انتشر فيديو على شبكات التواصل الإجتماعي تحت عنوان “هنا الضّاحية”، تظهر عشرات الدراجات النارية لحزب إيران وحركة أمل في لبنان، تجوب شوارع الضاحية. وقد بلغ الاستعراض مناطق أخرى خارج الضاحية بمظهر سياسي استفزازي. كما أنّه شكّل جزءاً من استعراض قوة شكليّة في عملية الهجمة الأهلية نحو الجنوب مع انتهاء مهلة الشهرين المتّفق عليها باتفاق وقف النار.
لم يبق أحد لم ينتقد هذا الاستعراض. فهو في الواقع عمل سياسي استفزازي بقصد استعادة هيبة مفقودة للثنائي الحزبي على الساحة الداخلية، وليس مجرّد تعبير ديموقراطي عن رأي في شأن عام. ردّت إسرائيل بتحذير الناس من مغبة الانجرار إلى هذا الاستعراض الفوضوي. كان ذلك عملاً خبيثاً لتبرير سياستها الدموية أمام الرأي العام الدولي. ولم يكن خافياً أمام السلطة السياسية والذين أصدروا التكليف الشرعي أن إسرائيل لا تتردد بقتل المدنيين، هذا تاريخها. وبالفعل سرعان ما صفعت إسرائيل الثنائي الحزبي بحقيقة الواقع، عندما استقبلت الأهالي العائدين بالرصاص فقتل من قتل، وجرح من جرح. مرّة أخرى، دفع أهالينا الذين يملأهم الصخب الطائفي، فاتورة الفوضى الفكرية لقادة حزب إيران في لبنان، وقادة حركة أمل.
نحن مع أهلنا في الجنوب. نريد بكل صدق أن يعودوا اليوم قبل الغد، إلى بيوتهم. لكنّنا ندرك أن الواقع ليس مسألة تمنيات، وخطابات رنانة، وعبارات مجاملة من هنا وهناك، بل هو حساب دقيق يحتاج إلى رجال دولة، وقادة رأي، يقولونه بصراحة ومن دون مواربة. لقد أزعجنا وأحزننا موقف السلطات الذي ما زال متجمداً في الماضي. كان من الضروري أن تمسك السلطات بزمام الأمور ليس دفاعاً عن منطق استعادة سلطانها وسيادتها أمام الهيئات الدولية التي تراقب الواقع فحسب، بل أيضاً دفاعاً عن الوحدة الوطنية والمواطن الجنوبي نفسه الذي هو ضحية للغوغائية الطائفيّة والسلطويّة لقادة الحزب الإيراني وحركة أمل.
إجراءات رئيس مجلس النواب ومواقفه الراهنة، لا تسهم بتحويل حماسة بيئة الحزب الإيراني الإيديولوجية الفكرية الخاضعة لمدرسة الولي الفقيه والتكليف الشرعي، إلى عمل سياسي وطني. جلّ ما حصل أنّهم حولوا حماستهم الإيديولوجية إلى حماسة طائفية، أدى إلى تظهير الحماسة الطائفية في بيئة حركة أمل، حركة المحرومين. هذا ما أظهره الاستعراض الاستفزازي وصرخات “شيعة شيعة” الذي شهدناه في الضاحية الجنوبية. كانوا يقولون “هنا بيروت أم الشرائع”، أما بعد هذه الإستعراضات، فسيقولون “هنا الضاحية أم الصخب الطائفي”.
يدرك الرئيس برّي أن لا عودة إلى الماضي. لكنّه ما زال يسعى إلى تكريس قاعدة للمستقبل تقوم على تكريس المحاصصة الطائفية. جاءت ظاهرة الاستعراض لتخدم سلطانه الطائفي، وكذلك سلطان قادة البلاد الآخرين القائم على مبدأ المحاصصة في الحكم من منطلق التوافق الطائفي. لكنّ تحوّل الاستعراض إلى عمل استفزازي للمكوّن المسيحي وخاصّة في بيئة القوات اللبنانية والكتائب، أخذ البلاد إلى حافة الحرب الأهليّة. أزعج هذا الأمر، مواقع القوى الإقليمية والدولية. تراجع الرئيس بري، وسارعت حركة أمل إلى تحذير أعضائها من مغبة المشاركة في مثل هذه التظاهرات.
