يمتد الزمن الجغرافي، حسب المؤرخ الفرنسي برناند بروديل، طويلا، ويؤثر على الحضارات والثقافات التي تتلاحق بعده، وتستغرق أجيالا عديدة، ويقدم هذان الزمنان، الجغرافي والحضاري، تفسيرا أعمق للأحداث السريعة التي نشهدها، والتي يمكن لتفاصيلها ان تشوشنا بحيث تمنعنا من رؤية علاقة ما يحصل حاليا بتلك الطبقات الجيولوجية والحضارية السابقة عليها.
لكن هل يمكننا، على ضوء هذا المنهج الآنف، أن نعتبر ما يحصل من أحداث تاريخية وما نراه فيها هو «زمن السطحيات والمظاهر الخادعة»، كما يصف بروديل الأحداث المباشرة التي نعيشها، وكيف؟
بدأ دخول الإسلام إلى سوريا في عهد الخليفة أبي بكر الصديق، وانتقل من صد هجمات الروم إلى معارك الفتح التي كان أشهرها معركة اليرموك الفاصلة، واجتمعت خلالها أربعة جيوش ترأسها خالد بن الوليد، وقاد اثنين منها يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص (إضافة الى شرحبيل بن حسنة وعبيد الله بن الجراح)، وضمت جيوش البيزنطيين في تلك المعركة أعراقا كثيرة منها الروس والسلاف والفرنجة والإغريق والجورجيون، وقادها ملك أرمينيا بجيشه، فيما قاد جبلة بن الأيهم (ملك الغساسنة) جيوش النصارى العرب. بهذا المعنى، كان ذلك الصراع بين حضارتين وثقافتين كبيرتين. انحسم الصراع لصالح العرب المسلمين الذين بدأوا، بعدها بتأسيس حضارتهم، التي حسمت الوجه الديني، واللغوي، والثقافي لبلاد الشام ومصر وشمال افريقيا، لكنها كانت، رغم انتشارها الكبير، حضارة قابلة للتساكن والتعايش مع عناصر حضارات وثقافات ولغات أخرى أقدم، أو أجدّ.
ولي معاوية بن أبي سفيان، الشام (والعراق) سنة 21 للهجرة، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، بعد وفاة أخيه يزيد (وهما أخوان لأم حبيبة زوجة الرسول محمد (ص)، وابنا عمة الخليفة عثمان بن عفان)، وحكمها عشرين سنة، قبل أن يصبح خليفة على المسلمين. طبع حكم معاوية، والعصر الأموي الذي أسسه، سوريا بالطابع الثقافي ـ الحضاري العابر للأجيال، الذي تحدث عنه بروديل، وذلك بجعلها، لأول مرة في تاريخها، عاصمة لامبراطورية الإسلام الشاسعة (التي وصلت في عهد عبد الملك بن مروان إلى الأندلس)، وكان أهل الشام، في مجمل هذه الحقبة، أعوانا للأمويين في خصوماتهم الخطيرة، وأهمها منازعة معاوية، علي بن أبي طالب، على الخلافة، ثم حرب ابنه يزيد مع الحسين بن علي، التي أدت إلى ظهور شيعة عليّ (الموالين له)، ثم من رفضوا الانحياز للطرفين (الجماعة التي تطورت إلى مذهب الإباضية)، فـ»أهل السنّة والجماعة» الذين حاولوا حل التناقضات بين الأمويين والعلويين عبر الاتفاق على الخلفاء الراشدين (أبو بكر، عمر، عثمان وعلي)، ثم خرجت طوائف أخرى أصغر كالزيديين، والإسماعيليين، وتبعتها طوائف غادرت المدارس التقليدية الإسلامية بشكل واسع، كالعلويين (النصيريين)، والموحدين (الدروز).
روح الطاعة التي تحلى بها الشاميون!
