أعلن وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان اعتزام المملكة تحقيق أرباح مالية من جميع المعادن، بما في ذلك اليورانيوم، كاشفاً، في خلال مؤتمر عُقد في مدينة الظهران، نية السعودية القيام بتخصيب اليورانيوم وبيعه وإنتاج ما يعرف بـ”الكعكة الصفراء”، وهي المسحوق المركّز من اليورانيوم الخالي من الشوائب والمستخدم في صنع وقود المفاعلات النووية.
فهل أصبحت المفاعلات النووية السعودية على أهبة الاستعداد للتشغيل؟ وما دلالات توقيت الإعلان الذي يتزامن مع توجّس إقليمي من حرب تقودها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على البرنامج النووي الإيراني؟
عود على بدء، منذ سنوات لم تخفِ المملكة العربية السعودية طموحاتها في استخراج اليورانيوم وتخصيبه محلياً؛ ففي عام 2017 كشف مسؤول سعودي أن المملكة لديها رغبة في التوجه نحو الإكتفاء الذاتي في توليد الوقود النووي واستخدامه في برنامج الطاقة، الأمر الذي أكّده تقرير صحافي نشرته صحيفة “ذي غارديان” البريطانية في عام 2022 كاشفاً أن السعودية لديها كميات كافية من اليورانيوم لإنتاج الوقود النووي. وقالت الصحيفة إن معلومات سرية اطلعت عليها تعزز المخاوف من وجود اهتمام سعودي بإطلاق برنامج لإنتاج السلاح النووي.
وفي خلال منتدى عالمي للمعادن والتعدين عُقد في الرياض عام 2022، قال وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان “إن هناك كمية هائلة من موارد اليورانيوم الموجودة في بلاده، بحيث ترغب المملكة في استغلالها لتحقيق دخل تجاري منها”.
إذًا وقتذاك كانت مجرّد تصريحات لكن يبدو أنها ستتحوّل إلى واقع قريباً، ذلك أن الوزير نفسه خرج بتصريحات جديدة ليؤكد من خلالها توجّه الرياض إلى تخصيب اليورانيوم وبيعه وإنتاج ما يعرف بـ”الكعكة الصفراء”، غير أن اللافت أن المملكة لم تحدّد سقفاً لطموحاتها النووية، خصوصاً أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قال في عام 2018 “إن المملكة ستطوّر أسلحة نووية إذا ما أقدمت إيران على ذلك”.
يأتي هذا الانفتاح السعودي حول تخصيب اليورانيوم بعد أن أعلنت الرياض العام الماضي عن توجّهها لإلغاء نظام الرقابة على منشآتها النووية من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. فهل تكشف الفترة المقبلة عن ملامح الطموحات النووية السعودية؟!
في أي حال من الأحوال يمكن اعتبار هذا الاعلان بمثابة جس النبض ليس بالنسبة للولايات المتحدة فحسب، بل أيضاً للعواصم الكبرى، بمعنى أن هناك طموحات نووية لدى السعوديين، لكن ما ينبغي التأكيد عليه أن فكرة هذه الطموحات في المجال السلمي لا يمكن فصلها أو عزلها عن السياق الأميركي-السعودي، وإذا ما استحضرنا المفاوضات التي جرت على مدى أكثر من عام، خصوصاً في خلال شهري نيسان/ أبريل وأيار/ مايو من العام المنصرم، بدا أن هناك خطوطاً ساخنة بين واشنطن والرياض سعياً لتحقيق مجموعة من المطالب السعودية على غرار توفير الولايات المتحدة الغطاء الأمني للمملكة من خارج حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي لاقى رفضاً أميركياً، فضلاً عن الطموحات النووية والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي… إذًا لا زالت المسألة تواجه حزمة من المتغيرات غير الثابتة، بحيث أن إعلان الرياض لا يمكن اعتباره بمثابة الخطوة النهائية وإنما يندرج تحت ما يمكن وصفه بالمناورة الاستباقية التي تمهّد لتساؤلات وتأويلات ربما حول إمكانية انفتاح السعودية خصوصاً وإقليم الخليج العربي عموماً على العصر النووي السلمي الذي دونه مسافة بعيدة مصحوبة بشروط وشروط مضادة من قبل كل من الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية.
كما أن هناك من يرى أن الطموحات السعودية في هذا المجال كبيرة جداً وتحاول أن تتفادى تحديد سقف طموحاتها النووية عقب اتفاقية الذرة من أجل السلام التي وقعتها الرياض مع واشنطن في العام 2008، الأمر الذي يعيدنا بالذاكرة إلى بداية برنامج إيران الذي انطلق في خمسينيات القرن الماضي عقب خطاب الرئيس الأميركي السابق دوايت أيزنهاور تحت عنوان “تسخير الذرة من أجل السلام” أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1953، مما أدى إلى توقيع الشاه محمد رضا بهلوي اتفاق تعاون مع الولايات المتحدة عام 1957، حصلت طهران بموجبه على مساعدات نووية فنية من واشنطن.
في المقابل، تؤكد مصادر سعودية أن الأسباب الكامنة خلف توقيت إعلان الرياض تنطوي على أبعاد اقتصادية وبيئية لجهة اكتشاف كميات كبيرة من اليورانيوم الذي تضاعفت أسعاره العالمية أربع مرات، فضلاً عن حاجتها الملحة لاستخدام الطاقة المتجددة والنظيفة، إلا أن هناك مفارقتين تطفحان على السطح:
الأولى، تدرّج الخطاب السعودي ما بين العام 2022 و2025 من مبدأ تخصيب اليورانيوم إلى الترويج له وبيعه إلى الأسواق الأخرى يتجلى من خلال انفتاح الرياض على فكرة الطموحات النووية وتشييد مفاعل نووي لطالما كان مرتبطًا بالتنافس مع إيران وما يشكّله برنامجها النووي من تهديد للأمن القومي السعودي، الأمر الذي أفضى إلى نقاش حاد بين الرياض والعواصم الغربية، ولكن مع انعدام العدائية السعودية-الايرانية إذا جاز التعبير بعد الدور الذي لعبته الصين في هذا السياق بات من الصعب على السياسة وربما الديبلوماسية السعودية العودة إلى السردية ذاتها لاستكمال الطريق في مشروع البناء النووي.
الثانية، توقيت إعلان نوايا الرياض النووية والتي قبيل أسبوع من دخول ترامب البيت الأبيض، إذ يبدو هناك اعتقاد سعودي سائد، مفاده أنه ما دام لم تتمكن الرياض من تحريك المياه الراكدة في هذا الملف إبان إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، فالفرصة باتت سانحة اليوم بناء على العلاقة الشخصية الجيدة التي توّجت ولاية ترامب الأولى بالأمير بن سلمان، علماً أن “الترامبية” الجديدة تختلف تماماً عن نسخته الأولى، وبالتالي لا يمكن استسهال المسألة الآن إلا إذا كانت هناك صفقات سخية جداً.
في المحصلة، لا يمكن التوصل إلى تحليل وفهم نهائيين إلى أين يمكن أن تتجه الرياض بمشروعها النووي للأغراض السلمية دون الأخذ بعين الاعتبار متغيرات أخرى… ولا شك أنه مجرد دخول ترامب البيت الأبيض ستنفتح الصفقات، ولكن تبقى “الكعكة الصفراء” السعودية بانتظار الضوء الأخضر من الترامبية الجديدة!
*الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة “النهار” الإعلامية