تعاني الفلسفة في لبنان وفي المجتمعات العربيّة ما تعانيه العلوم الإنسانيّة الرخوة في المجتمعات الإنسانيّة قاطبة، من بعد أن هيمنت على الفكر العِلميّاتُ والتقنياتُ والصناعيّاتُ والسياسيّاتُ والاقتصاديّات. الرأي السائد اليوم في معظم البيئات العربيّة أنّ العلوم الإنسانيّة الرخوة، وفي مقدّمتها الفلسفة، ترفٌ فكريٌّ لا يفيد الإنسان في معترك التنافس العلميّ التقنيّ الاقتصاديّ المتفاقم. بيد أنّ الناس نسوا أنّ العلوم الإنسانيّة، ولاسيّما الفلسفة، تعتني بتقويم الإنسان في صميم كيانه وفي جميع أبعاده الحياتيّة. في هذا السياق، تنفرد الفلسفة برسالة أصيلة لا يستطيع أيّ عِلم من العلوم أن يزاحمها فيها أو أن يحلّ محلّها في مسعى الاضطلاع بها.
إذا أدركت المجتمعات العربيّة طبيعة هذه الرسالة، سارعت إلى الاعتناء بمقام الفلسفة وأفردت لها المنزلة الرفيعة التي تستحقّها. أوجزُ فأقول إنّ الفلسفة فنُّ التفكير السليم. يكفي أن ننظر في هذا التعريف حتّى ندرك خطورة الرسالة الحضاريّة التي تضطلع بها. ذلك بأنّ الناس يعملون ويجتهدون ويكدحون ويناضلون في سبيل غاية شريفة واحدة، عنيتُ بها إتقان فنّ التفكير المنطقيّ السليم. جميع المساعي التربويّة ترمي في جوهر مقاصدها إلى مساعدة الإنسان في اكتساب منطق التفكير الصحيح الذي يؤهّله ليدير شؤون حياته الوجدانيّة والشخصيّة والاجتماعيّة والمهنيّة والسياسيّة. لا ريب في أنّ مثل هذه الغاية تنطوي على أرفع ما يسعى إليه الإنسان، إذ إنّ الإنسان العاقل قادرٌ على تدبّر معاني الحياة، وإدارة شؤون المعيّة الإنسانيّة، ومعالجة مسائل الاضطراب العالميّ الثقافيّ العلميّ الاجتماعيّ السياسيّ الاقتصاديّ.
أعتقد أنّ رسالة الفلسفة تقوم على تزويد الإنسان الطرائق والمنهجيّات والوسائل والأدوات التي تمكّنه من استخدام عقله استخدامًا قويمًا صالحًا نافعًا. ومن ثمّ، حين يستخدم الإنسان عقله على هذا الوجه، أي حين يَعقل الوجود عقلًا منطقيًا صائبًا، فإنّه يستطيع أن يدبّر حياته أفضل تدبير، ولو أنّ الوجود ما برح يجابهنا بأشدّ التحدّيات إرباكًا وأعسر المساءلات إقلاقًا. لذلك ما برح الفلاسفة يذكّرون الناس بأنّ الكفاءة العقليّة الراجحة شرطُ النجاح في إدارة جميع حقول الحياة الإنسانيّة. لا عجب، من ثمّ، في أن نعاين الإخفاق الوجوديّ المحزن في مسيرة الإنسان اللبنانيّ والعربيّ المعاصر، فردًا وجماعة. إذا أخذنا المجتمع اللبنانيّ مثالًا على هذا التعثّر، أدركنا أنّ ما يحتاج إليه الإنسان اللبنانيّ إنّما يقتصر في مقام الضرورة الأولى على كفاءة استخدام العقل. ليس الانحلال في الأخلاق والفساد في الإدارة والاحتراب في المعيّة اللبنانيّة سوى الدليل على انحراف العقل في بنية الإنسان اللبنانيّ.
