كيف يمكن لأي عالم سياسة أن يلم بأحوال العالم في المستقبل بصورة شبه مؤكدة كما يفعل هذا الرجل؟
ولعل المثير أنه لا يستشرف أحوال عام أو أعوام، ولا عقد أو عقدين مقبلين، بل قرن بأكمله، إذ يقدم للعالم ضمن أحد أعماله صورة كاملة للـ100 عام المقبلة دفعة واحدة؟
يعن لنا أن نتساءل من باب التحقيق وليس التشكيك: هل من تساوق ما بين فكر هذا المفكر، ووثيقة المحافظين الجدد الشهيرة المعروفة بـ”القرن الامريكي ، تلك التي تبغي أن يكون القرن الـ21 قرناً أميركياً بامتياز؟
يذهب البعض إلى أنه عبقري جيوسياسي قادر على طرح رؤى مغايرة عما هو ظاهر على سطح الأحداث، فيما يقول البعض الآخر إنه رجل الظل للاستخبارات المركزية الأميركية، بمعنى أنه الصنو المكشوف، والبوق الذي من خلاله يتم الإعلان عن الخطط الماورائية للولايات المتحدة، تارة في صورة مؤلفات، وأخرى في هيئة مقالات، وفي جميعها يبدو أن للرجل هدفاً واحداً موصولاً بالاستراتيجية الأميركية الأوسع، التي تسعى من خلالها لتسيد العالم دفعة واحدة.
ما هي قصة فريدمان ، هذا الفتى اللاجئ والمنتمي إلى أسرة هاربة من جحيم ، والذي بات اليوم أحد أهم العقول الأميركية النافذة والفاعلة في واشنطن؟
لاجئ مجري يصنع حياة جديدة
ولد الطفل جورج في بودابست عام 1949 لأسرة مجرية الأصل، يهودية الديانة، فرت من بلدها الأصلي هرباً من معسكرات الاعتقال النازية. واستقرت أسرته أول الأمر في مخيم للنازحين في النمسا، ومنها هاجرت إلى الولايات المتحدة.
كثيراً جداً ما يجاهر جورج بأن حياته الشخصية هي خير مثال على نجاعة “الحلم الأميركي”، على رغم انكسار هذا الطيف الجميل في أعين كثيرين في حاضرات أيامنا.
ويصف فريدمان قصة عائلته بقوله “إنها قصة كلاسيكية للغاية، تخص لاجئين مضوا في طريق صناعة حياة جديدة في أميركا”.
في مدينة التفاحة نيويورك، كانت البدايات، حيث نشأ وترعرع، ومن كليتها العامة حصل على بكالوريوس العلوم السياسية، وقاده توقد ذهنه إلى الحصول على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة كورنيل الحكومية كذلك.
لمع نجم فريدمان خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وقد اعتبر آسيا، لا سيما شرقها، مجالاً رحباً وخصباً لقراءاته واستشرافاته، وتوقف طويلاً عند اليابان، بل بلغ به الأمر، أنه درس إمكانية نشوب صراع بين الولايات المتحدة الأميركية واليابان، ولترسيخ فكرته، أصدر كتاباً عن “الحرب الأميركية القادمة مع اليابان”، وهو أمر اعتبر غريباً وعجيباً في وقته، لا سيما أن اليابان كانت ولا تزال تمثل الضلع الثالث من أضلع الرأسمالية العالمية.
غير أن فريدمان، ربما امتلك “عيني زرقاء اليمامة”، وحاول من خلالهما النظر بعيداً جداً، أي عند حدود اليابان الجغرافية والديموغرافية، ما بعد الصحوة اليمينية التي تجتاحها أخيراً، ولهذا فإنه على رغم عدم وقوع مثل هذه الحرب حتى الساعة، فإن قراءته يمكن أن تصدق بالفعل في السنوات المقبلة.