يستوجب هذا التحرك الاستفزازي للثنائي الحزبي، موقفاً واضحاً وصريحاً من الذين يرغبون في التغيير والإصلاح، والعودة لتنفيذ أحكام الدستور. ثمّة صراع حقيقي بين الساعين إلى بناء وطن للغد، والتقليديين الراغبين في استمرار قواعد الماضي. برزت مواقف كافية من عشرات الكتّاب والمفكّرين تبيّن أنّ الخيارات الوسطيّة غير ممكنة. لن يمكن بناء دولة مدنية وفقاً للدستور على أساس قواعد الماضي القائمة على المحاصصة الطائفيّة. بناء الغد للبنان ليس نزهة بل هو معركة بين الألغام. لكن يجب أن يقتنع الرئيسان عون وسلام بأنّ كلّ تلك الألغام فقاعات هوائيّة أمام حقيقة القوّة الفاعلة التي لديهما سواء نتيجة الدعم الشعبي الكبير لهما، أو نتيجة الدعم الإقليمي والدولي الحاسم لمسار الإصلاح.
ومن جهة أخرى، تبيّن هذه الحركة الاستعراضية عمق استخفاف الثنائي الحزبي بقاعدة المساءلة في النظام اللبناني. تعوّدنا كثيراً على أن لا يقيم السياسيّون حساباً لتصرّفاتهم. ففي لبنان، لا حساب للمسؤول عن أخطائه. والتهرّب من المسؤولية لا ينطبق فقط على فساد السياسيين المالي، بل أيضاً على فسادهم السياسي. هذا الأمر، يخالف مبدأ أساسياً من المبادئ الديموقراطيّة. لكن عدم المحاسبة في لبنان لا يقوم بسبب خلل في النظام الدستوري الديموقراطي، بل بسبب طغيان العامل الطائفي على أيّ محاولة لتحقيق المحاسبة.
يتحدث بري عن وجوب إعادة إعمار ما هدّمته إسرائيل. هذا شأن سياسي وليس إنمائياً. ففيما نرى النظر إلى موضوع التنمية في الجنوب والضاحية والبقاع من منطلق مشروع وطني واحد يساوي في التنمية بين المناطق اللبنانيّة بأسرها، فلا يخضعها لاعتبارات الحرب، نرى أنّ من الضروري أن يتحمّل الذين خاضوا ما سمّي حرب الإسناد من دون قرار وطني، مسؤوليّة عملهم. لن نقبل برهن الاقتصاد اللبناني، والإرادة السياسيّة اللبنانيّة بغية الاستدانة لإعادة إعمار ما هدّمته قرارات سياسية مغامرة لما سمّي المقاومة. من الضروري مساءلة الذين خاضوا تلك الحرب. هم الذين يجب عليهم تعويض الناس والوطن. نحن نطالب ونكرّر المطالبة، بمحاسبة إيران أمام محكمة العدل الدوليّة، وإلزامها بدفع التعويضات الضروريّة لأهل الجنوب، وللبنان، للخسائر التي لحقت بهم من جرّاء عدوانها المستمر على سيادة البلاد، وتدخّلها غير المشروع في شؤون لبنان الداخليّة.
وفيما يقبع رئيس وزراء إسرائيل السابق أولمرت، في السجن بسبب رشوة، ينعم المسؤولون في لبنان بمليارات الدولارات المنهوبة من خزينة الدولة، ومن الرشى المحليّة والخارجيّة، ومن التهرّب من الضريبة، دون مساءلة. لا، لأيّ محاولة للسماح بالتهرّب من المسؤوليّة. نتوقّع من حكومة من كان في موقع رئيس محكمة العدل الدوليّة، عدم السماح بالتهرّب من المسؤولية. يجب إقامة سلطة حكوميّة تعيد بناء الثقة بالإدارة اللبنانيّة، وبالقضاء الوطني والعدالة. يجب الدفع بمحكمة مختصة لمساءلة الفاسدين بدءاً من رؤساء الجمهوريّة السابقين، ورؤساء الحكومة، والمجلس النيابي، والوزراء وكلّ من أمسك بموقع عام، وذلك بناءً على قاعدة من أين لك هذا.