لا ريب في أنّ جميع العلوم الإنسانيّة مفيدة. ولكنّ الفلسفة، أمّ العلوم، تتناول الجوهر التأسيسيّ في الوعي الإنسانيّ، أي العقل الذي هو مرجع كلّ الملَكات والطاقات والانفعالات. ليس للفلسفة من حقل معرفيّ واضح الحدود والمعالم، كعِلم النفس الذي يعتني بتحليل اضطرابات الباطن الإنسانيّ ويجتهد في معالجتها، وعِلم الاجتماع الذي يتدبّر حركة المجتمعات وينظر في أسباب الظاهرة الاجتماعيّة التي تجعل الناس يلتئمون في بنية ائتلافيّة تعاقدية حرّة، وعِلم التاريخ الذي يتحرّى تطوّر الأزمنة ويستخرج قوانين الأحداث، وما سوى ذلك من علومٍ رسمت رسمًا واضحًا حدودَ اختصاصها المعرفيّ. أمّا الفلسفة فتُعنى حصرًا بتنشئة العقل وتهذيبه وتمكينه من استثمار طاقاته التحليليّة، بحيث يصبح التفكّر الفلسفيّ شرطَ الشروط في مزاولة أيّ عِلمٍ من العلوم الإنسانيّة والوضعيّة. حين أصرّ الفيلسوف الألمانيّ النقديّ إيمانويل كانط (1724-1804) على جرأة المعرفة، مستعيدًا القولة التراثيّة التي كان شاعر روما هوراتسيوس (65 ق.م.-8 ق.م.) قد أطلقها (sapere aude)، فإنّه رمى إلى حثّ الإنسان الأُروبّيّ على استخدام عقله استخدامًا سليمًا من أجل الفوز بأنوار المعرفة المنقذة من الضلال.
وعليه، يجب التذكير في هذا المقام بأنّ الفلسفة ليست ضربًا من ضروب عِلم النفس أو عِلم الاجتماع أو عِلم اللاهوت، بل عِلمُ اكتساب طرائق التفكير السليم وطورٌ من أطوار تنشئة الإنسان في جوهر قوامه. ذلك بأنّ عِلم النفس، على سبيل المثال، يُعنى بالباطن والداخل والشعور وعلاقة الوجدان بالجسد، في حين أنّ الفلسفة تعتني بتلقين أصول التفكير العقليّ السليم وتسهم إسهامًا جليلًا في صوغ المفاهيم والمقولات والاصطلاحات التي تُطوّر عمليّات التفكير وتُغنيها. إذا كان الأمر على هذا النحو، فإنّ الاستغناء عن الفلسفة في مجتمعات العالم العربيّ يعني الاستغناء عن العقل الحرّ. لا ينفعنا أن تتكاثر أعداد أصحاب الاختصاصات العلميّة والتقنيّة إذا ما أهملنا مقام العقل في بناء أسُس المعرفة، وابتكار اصطلاحات الفكر، ونحت القواعد المنهجيّة التي ينبغي أن يسترشد بها العقل الإنسانيّ.
ولكن كيف يمكننا أن نعزّز مقام الفلسفة في وعينا اللبنانيّ والعربيّ وفي مسلكيّاتنا الثقافيّة الاجتماعيّة السياسيّة؟ لن نستطيع أن ننقذ الفلسفة في مجتمعاتنا، أي أن نستعيد استخدام العقل الإنسانيّ السليم، إلّا إذا اعتمدنا بعض الإصلاحات التربويّة البنيويّة. لذلك ينبغي أن نسأل جميعنا: ما الوسائل الثقافيّة والتربويّة والاجتماعيّة التي تجعل الفلسفة ضرورةً حياتيّةً في الوجود اللبنانيّ والعربيّ المعاصر؟ الجواب سهلٌ بسيطٌ ومتطلّبٌ ملزِمٌ في الوقت نفسه: يجب أن نحوّل الفلسفة إلى اختصاص معرفيّ أساسيّ. كيف يتسنّى لنا ذلك؟