اكتسب فريدمان شهرته الواسعة عندما أسس عام 1996 شركة “ستراتفور”، وهي شركة خاصة للاستخبارات والتنبؤات، مما دعا إلى كثير من الأقاويل حوله، ومنها أنه الرجل الذي يقوم بدور الظل لمجمع الاستخبارات الأميركية عامة، وللمركزية منها بنوع خاص، وذلك انطلاقاً من أمرين:
الأول: هو أن غالبية، إن لم يكن كل موظفيه في هذه الشركة، هم من عملاء الاستخبارات الأميركية السابقين الذين انتهت عقود عملهم بصورة رسمية، ومضت عليهم الفترة القانونية المطلوبة، قبل أن يمارسوا أي عمل شبيه. والثاني: أن مجال العمل ومادته يتقاطعان مع الأسرار والقضايا الاستخباراتية الشائكة، وثيقة الصلة بالأمن القومي الأميركي.
شغل فريدمان منصب الرئيس التنفيذي في “ستراتفور”، التي يقع مكتبها الرئيس في مدينة أوستن بولاية تكساس.
وعلى مدى 20 عاما في “ستراتفور” ملأ فريدمان الدنيا وشغل الناس بالمعلومات التي تداولها، مما عزز الإشاعات عن هويته وماهيته.
في مايو (أيار) 2015، كان فريدمان يمضي في سياق تأسيس شركة أخرى، ربما تتفق بصورة أو بأخرى مع سياقات “ستراتفور”، وقد حملت اسم “جيوبوليتكيال فيوتشرز”، أو “مستقبل الجغرافيا السياسية”، وبات السؤال: لماذا هذه الزاوية تحديداً التي اختارها فريدمان؟
المؤكد أن الجغرافيا السياسية هي الإطار الذي يساعدنا على رؤية الروابط المعقدة بين الأبعاد السياسية والاقتصادية والعسكرية والجغرافية لعالمنا.
من هذا المنطلق اكتسبت هذه الشركة أهمية كبيرة في الداخل الأميركي وحول العالم، لا سيما من قبل الأفراد والمؤسسات المتحمسين لقراءة السياقات العالمية المتحركة، وفهم تفاعلات القوى المتصارعة ضمن تحديات اليوم والعمل على اغتنام فرص الغد.
أدت سمعة فريدمان كمتنبئ للأحداث السياسية إلى تخصيص صحيفة “نيويورك تايمز” ملفاً تعريفياً عنه جاء فيه: “هناك إغراء عندما تكون قرب جورج فريدمان، أن تعامله مثل الكرة السحرية الثمانية”.
قرن فريدمان حياته العملية، بالتدريس لمدة 20 عاماً في كلية ديكنسون في ولاية بنسلفانيا، وبذلك يكون قد قرن حياته العملية بالعمل الأكاديمي، مما جعل منه نموذجاً أميركياً عقلانياً فريداً.
يعن لنا أول الأمر أن نتساءل عن رؤية فريدمان للولايات المتحدة الأميركية، سيما أنها في لحظة زمنية بعينها، مثلت الحلم بالنسبة إليه، وهل لا يزال هذا الحلم قائماً وقادماً، أم أن هناك من ضيع ملامحه وطمس معالمه أو كاد يفعل؟
البحث عن أميركا المتوازنة ثانية
من أهم أعمال فريدمان وكتاباته الرصينة مؤلفه المعنون “الإمبراطورية والجمهورية في عالم متغير”، وحتى لا يذهب القارئ إلى التفكير بعيداً، فهو يعني بالإمبراطورية أميركا نفسها، وغالب الظن أنه استعار التعبير من المؤرخ “بول كينيدي”، صاحب مصطلح “الإمبراطورية الأميركية المنفلتة”، أما الجمهورية فهي التوصيف السياسي للهوية الأميركية، والتي تعيش في وسط عالم متغير قولاً وفعلاً.
يكمن بيت القصيد في هذه الازدواجية في الثنائية الفريدة، التي تعيشها أميركا في العصر الراهن، جمهورية في إهاب إمبراطورية، وإمبراطورية تتذكر أحياناً أنها جمهورية، وفي الحالتين تؤمن بأنه ليس هناك من يداوم على معاداتها أو صداقتها وارتباطه بها… لكن ما الذي جرى لهذه الدولة الحلم في تقدير هذا المفكر الجيوسياسي؟
يرى فريدمان أنه في عهدي الرئيسين بوش وأوباما فقدت الولايات المتحدة رؤية الاستراتيجية طويلة المدى التي خدمتها بشكل جيد معظم القرن الماضي. وبدلاً من ذلك انطلق الرؤساء الأخيرون في مغامرات عشوائية، إذ وضعوا أهدافاً لا يمكن تحقيقها، ونتيجة لذلك، بالغت الولايات المتحدة في قدراتها على مد نفوذها في أنحاء العالم، مما سمح حتى للاعبين الصغار بأن يكونوا الذيل الذي يحرك الكلب.
