وكان ثمة تجييش مغلَّف بالدين بشكل مدروس، كوْن الكاتب من فئة الموريتانيين السود الفقراء وينتمي إلى طبقة “لمعلمين”، وكونه في مقالته إياها، حاول تفكيك مشكلة الصراع الطبقي في موريتانيا ونبْشِ جذروها. يُذكَر أن محمد الشيخ قد كتبَ في مقالة أخرى تحت عنوان: “توضيح حول مقالة الدين والتديّن ولمعلمين”: “يجب أن نعرف جميعاً أننا في صراع قديم متجدِّد مع ما يُسمَّى “أزواي”.
****
مقالة “الدين والتديّن ولمعلمين”، هي مقالة رأي تولّد الشكّ وتحفِّز العقل، وتجرؤ على ما هو حسّاس وممنوع المساس به، أي نظام الطبقيّة في موريتانيا. لذا، وقبل التوغّل في المقالة، ربما يكون ضرورياً أن نستدرك أنها جاءت في سياق جدل متصاعد بخصوص العبودية في موريتانيا، حتى إن ناشطين دقّوا ناقوس الخطر:”إن أطفالاً يُولدون عبيداً!”، جرّاء استمرار العبودية، على الرغم من إلغائها “رسميّاً” في سنة1981، ما يدفع بالعقل صوب التفكير مجدَّداً في تصوّراتٍ متداوَلة على نحو يقنيّ جازم، من قَبيل: إن الناس يولدون أحراراً ومتساوين!.
مَن هم “لمعلمين” الذين يوجِّه إليهم الكاتب “صرخته”؟ ومَن هم “البيظان”؟ “لِمْعَلْمِينْ”، هم طبقة من طبقات مجتمع “البيظان” القَبَليّ التقليديّ الهرميّ في موريتانيا. المجتمع الخاضع لتقسيم وظيفيّ بين طبقاته الآتية: “الأزواي” أو الطلبة. “لعرب” أو حسّان. “أزناكا”. “إكاون”. “لمعلمين”. و”لحراطين”.
أما “لمعلمين”، فهم الحرَفيّون من نجّارين وحدّادين ودبّاغين وغيرهم. هم – كما يُقال- ركيزة مجتمع “البيظان” الاقتصادية، وركيزته الحربية أيضاً كونهم يصنعون الأسلحة. وقد تفرّدت هذه الطبقة في المجتمع “البيظاني” بمهنتها الصناعية، كونها جمعت إليها جلّ المهن التي هي من اختصاص الطبقات الأخرى، فكانت هذه الطبقة حاضنة للفروسيّة أيضاً وللمسرح والموسيقى والأدب والعلم. الأمر الذي جعلها محلّ عداوة من طبقات المجتمع “البيظاني” الأخرى، ومحلّ غَيْرة تجلّت في (السخرية) من أبنائها والتقليل من شأن كلّ ما ينجزونه، فقد عمدَ “الأزواي” مثلاً، إلى نسْبِ أحاديث إلى الرسول، يُحكى أنها غير صحيحة، كقول: “الأخير في الحداد ولو كان عالِماً”، لطالما درجت طبقة “الزوايا” على تعلّم العلم وتعليمه، ويبدو أنه لم يَرُق لأبناء هذه الطبقة أن يرفد أبناء طبقة “لمعلمين” حرَفَهم في الحدادة وغيرها، بالعلم وبالمعرفة النظرية، كونهم يعتبرون أن العلم هو من اختصاص طبقة “الزوايا” فحسب. هكذا، ربما يصبح في إمكاننا مقاربة ذاك “الصراع القديم المتجدد مع “أزواي” الذي أشار إليه الكاتب الذي ينتمي إلى طبقة “لمعلمين”، وربما يصبح في إمكاننا أيضاً مقاربة العواقب المهولة التي تُحدثها (السخرية) المهينة من الآخر ومن إنجازه.
