يرى مؤرخون أن تاريخ الإنسانية مبني بالأساس على القصة والحكي أو على الروي، وأن تطور الحضارات والثقافات والفنون والفلسفة والعلوم مرتبط بالقصص والحكايات، كونها تفتح المجال واسعًا أمام الخيال الإنساني، الذي يعتبر أهم أسباب تطور البشر، وتنمية قدرتهم على الابتكار والتطور. وثمة طريقتان لسرد الروايات التاريخية، أولاهما سردية شمولية، تعنى بالإحصاءات والأرقام وبالإنجازات المادية، ولا تكترث بالبشر، بقدر ما تهتم بالحجر. ووفق منطق هذه السرديات، لا يهم حياة البشر سوى عائلاتهم وأصحابهم، بوضعهم مجرد جمل اعتراضية في السياقات التاريخية التي تسحق ذواتهم وأحلامهم لصالح السرديات الكبرى، القومية، والدينية، والتصورات الرمزية المجردة، والأساطير المؤسسة. وينحاز أحمد عبد ربه، في كتابه “حكايات في تاريخ مصر الحديث: من نابليون ومحمد علي إلى حريق القاهرة” (القاهرة، دار الشروق، 2024)، إلى الطريقة الأخرى، التي تهتم بالبشر وأحوالهم، وتعتمد على الحكي والروي في الكتابة عن التاريخ، وتقديم سرد شيق، يجمع بين الدقة العلمية واللغة الأدبية السلسة، بغية الوصول إلى رؤية جديدة في تناول الأحداث التي شكلت مسار التاريخ الإنساني. ووفق هذا المنطلق يقدم المؤلف قراءة في التاريخ المصري منذ الحملة الفرنسية على مصر وحتى انتهاء الملكية فيها، بالاعتماد على مجموعة من الحكايات المتصلة، محاولًا تقديم إجابات عما إذا كان تاريخ مصر الحديث هو تاريخ الأسرة العلوية التي بدأت مع حكم محمد علي مصر بعد أن ثار على الحكم العثماني، أو أنه يستلزم النظر في تاريخ مصر المملوكي والعثماني الذي لا يقل أهمية عن تاريخ الأسرة العلوية، لأن كل التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي بدأت منذ الحكم العثماني لمصر هي التي مهدت لنهضة مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين المنصرمين. وهي إجابات تستند إلى مصادر موثوقة وتحليلات عميقة. إصافة إلى أن المؤلف يسعى إلى تقديم إجابة عما تعنيه التنمية، التي تعني تنمية الأرض والبنية التحتية والمؤسسات التي لم تمتد بعد إلى الشعب نفسه، فالتنمية البشرية في معظم مراحل مصر التاريخية ما زالت غائبة عن معادلة التنمية والتحديث.
“ينفتح الكتاب على المرحلة التي حكم فيها الباشوات العثمانيون مصر قبل الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، حيث كانت مصر مرتعًا للمكيدات والمؤامرات والصراعات”
ينفتح الكتاب على المرحلة التي حكم فيها الباشوات العثمانيون مصر قبل الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، حيث كانت مصر مرتعًا للمكيدات والمؤامرات والصراعات بين العثمانيين والمماليك، وكان الحكم العثماني في تلك الفترة مجرد خراب للبلاد، فلم يطور أو ينهض العثمانيون بمصر بل اكتفوا بنهب ثرواتها. إضافة إلى أنها عانت من النزاعات الطائفية. وظلت الأوضاع على ما هي عليه إلى أن استعاد المماليك حكم مصر بقيادة علي بك في عام 1771، وقام بتطوير المشافي وطرق التجارة وإصلاح القضاء والمالية، كما أعاد سياسة تعيين الأقباط في المناصب العليا، لكن سرعان ما نشبت الخلافات بين القادة المماليك ووصلت إلى مواجهات عسكرية، وتحولت مصر إلى بلد مفكك تسوده الفوضى والفساد ومنهوب الثروات عشية وصول الفرنسيين، الذين دشنوا بوصولهم عهدًا من التطور والحداثة. وكان احتلال مصر بالنسبة إلى الفرنسيين يمثل الطريق الوحيدة من أجل حفظ تجارتهم في البحر الأبيض المتوسط، وبسط سيادتهم على البحر الأحمر، ومكنهم من مهاجمة إنكلترا في الهند، وإنشاء متاجر تنافس الإنكليز. وقد هزم جيش نابليون بونابرت جيش المماليك بقيادة مراد بك في معركة إمبابة في 21 يوليو/ حزيران 1798. ووضع نابليون في القاهرة نظامًا جديدًا للحكم اعتمد على أن تحكم المدينة بواسطة ديوان مشكل من 9 أشخاص (مشايخ) جميعهم من المصريين. وأعطى أوامر بأن يتمتع الديوان بصلاحيات تعيين قائدين للشرطة، وأن ينعقد الديوان يوميًا، وتقوم بحراسته قوة مشتركة من الحرس الفرنسي والحرس التركي، وذلك في إشارة إلى حرص نابليون على مغازلة الباب العالي العثماني. وقام نابليون بتثبيت الملكيات الخاصة للسكان ما عدا الماليك، ولم يمس بأوقاف المساجد والمعاهد الدينية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى القضاة والمحاكم الشرعية. وتمكن الفرنسيون من تطوير البنية التحتية في مصر، من خلال بناء الجسور والقناطر والترع والمستشفيات، وفرضوا ضرائب قاسية على المصريين. وارتكبوا تجاوزات عديدة بحقهم، حيث انتهك الجنود الفرنسيون حرماتهم، بل وعاثوا فسادًا في بلادهم. بالمقابل، حقق الفرنسيون إنجازات حضارية وثقافية وسياسية، طاولت مبادئ التنظيم السياسي الحديث عن طريق إنشاء مجالس المحافظات، إضافة إلى إنجازات علمية في كل مجالات العلم والفنون عن طريق البعثة العلمية التي رافقت حملة نابليون.