يعتقد فريدمان أن الضرورة الأكثر أهمية لسياسة أميركية في العقد المقبل، هي العودة للاستراتيجية العالمية المتوازنة التي تعلمتها الولايات المتحدة من نموذج روما القدمية، ومن بريطانيا قبل 100 عام، فهؤلاء الإمبرياليون المنتمون إلى المدرسة القديمة لم يحكموا بالقوة الرئيسة، بل حافظوا على هيمنتهم بوضع لاعبين محليين، في مقابل بعض وإبقاء هؤلاء اللاعبين معارضين لآخرين يمكن أن يحرضوا على بعضهم بعضاً، بينما يضمنون مصالح الإمبراطورية الأوسع، كما أبقوا على ربط دولهم ببعضها بواسطة المصالح الاقتصادية والدبلوماسية، التي لا تعني المجاملات الروتينية بين الدول، بل التلاعب المتقن الذي يجعل الجيران والعملاء لا يثقون في بعضهم على نحو يزيد على عدم ثقتهم في القوى الإمبريالية، وكان التدخل المباشر اعتماداً على قوات الإمبراطورية هو الملاذ البعيد الأخير.
يتوقف بنا فريدمان أمام علامة استفهام مثيرة وربما مصيرية: ما الذي تتطلبه عملية إعادة التوازن للسياسة الأميركية؟
يرى أنه لا بد لأميركا أن تنأى بنفسها في هدوء عن إسرائيل، ولابد أن تقوى باكستان، أو في الأقل أن تضع حداً لضعفها.
وبروح وفاق روزفلت مع الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب العالمية الثانية، وكذلك وفاق نيكسون مع الصين في السبعينيات، سيكون مطلوباً من الولايات المتحدة عمل تسوية مقيتة مع إيران، بغض النظر عن مهاجمتها منشآت إيران النووية أو عدمها، وسوف تقتضي هذه الخطوات ممارسة للقوة أكثر إتقاناً مما رأيناه من جانب بعض الرؤساء الأخيرين.
هذه الرؤية، وهذا التحليل، يستدعيان منا تساؤلاً محورياً حول القطبية الأميركية، وهل تراجعت منذ بداية الألفية الجديدة، أم أن العالم لا يزال محكوماً بقطبية أميركية واحدة، مهما قيل عن التعددية القطبية المقبلة؟
أميركا القطب الأوحد المهيمن عالمياً
بعد نحو ثلاثة أشهر تقريباً من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بدأت التساؤلات عن مآلات القطبية الدولية، وهل روسيا تعاود الكرة، لتضحى لاعباً فاعلاً وبقوة على صعيد الجيوسياسية، أم لا؟
عبر موقعه على “جيوبولتيكال فيوتشر” كان فريدمان حاضراً وبقوة، فقد نشر تحليلاً مفصلاً يحمل رؤيته للنظام العالمي في هذا التوقيت المثير والحساس.
ذهب فريدمان إلى أن روسيا والصين بعد حرب أوكرانيا، لا سيما في ظل ما يشبه التحالف القائم بينهما، باتتا في حالة ضعف، الأولى بسبب استنزافها مالياً وعسكرياً في حربها مع كييف، والثانية من جراء الأزمات الاقتصادية التي حاقت بها في أعقاب تفشي وباء “كوفيد-19″، ذلك الفيروس الذي أطلق عليه الرئيس ترمب “الفيروس الصيني”.
من هذا المنطلق اعتبر فريدمان أن الولايات المتحدة ستبقى القوة المهيمنة في العالم.