****
تبدو “صرخة” محمد الشيخ التي استهلّ بها مقالته، بما يعتورها من تحذير (رؤيويّ)، أقرب ما يكون إلى “صرخة” جبران خليل جبران المضرَّجة: “ويلٌ لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين”. في كلتا “الصرختين” يجري عزْل الدين – بوصفه وحدة خالصة، وجوهراً روحانياً محضاً- عن مهاترات التسييس، و”واقع” الأنساب والطبقيّة، والمذاهب والطوائف، وما تفرزه من كراهية وتفرقة عنصرية وانغلاق وتعصّب، وانحياز أعمى للذات من شأنه أن يفضي إلى انعدام فهم الآخر، ثم إلغائه تالياً. (ويلٌ لأمة يُحكَم فيها بالموت على كاتبِ مقالةٍ تنويريّة، ويبقى القتَلة كمِثل بشار الأسد وأمثاله، زعماء طلقاء!).
بشكل عام، يمكن توصيف ما أثارته تلك المقالة، بـ”الرؤية في مجابهة الرؤيا”. الرؤية، يختصّ بها عادةً أسرى المحسوس، و”الواقع” العقيم، الذين يركنون إليه باعتباره “حقيقة يقينية معزولة ومطلقة”، لا حقائق قبلها، ولا بعدها. هذا الواقع، هو “سلطة يقينية مطلقة” أيضاً بالنسبة إليهم، وأيّ محاولة للتفكّر فيه، هي بمثابة تقويض للسلطة وذوي السلطة. (مهمة رجال الدين المتزمّتين، في كل زمان ومكان، هي المحافظة على هذا الواقع تاريخاً، وحقيقةً، وسلطةً).
بيدَ أنّ كلّ محاولة للتحليق خارج هذا الواقع المربوط برؤية، هي رؤيا. وليس عبثاً أن اللغة العربية ها هنا، بوصفها فكراً وإبداعاً، قد ربطت “الرؤية” بتاء مربوطة، بينما أطلقت عنان “الرؤيا” بألفٍ ممدودة تعانق الفضاء والحرية، و(ترى) وتستشرف وتحلم. كل محاولة للتجاوز والتخطّي والانفتاح، هي رؤيا، غالباً ما تُجابَه بالرؤية.
والآن، عن هدم السلطة بالرؤيا
إن كان ثمة سبب رئيسيّ لمجابهة الرؤيا بالرؤية؛ فلأن الرؤيا من شأنها هدم السلطة القمعيّة التي تحرص الرؤية على أن تبقى موجودة بوصفها مصدراً للخوف وديمومته في المقام الأول.
منذ البداية؛ يحاول محمد الشيخ ولد امخيطير، في مقالته “الدين والتديّن ولمعلمين”، طرحَ أسئلة بسيطة وعميقة من شأنها ربما أن تفضي إلى تفكيك مشكلة الطبقية المذكورة آنفاً، وتفنيدها وفصفصتها، بل الحفر العميق لغرض تلمّس جذورها. فهو يطرح السؤال الآتي: “ما الفرق بين الدين والتديّن”؟ وفي محاولة الإجابة، يستعين بما قرأه في كتاب حول هذا الموضوع، بشكل ربما يدِّلل على روحٍ ديموقراطية تهتمّ بآراء الآخرين وتحاول الإفادة منها عبْر إشراكها بما يجري مناقشته؛ فيحدِّد الكاتب جذرَ الطبقية بـ”التديّن” بوصف هذا الأخير، كَسْباً إنسانياً. ثم مجدَّداً، يطرح سؤالاً:”متى كان الدين ومتى كان التديّن”؟ يبدأ، في محاولة الإجابة أيضاً، بالحديث عن فترتيْن زمنيَّتيْن للإسلام: فترة حياة محمد، وهي فترة دين، وفترة ما بعد محمد وهي فترة تديّن، كما يقول.
ثم بأسلوب سلس، ومن طريق الحوار المباشر مع الآخر، كأنه في صدد محاوَرة فلسفية حيّة في ساحة عامة كـ”الأغورا” مثلاً، لا في صدد مقال؛ يوجّه الكاتب دعوته: “تعالوا لنأخذ بعض المشاهد من عصر الدين”، فيباشر باستحضار وقائع تاريخية، درجت العادة على أن تؤخذ كما هي باعتبارها مقدسة وغير خاضعة لنقاش، فيعيد قراءتها بحرية، مُعمِلاً فيها العقل الرؤيويّ الناقد، مبيّناً من خلالها الفساد الذي طالما اعتورَ “السلطة الدينية” آنئذ، والتي هي “سلطة سياسية” في الآن عينه.