أودّ هنا أن أرسم بعض الاقتراحات: أوّلًا، ينبغي أن نعيد النظر في برنامج التنشئة الفلسفيّة في المدارس وفي الجامعات، بحيث يصبح مادّةً حياتيّةً مرتبطةً بأسئلة الإنسان المعاصر؛ ثانيًا، يجب أن نعتمد تدريس الفلسفة في المدارس في صفوف التنشئة الإعداديّة، أي منذ نعومة الأظافر؛ ثالثًا، من الضروريّ أن تخرج الفلسفة من أقسامها الجامعيّة وتقتحم جميع الاختصاصات الأكادِميّة، بحيث تضحي مادّةً إلزاميّةً في جميع سنوات الإجازة والماستر؛ رابعًا، من المفيد أن تُشرّع الدول العربيّة إنشاءَ مراكز الاستشارات الفلسفيّة التي لا تزاحم العيادات النفسيّة، إذ إنّ الاستشارة الفلسفيّة تتناول كيان الإنسان بكلّيّته وتعهد إلى العقل بمسؤوليّة إرشاد الناس إلى هويّتهم الذاتيّة ومقامهم ودعوتهم في الحياة؛ خامسًا، من الضروريّ أن نستحدث وظيفة المرشد الفلسفيّ الذي يمارس دوره في المؤسّسات والإدارات والمصانع والمعامل والمستشفيات، فيضبط طرائق التفكير والتخطيط والتدبير ضبطًا عقليًّا يحرّر المجموعة العاملة من التباسات الفهم وانحرافات الإدراك وتشويهات التبصّر العمليّ السليم؛ سادسًا، يجدر إشراكُ الفلاسفة في اللجان الاستشاريّة القانونيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والأخلاقيّة والطبّيّة التي تواكب تطوّر الأوضاع وتنظر في الاختمارات المعرفيّة الناشطة، والاستنهاضات الثقافيّة المعاصرة، والتحدّيات العلميّة المربكة، والمخاطر السياسيّة والاقتصاديّة العالميّة الداهمة، والاضطرابات البيئيّة التلويثيّة المتفاقمة: سابعًا، من اللازم أن نرعى الإعلام اللبنانيّ والعربيّ بمواكبةٍ فلسفيّةٍ تزيّن نشاطاته بحلقاتٍ استناريّةٍ منتظمةٍ تهذّب العقل وتعالج عثرات استخدامه، عوضًا عن سياسات الإعلام الراهنة التي ما برحت تستصغره وتجهّله وتعطّله من أجل إفساده وترويضه وتطويعه في خدمة السلطان؛ ثامنًا وأخيرًا، لا بدّ من إثراء المجال العموميّ بالملتقيات والمنتديات والمقاهي الفلسفيّة التي تنقل الفكر الفلسفيّ النظريّ المجرّد إلى حيّز التفاعل الشعبيّ الحيّ، لاسيّما في البيئات الشبابيّة التي تحتضن أغرب التساؤلات الكيانيّة وأعقد الاستفسارات الوجوديّة.
هذه هي الخطّة الثقافيّة الإصلاحيّة الشاملة التي ينبغي اعتمادها من أجل استنقاذ العقل والفلسفة في المجتمعات العربيّة المعاصرة. حين تصبح الفلسفة على القدر المهيب هذا، يسارع الشبّان والشابّات إلى دراستها ومزاولتها في الحقول الإنتاجيّة المتنوّعة هذه من العمل الاجتماعيّ المنعش. شرطُ الشروط في هذا كلّه أن تَعمد الجامعات اللبنانيّة والعربيّة إلى التشدّد في تخيّر أساتذة الفلسفة الذين يُعهد إليهم بمسؤوليّة الاستنقاذ هذه. ذلك بأنّ مصير الفلسفة مقترنٌ بشخصيّة الفيلسوف أو أستاذ الفلسفة وبموهبته الكاريزماتيّة الفذّة. ليس كلُّ من درّس الفلسفة خليقًا باستثارة الميل الفلسفيّ السليم في مدارك تلامذة المدارس وطلّاب الجامعات وسائر أعضاء الاجتماع الإنسانيّ. إذا ما أهملنا الإصلاح البنيويّ الشامل هذا، حكمنا على الفلسفة في مجتمعاتنا، وكذلك على العقل اللبنانيّ والعربيّ، بالعقم الحضاريّ والجفاف المعنويّ والتبلّد الثقافيّ والخمول الفكريّ. حريٌّ بنا أن نستذكر في هذا المقام أنّ الفلسفة مَصنعُ الفكر الحرّ النيّر الخلّاق، ومَعملُ الإنسانيّة الجريئة المستكشِفة الطلّاعة الرائدة، ومنبتُ الاجتماع الإنسانيّ السليم المعافى الساعي إلى الاضطلاع الفطن بمسؤوليّات الوجود التاريخيّ المعقّدة.