استقر الحال في سوريا، بعد ما يقارب 40 يوماً من سقوط نظام الأسد، على مرتكزات يمكن من خلال استقرائها استخلاص ما يمثله المشهد الحالي وما يمكن أن يتطور إليه في المستقبل القريب.
تتجسد أهم هذه المرتكزات في شخص أحمد الشرع (الجولاني) الذي تدرّجت ألقابه منذ كانون الأول / ديسمبر من قائد إدارة العمليات العسكرية، مروراً بقائد الإدارة السورية، وصولاً إلى القائد العام، وهو اللقب الذي استخدمه للمرة الأولى في القرار رقم 8 الخاص بترفيع الضباط.
وفي ظل غموض الحالة الدستورية في سوريا، لجهة تجميد دستور عام2012 من الناحية العملية من دون صدور قرار بذلك، ولجهة عدم مسارعة الحكام الجدد إلى إصدار إعلان دستوري، ليست هناك نصوص تبيّن ما هو منصب القائد العام وما هي صلاحياته، ولا الجهة التي يعتبر مسؤولاً أمامها، بخاصة في ظل تغييب مجلس الشعب السوري ومنعه من أداء عمله، من دون أن يصدر قرار بحله أيضاً.
ومن شأن هذه الضبابية التي تلفّ موقع المنصب الأعلى في الإدارة الجديدة وعدم وضوح صلاحياته وحدود هذه الصلاحيات، أن تثير قلقاً عميقاً لجهة عدم وجود دستور أو إعلان دستوري يقوم بمهمة تأطير هذه المناصب وتحديد علاقتها بمؤسسات الدولة الأخرى، وبخاصة حكومة تصريف الأعمال، الأمر الذي يهدد بعدم دستورية القرارات التي تخرج عن حدّ تصريف الأعمال وتمس، على سبيل المثال، وظائف المواطنين ومعيشتهم وحقوقهم التقاعدية، وباتت تهدد بفوضى مستقبلية على الصعيدين الدستوري والقانوني.
ولكن قد يكون القلق الأكبر نابعاً من دلالة هذه الحالة وخلفياتها التي لا تحتاج إلى بصر نافذ لاكتشاف وجود جذورها في إدلب، المختبر الصغير الذي جربت فيه “هيئة تحرير الشام” أولى مواهب الحوكمة عندها.
ففي إدلب كان هناك مؤتمر عام انبثق منه مجلس الشورى الذي منح الثقة لحكومة الإنقاذ. وكان هناك منصب القائد العام أو “قائد المحرّر” الذي كان من نصيب أحمد الشرع.
وحتى في أنظمة إدلب وقوانينها، حيث لم يصدر دستور هناك طوال السنوات الماضية، ظلّ منصب القائد العام من دون أي قواعد تحدد صلاحياته أو ترسم حدود علاقاته بباقي المؤسسات، وهو ما يذكر تلقائياً بمنصب قائد الثورة الذي احتكره لنفسه الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، وكذلك بمنصب المرشد الأعلى في إيران، بما فيهما من استعلاء حتى على سلطات الدولة.
وقد سارت الأمور في إدلب على هذا المنوال من العلاقة بين القائد العام والحكومة والمواطنين منذ عام 2017، بحيث يمكن اعتبار أنها أصبحت تشكل عرفاً مكرّساً في المنطقة.
لذلك ينبغي أن تكون الخشية الحقيقية من بوادر استنساخ نموذج الحكم في إدلب وتطبيقه خلال هذه المرحلة في المحافظات التي سيطرت عليها الهيئة بموجب عملية “ردع العدوان”.
وهكذا، فإن مصطلح “أدلبة” سوريا لا يأتي من فراغ، بل تدل إليه مؤشرات ومظاهر واضحة تتعلق بنموذج الحكم المعمول به حالياً.
وهناك مظاهر كثيرة أخرى تدل إلى أن هذه الأدلبة لا تتعلق فقط ببنية نظام الحكم ومؤسساته، بل تكاد تطال كل جوانب الحياة الأخرى. والأمثلة كثيرة: الملتقيات الدعوية التي يقوم بها “مجاهدون” أجانب يرتدون الزيّ الأفغانيّ بكل ما تتضمنه من تهجم على الطوائف والأديان الأخرى ومطالبة الحاضرين بالتزام النسخة المتشددة من تعاليم الدين الإسلامي، وكذلك نشر ملصقات تطالب النساء بالحجاب، وأخرى بالفصل بين الذكور والإناث في الأماكن العامة ووسائل النقل. ومن لم ير أولئك “المجاهدين” وهم يتنقلون بين المطاعم في اللاذقية ويطالبون روادها بترك الدخان والأراكيل في اقتحام غير معتاد لحرمة هذه الأماكن المخصصة للترفيه وليس لسماع المحاضرات الدينية من متطفلين مسلحين؟. وبلغ الأمر ذروته مع سيارة الدعوة التي جابت حي القصاع الدمشقي ذي الغالبية المسيحية لدعوة أهله إلى اعتناق الإسلام.
في حديثه مع اليوتيوبر الأردني جو حطاب، قال الشرع إن دمشق خلال سنة واحدة ستكون مثل سويسرا. وفي حديث مع الـ”سي إن إن” قال إنه لن تكون هناك أفغنة لسوريا.
وبعد مرور أربعين يوماً على تسلم الحكم يبدو أن وعد سويسرا بعيد المنال. وفي المقابل لا يمكن القول إن ما يجري هو “أفغنة” مطلقة، إذ ما زالت الفوارق كثيرة بين سوريا وأفغانستان وإن كانت تتضاءل، ولكن مما لا شك فيه هو أن أدلبة سوريا قائمة على قدم وساق ولا يمكن إنكارها.
وأخطر ما في الأمر أن عملية أدلبة البلاد تتم بأسلوب سلس وهادئ وكأنه يعبر عن طبيعة راسخة وعقلية متجذرة، بحيث لم يعد ينتبه أحد من أهل الحكم إلى أين تنزلق المجتمعات والمؤسسات ولا كيف تقاد نحو نماذج غريبة عن الإسلام الشامي وروح الدساتير، أو أنهم ينتبهون ولا يجدون فيه ما يخالف سجيتهم، وبالتالي لا يتولد لديهم أي دافع للضغط على الفرامل لكبح هذا الانزلاق.
وإذا لم يفعلوا هم من سيفعل؟