يقول أنيس زكريا النصولي، في كتابه «الدولة الأموية في الشام»، إن معاوية اعتمد على قادة جلهم مكيون قدموا شبانا الى سوريا أثناء الفتح، فـ»شيدوا دولته» وأوصلوا الإمبراطورية إلى أرمينيا والأناضول ومصر وافريقيا، وكان اليمنيون «أعظم جند أهل الشام»، ومدد جيشه الرئيسي، كما اعتمد على القيسيين الذين كانوا أقلية، وامتزجت هذه القبائل مع سكان سوريا فـ»رقت عقليتهم ونمت أفكارهم»، فـ»نزعوا عنهم ثوب البداوة»، وأصبح أبناؤهم يرون في سوريا وطنهم، ويكرر النصولي مرات كثيرة فكرة الولاء الذي محضه أهل الشام لمعاوية، فيقول، إن «مما جعل لمعاوية النصيب الأوفر في النجاح إبان المفاوضات (مع علي) هو روح الطاعة التي تحلى بها الشاميون».
يقول نقولا زيادة، في كتابه البديع «لمحات من تاريخ العرب»، إنه «كان من حسن حظ الديار الشامية، أن عيّن حاكما لها معاوية بن أبي سفيان» فهو الذي اقترح على الخليفة عمر بن الخطاب، أن يغزو قبرص، لكن عمر أبى ذلك على عامله، فلما ولي الخلافة عثمان بن عفان، «ألحف (معاوية) في الطلب، فأذن له الخليفة».
أظهر معاوية، بهذه الانتقالة الاستراتيجية، استيعابا للزمن الجغرافي حيث قام بجمع صحراء وساحل الشام، في توحيد لدول المدن الداخلية (مثل دمشق والرقة ودير الزور وحمص والقدس وبيت لحم وإربد وعجلون) التي تصل الشام بالعراق وشبه الجزيرة العربية، مع مدن البحر (صور وعكا، اللتين صارتا مركزا صناعة السفن الأموية، وصيدا وطرابلس وطرسوس واللاذقية) التي كان مجالها الحيوي، منذ عهد كنعان وفينيقيا ممتدا نحو شمال افريقيا وجزر المتوسط وسواحل إيطاليا وشبه جزيرة ايبيريا.
كيف استمر العلويون في أوساط معادية؟
يقول بحث منير شحود وسامر عيسى، «نشأة الفرقة النصيرية/ العلوية وتبلور عقيدتها» إن فرق الغلاة في العراق منذ أواخر القرن السابع الميلادي شكلت الأساس العقائدي لهذه الفرقة التي طورت خطا راديكاليا يقطع مع الإسلام الأرثوذكسي السني والشيعي، والمتأثر بالثقافات الفارسية واليونانية، فأصبح لها لاهوتها المميز «الذي منحها هوية فريدة مكنتها من البقاء والاستمرار في أوساط إسلامية مناوئة ومعادية»، وأن طقوسها وتشريعاتها وأعيادها تبلورت في القرن 11 الميلادي. خرجت هذه الدعوة من موطنها الأصلي في العراق، وانتشرت في معاقل جبلية منعزلة شمال غرب سوريا، وانقسم العلويون جغرافيا إلى أهل الساحل، المنفتحين، وأهل الجبل، الأكثر محافظة وتمسكا بالاستقلالية (والذين يتقاسمون الجبل مع التركمان والأكراد)، وثمة انقسام بين شمال وجنوب (أو ما يسمون بالكلازية والحيدرية).
على المستوى الديني اتخذ العلويون «التقية أسلوبا في التخفي في أوساط دينية معادية»، وافترقوا عن الشيعة، حسب حسان القالش، «بسرية تعليماتهم وباطنيتها»، واعتبارهم أن للدين ظاهرا للعامة وباطنا للصفوة. أما على المستوى الاجتماعي فاتبعوا «نمط حياة فلاحي لا يضع الطائفة في منافسة حكام المدن والقلاع». توفر هذه الحيثيات الجغرافية والثقافية الضاربة في عمق تاريخ المنطقة وسوريا خصوصا منهجا لتفسير الأحداث الحالية التي حسمت نفوذ العلويين الكبير في التاريخ السوري الحديث، مع استيلاء حافظ الأسد على السلطة عام 1970، وصولا إلى الحدث الحالي الذي شهد سقوط ابنه بشار.
