لأسبابٍ مختلفة، لا يبدو أن محاولات فك الارتباط بين الولايات المتحدة والمنطقة العربية تملك أي فرصة للنجاح. ورغم أنها جغرافياً بعيدة عنها، إلا أن المنطقة العربية تستأثر، لأسباب متعددة، ومتغيرة معا، باهتمام أميركي كبير ومستمر منذ مطلع القرن التاسع عشر في إطار علاقة معقدة تختلط فيها مشاعر متناقضة. والمعروف أن أول مواجهة عسكرية خاضتها الولايات المتحدة بعد استقلالها عن بريطانيا كانت مع والي ليبيا العثماني عام 1801 بعدما رفضت السفن التجارية الأميركية دفع رسوم عبور في أثناء مرورها في خليج سرت. إضافة إلى المصالح التجارية المتنامية، اهتمت البعثات البروتستانتية الأميركية خلال القرن التاسع عشر، خصوصا في نصفه الثاني، بالعمل في الساحل السوري الممتد من انطاكيا شمالا إلى رفح جنوبا. وفي الربع الأول من القرن العشرين، صار النفط عامل الجذب الرئيس للشركات الأميركية في المنطقة، خصوصا بعد اكتشافه بكميّات تجارية في إيران أولا (1908)، ثم في بقية دول الخليج العربية. في النصف الثاني من القرن العشرين ظهر عاملان إضافيان جعلا الشرق الأوسط يحتل رأس اهتمامات الولايات المتحدة العالمية: أولهما اندلاع الحرب الباردة ابتداء من عام 1947، ثم قيام دولة إسرائيل بعد عام. ورغم أن تحول إسرائيل إلى حليف وثيق، ومصلحة عليا للولايات المتحدة، كان عليه أن ينتظر عقدين آخرين (حتى حرب 1967)، إلا أن الصراع مع الاتحاد السوفييتي كان كفيلا بوضع منطقة الشرق الأوسط في قلب حسابات سياسة الاحتواء التي بدأ العمل بها في إدارة هاري ترومان الثانية (1949 – 1953).
مع احتواء إيران بنهاية الحرب مع العراق (1988)، وسقوط جدار برلين (1989)، وإسدال الستار على الحرب الباردة، ثم انطلاق مؤتمر سلام مدريد بين العرب وإسرائيل (1991)، عقب هزيمة العراق في حرب تحرير الكويت في وقت سابق من العام نفسه، تغيرت طبيعة المصالح الأميركية في المنطقة، تلاشت التحديات لها، وانحدر نسبيا مستوى الاهتمام بها. عندما جاء جورج بوش الابن إلى الحكم في مطلع عام 2001، كانت عملية السلام قد انهارت مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، المعروفة باسم “انتفاضة الأقصى” بعد زيارة شارون الاستفزازية للمسجد الأقصى (سبتمبر/ أيلول 2000)، وبدأ التركيز الأميركي يتجه بعيدا عن المنطقة نحو شرق آسيا. لكن هجمات سبتمبر 2001 أعادت أميركا إلى المنطقة مرغمة، فغزت أفغانستان (2001)، ثم العراق (2003)، وانخرطت في حرب مفتوحة على الإرهاب استنزفت فيها مقدراتها ودمرت أجزاء واسعة من العالم الإسلامي. في عام 2008، أي منذ الأزمة المالية العالمية، قرّرت الولايات المتحدة أنه يجب أن تخرج من منطقة الشرق الأوسط بأي ثمن وإلا تواجه الانهيار. بدأ أوباما بناء عليه الانسحاب من العراق، ووضع جدولا زمنيا للانسحاب من أفغانستان، لكن ثورات الربيع العربي عاجلته، فدفعته أولا إلى التدخل عسكريا في ليبيا عام 2011 لإطاحة نظام العقيد القذافي، ثم عاد بقوة أكبر بعد ذلك للقضاء على “دولة الخلافة” التي أعلن تنظيم الدولة الإسلامية إنشاءها في سورية والعراق عام 2014. وبانتهاء ولايتها في مطلع عام 2017 كانت إدارة أوباما منخرطة عسكريا في الشرق الأوسط أكثر مما كانت عليه عندما وصلت إلى الحكم في مطلع عام 2009. ورغم كل مناوراته لتحقيق مكاسب اقتصادية من علاقات بلاده بالشرق الأوسط، إلا أنه لم يكن هناك رئيس أميركي أكثر رغبة من دونالد ترامب في فك ارتباط بلاده بالمنطقة والتركيز على الداخل الأميركي. فاتخذ قرارا بسحب القوات الأميركية من سورية عام 2019، قبل أن يتدارك البنتاغون الأمر، ثم قرر بعد ذلك أن يترك السعودية تواجه وحدها نتائج الهجمات التي تعرضت لها منشآت أرامكو في بقيق وخريص في سبتمبر عام 2019، في محاولة منه لتجنب انخراط أكبر في المنطقة. ورغم اختلافه مع ترامب في كل سياسة داخلية وخارجية تقريبا، إلا أن الرئيس بايدن سار على نهج ترامب لجهة تخفيض التزامات بلاده بمنطقة الشرق الأوسط إلى درجة تجاهلها تماما، لكن الحرب في غزة، أيقظته على حقيقة أن لا أحد في واشنطن بمقدوره أن يتظاهر بأن كل شيء يسير على ما يرام في المنطقة، فيما هي تحترق فعليًا.