****
وقائع تاريخية – يمكن القارىء الاطلاع عليها بشكلٍ أكثر تفصيلاً، من خلال رابط المقال أدناه على الإنترنت(3)- يستحضرها الكاتب تفكيكاً، فيكشف من خلالها – عن الصراع، عن فساد سلطة المسلمين الدينية/السياسية، إضافة إلى العجرفة والتعالي والمزاجية في الحكم.
– عن استشراء الواسطة والمحسوبيّة والرشوة (أرادت زينب بنت رسول الله افتداء زوجها أبي العاص بقلادة لها كانت عند خديجة، فلما رآها رسول الله رقّ لها رقّةً شديدة، وقال لأصحابه :”إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فوافقوا على ذلك”، رواه أبو داود).
– عن الانحياز إلى روابط الدم وذوي القربى، لا إلى العدل المحايد، ويستحضر واقعة تاريخية كمثال على ذلك، إذ حينما وقع الأسرى من قريش في قبضة المسلمين بُعَيد معركة بدر624م في يثرب، قال المستشار الأول لرسول الله أبو بكر الصديق: “يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا قوة لنا على الكفار، فيكون ما أخذناه لنا عضداً.
– عن الانحياز الأعمى إلى المجرم الحقيقيّ، بل مكافأته بالألقاب الفخمة، وتهميش المجرم/الضحية لأسباب طبقيّة ( في معركة أُحُد سنة 625م، وأثناء مواجهة قريش للمسلمين، انتقاماً لبدر ورغبة في القضاء على محمد وأتباعه؛ تستأجر هند بنت عتبة “وحشياً” لقتل حمزة، في مقابل حريته ومكافأة مالية متمثلة في حليّها. تصل هند لهدفها، وتمثّل بجثّة حمزة. وبعد سنوات عدة، وأيام ما يُعرَف بفتح مكة؛ دخلت هند في الإسلام، ثم نالت اللقب الشهير:”عزيزة في الكفر عزيزة في الإسلام”. أما وحشيّ، فقد أمرَه النبي بأن يتوارى عن أنظاره عند دخوله الإسلام! هند قرشية، ووحشيّ حبشيّ).
– عن الظلم والتمييز والقهر، وغياب الرحمة (في فتح مكة سنة 630م، نال أهلُ مكة عفواً عاماً رغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول محمد ودعوته، ورغم أن الجيش الإسلامي كان قادراً على إبادتهم! وقد جاء إعلان العفو عنهم، بينما كانوا مجتمعين قرب الكعبة، ينتظرون حكم الرسول محمد فيهم، فقال:”ما تظنون أني فاعل بكم؟”، فقالوا:”خيراً أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ”، فقال:”لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ”، ثم تابعَ:”اذهبوا فأنتم الطلقاء”. لكنّ بني قريظة جرت إبادتهم إبادة جماعية في حصونهم سنة627م، مع العلم أنهم، فقط همّوا بالتحالف مع المشركين، والتآمر ضد المسلمين كان من جهة قادة بني قريظة فقط كما يقول الكاتب، قبل أن يذكّر بالآية التي تقول:”ولاتزر وازرة وزر أخرى”).
من شأن إعادة القراءة هذه -بوصفها رؤيا- التي قدّمها الكاتب لوقائع تُعتبر “سلطة مطلقة”، أن تهدم السلطة. أن تساهم في التأسيس لقانون مدني، ومجتمع مدني يتجاوز روابط الدم والعشيرة والقبيلة، ويتجاوز كذلك، الطبقية والعبودية، وكل ما من شأنه أن يترك جروحاً دامية في الوجدان الإنسانيّ؛ ليتطلّع إلى الروابط الإنسانية فحسب.
المَراجع:
1- “نساء فلاسفة”، الفصل الثامن: هيباشيا فيلسوفة الإسكندرية، د.إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، 1996
2- “قصة الفلسفة”، وِل ديورانت، مكتبة المعارف، بيروت الطبعة السادسة 1988م، ترجمة د.فتح الله محمد المشعشع.
3- رابط المقالة على الإنترنت:
http://www.yennayri.com/news2211.html
*كاتبة سوريّة، لديها مساهمات في العديد من الصحف والمواقع، صدر لها كتاب “ثورة الحرية السورية/أفكار وتأملات في المعنى والمغزى”، وكتاب “الزوبعة”.