يذكُر عنوان كتاب القالش، «قطار العلويين السريع: الوعي السياسي عند العلويين النشأة والتطور (1822-1949)» أيضا بفكرة بروديل حول «الزمن السريع للأحداث»، فكيف نجد في حكم العائلة الأسدية الطويل وسقوطها تصديقا لمنهج المؤرخ الفرنسي حين نعرضها على خلفية المشهد العريض لتاريخ سوريا ضمن زمنيها القديمين، الجغرافي والثقافي؟
أعاد سقوط الأسد، في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، عموم السوريين، وبغض النظر عن اختلافاتهم السياسية، إلى استخدام الرأسمال الرمزي الكبير للأمويين، بدءا من تجمعهم في «ساحة الأمويين»، إلى استعادة علم الاستقلال، الذي كانت تقوده نخب مرتبطة رمزيا وعاطفيا بالحقبة الأموية، وتحولت زيارة المسجد الأموي، إلى أحد طقوس السوريين العائدين من المنافي.
شرحت مقالة سابقة لي بعنوان «لماذا انحاز أئمة السنة المؤسسون للعلويين؟» كيف تعرّض مؤسسو المذهب السني الكبار، أبو حنيفة، والشافعي، وابن حنبل، لأشكال من الاضطهاد من خلفاء أمويين وعباسيين على خلفيات تعاطفهم مع علي بن أبي طالب وآله، وهو ما يمكن اعتباره تعبيرا واضحا عن نزوع شديد الأهمية داخل المذهب السني، ساهم في جعله مذهب الأكثرية، وهو نزوع الخروج من الصراعات التي جرت في الحقبة التأسيسية للإسلام، وأدت إلى مقتل آلاف الصحابة والقراء والتابعين، عبر المصالحة بين الاختلافات والتناقضات، بحيث كان لعلي، وآله عموما، المكانة الكبرى التي يبجلها السنة، بالسوية نفسها التي يملكها الخلفاء الراشدون الآخرون.
يمكننا هنا وضع أطروحة تحتاج بحثا للبرهان عليها وهي أنه ضمن هذا السياق التاريخي – الثقافي العريض، اعتبار ما حصل في سوريا، في دائرة مهمة منه، مواجهة بين الوعي السياسي العلوي الذي تطور بقوة خلال فترة الاحتلال الفرنسي، عبر إنشاء دولة علوية، ثم تجلى بشكل شديد العنف في عهدي حافظ الأسد وابنه بشار، ما أدى إلى نشوء «وعي سني» مضاد، ساهم في إسقاط النظام.
وفي هذه الحالة، وبالحديث عن «المظاهر الخادعة والسطحية» للتاريخ، هل يمكن اعتبار أن هذا «الوعي العلوي»، كان أشد عمقا من أيديولوجيات الأحزاب الوطنية التي نشأت بعد الاستقلال، مثل حزب «البعث»، وأنه استخدامه المفاهيم السياسية الحديثة، مثل العلمانية والتقدم والاشتراكية، كانت أقنعة للوصول والتثبت في السلطة، وهو ما يمكن أن يندرج ضمن تحليلات كتّاب مثل نيقولاس فان دام حول الطائفية والإقليمية والعشائرية في سوريا، وميشيل سورا حول «الدولة الهمجية»، ويفسّر، ضمن قضايا عديدة، لماذا تحوّلت الدولة السورية، في عهدي الأسدين، إلى دولتين، ظاهرة، تطبق القوانين، وباطنية فالتة من أي عقال قانوني.
إحدى الإشكالات الكبيرة لهذا الصراع أنه انعكس سلبا على وعي أهل السنة السوريين أنفسهم، فشهدنا أطوار التغوّل السلفيّ من «القاعدة» إلى تنظيم «الدولة»، وتحولوا إلى عصبية تتواجه مع عصبية، مما يحتاج وقتا طويلا للعودة إلى «الحالة الطبيعية» للوعي الإسلامي المنفتح، والمتصالح مع نفسه ومع العالم، وصولا إلى وعي وطني سوري يضعف توتر العصبيات، والأحقاد التي تراكمت.
كاتب من أسرة «القدس العربي»
كلمات مفتاحية
حسام الدين محمد