أحمد عرابي (Getty)
واضطر الفرنسيون إلى مغادرة مصر عام 1801، وفور خروجهم دخلت القوات الإنكليزية بحجة دعم وتثبيت الحكم العثماني فيها. ثم عاد الصراع بين المماليك والعثمانيين، ودخلت على خط الصراع مجموعة من القوات الألبانية تحت قيادة محمد علي، إضافة إلى عدد من القوى المحلية. وانتهى الصراع بسيطرة محمد علي على مقاليد الحكم، حيث عينه السلطان سليم الثالث واليًا على مصر في 18 يونيو/ حزيران من عام 1805، وذلك بعد أن ثار الناس فيها على الوالي العثماني خورشيد باشا، واستمر حكم محمد علي إلى 1848، وأطلق عليه بعضهم وصف “مؤسس مصر الحديثة”.
استكمل محمد علي ما بدأه الفرنسيون، حيث أنشأ الدواوين التي ضمت خبراء وأعيانًا كي يساعدوه في الحكم المحلي، وإدارة الشؤون الداخلية في مصر، وقضى على المماليك، وصادر مساحات كبيرة من الأراضي، وأحال الزعامات الدينية إلى التقاعد، وقيّد أنشطة التجار المحليين وجماعات الحرفيين. وعمل على تحويل ملكية معظم الأراضي الزراعية في مصر إلى ملكية الحكم، وأصبحت أرباح زراعتها تصب في خزينة الحاكم. كما قام بتحسين نظام الري في مصر، وأدخل محاصيل جديدة مثل القطن، وأعاد تنظيم الهيكل الإداري للحكومة لضمان الرقابة الصارمة على الاقتصاد. كما حاول بناء نظام صناعي حديث من أجل معالجة المواد الخام في مصر. إلى جانب إشادة مشاريع بنية تحتية طموحة، ومنها بناء القناة القديمة التي ربطت الإسكندرية بنهر النيل. وكان هدف محمد علي الرئيسي من خطط التحديث التي نفذها هو تمويل جيشه المتنامي، الذي بلغ عدد القوات بحلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر حوالي 130 ألف جندي، وأنشأ جيشًا من المصريين المجندين من طبقة الفلاحين ولكن بقيادات غير مصرية. وشكلت ثلاثينيات القرن التاسع عشر ذروة طموحاته التوسعية.
غير أن مصر شهدت تراجعًا عند انتقال الحكم إلى عباس حلمي بعد وفاة محمد علي، فتمّ إغلاق العديد من المصانع والمدارس، واستمر الاضطراب فيها إلى أن جاء الخديوي إسماعيل الذي فتح أبواب مصر على مصراعيها للقوى الأوروبية وخاصة فرنسا وبريطانيا، ولجأ إلى الاستدانة منها بشكل مفرط، ففقدت مصر إرادتها المستقلة، وباتت تابعًا للقوى الاستعمارية. وأفضى تزايد التردي في أوضاع المصريين إلى قيام ثورة أحمد عرابي، التي أجهضتها كل من إنكلترا وفرنسا، وانتهت باحتلال إنكلترا مصر.
“نشبت الخلافات بين القادة المماليك ووصلت إلى مواجهات عسكرية، وتحولت مصر إلى بلد مفكك تسوده الفوضى والفساد ومنهوب الثروات عشية وصول الفرنسيين”
لكن ثورة عرابي شكلت الموجة الأولية للحركة الوطنية الثورية المصرية، تلتها موجة ثانية قادها مصطفى كامل في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، واختلفت عن الموجة الأولى في كونها حركة مدنية سياسية وليست عسكرية، إلى جانب أنها كانت أكثر تنظيمًا ونضوجًا من ثورة عرابي. واستمرت الأسرة العلوية في حكم مصر إبان الاحتلال الإنكليزي وصولًا إلى الملك فاروق، فيما استمر الغليان السياسي والشعبي حتى عام 1952 الذي شهدت بداياته مظاهرات عارمة في القاهرة بعد مذبحة الإسماعيلية في 25 كانون الثاني/ يناير من العام نفسه، وخلالها وقعت أعمال نهب وسلب واحتراق العديد من الممتلكات الخاصة ومحطات الوقود، وهو ما أطلق عليه “حريق القاهرة”، الذي ما زال فاعله مجهولًا.
يتناول الكتاب فترات زمنية طويلة نسبيًا، تمتد حوالي قرنًا ونصف القرن، لكن ما يجمع بينها أنها تشكل فترة التأسيس الحديث في مصر كدولة لها مؤسسات وحدود وسيادة وشخصية قومية. وهي فترة غنية بكثير من الأحداث التي شكلت وعي الشعب المصري بالأرض والحضارة والحدود والسيادة والشعب. كما أن التنمية والتحديث للدولة ومؤسساتها وبنيتها التحتية لم تكتمل، لأنها لم تشمل بناء وتحديث الإنسان وتطوير قدراته وسد احتياجاته الأساسية، وكان للقوى الاستعمارية دور استغلالي للموارد المصرية لمصالحها الخاصة. ولعل الدرس المستخلص هو أن تطوير استراتيجية للتنمية والتحديث بمعناها الشامل في التنمية البشرية هو أمر لا بد منه للتطور والتقدم.
عنوان الكتاب: حكايات في تاريخ مصر الحديث: من نابليون ومحمد علي إلى حريق القاهرة المؤلف: أحمد عبد ربه