يدلل فريدمان على قوة أميركا بموقفها من جزيرة تايوان، والتي يتخوف كثر من أن تقوم الصين بغزوها، غير أن الرجل يرى ما يقصر الآخرون عن رؤيته.
يقطع فريدمان بأن الصواريخ الأميركية ستهاجم الزحف الصيني البرمائي بوحشية قبل أن يصل حتى إلى شواطئ تايوان، وهذا هو السبب في أن بكين تتحدث كثيراً عن الغزو دون أن تقوم به بالفعل، لكن هذا لا يغير البيئة السياسية تغييراً كبيراً.
هل يرتكز فريدمان في تحليله للصين على الجانب الاقتصادي بأكثر من دوافعه بالقدرات العسكرية كما حاله في التحليل الكمي والكيفي للعلاقة بين روسيا وأميركا؟
مؤكد أنه يفعل ذلك، إذ يعتبر الولايات المتحدة أكبر عميل تجاري للصين، وربما لا تزال، ولكن ليس بالقدر نفسه، مما أضر بمجموعة من الفئات الاجتماعية في الداخل الأميركي، وهو ما حدا بالرئيس السابق دونالد ترمب لفرض تعريفات جمركية على البضائع المبيعة للولايات المتحدة، مما يشير إلى تحول لدى واشنطن، وتحويل السيكولوجية الداخلية الصينية للصادرات غير المحدودة إلى كيفية التعامل مع احتمالية انكماش الصادرات، وعلى المدى الطويل قوضت النظام المالي الصيني، لأنه كان قائماً على العقارات، التي يجب أن تستقر مع إعادة الهيكلة الاقتصادية، وهذا بدوره يوجد أزمة سياسية تؤدي إلى حكام جدد في الصين، أو مزيد من القمع على يد الحكام القدامى.
لكن ماذا عن العلاقة الأميركية – الروسية؟
توقف فريدمان في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أمام تصريح للرئيس بوتين قال فيه “إن الولايات المتحدة تحاول فرض نظام عالمي جديد للسيطرة على روسيا والصين وأوروبا، وكذلك القوى الأضعف في العالم”.
واعتبر فريدمان أنه من السهل تجاهل هذا الكلام باعتباره مجرد تعبير عن غضب من قائد منخرط في حرب، ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك.
تكشف تصريحات بوتين عن أنه يحاول التصالح مع حقيقة أن موسكو أساءت فهم طبيعة العالم تماماً أثناء تخطيطها للحرب في أوكرانيا.
وعلى وجه التحديد أساءت روسيا فهم الميزان الدقيق للتصرفات الأميركية، فواشنطن لم تدفع قواتها لمنع تقدم روسيا، لكنها في الوقت ذاته لم تتخل عن أي جزء من أوكرانيا.
لقد فهمت الولايات المتحدة التهديد الذي تشكله روسيا على الحدود مع “الناتو” – أي جرب باردة جديدة – كما فهم البيت الأبيض أوكرانيا أفضل من فهم روسيا لها.
خلاصة كتابات فريدمان في هذا السياق، هو أن الولايات المتحدة عادت إلى الظهور بوصفها قوة مهيمنة عالمية، على رغم أنها لم تختف أبداً، كما أجبر نمو روسيا والصين الولايات المتحدة على الوصول إلى المركز الذي وصلت إليه بين عامي 1945 و1991.
فريدمان ورؤية مغايرة للقوى العظمى
كيف يرى فريدمان حال ومآل القوى العظمى في العقدين المقبلين، وحتى قبل بلوغ نهاية الـ100 عام التي “تكلم عنها”؟
الشاهد، وخلال انعقاد “القمة العالمية للحكومات” خلال شهر فبراير (شباط) الماضي، تلك التي جاءت تحت عنوان “استشراف مستقبل الحكومات”، تحدث فريدمان في جلسة حملت عنوان “العالم في 2050… السمات الجديدة للقوى الصاعدة”.
من بين ما قاله فريدمان ولفت انتباه الحضور بصورة كبيرة ومثيرة أنه “لم يعد شرطاً على الدول أن تمتلك قوة ضخمة لتصبح دولاً عظمى، بل عليها أن تمتلك تكنولوجيا وابتكارات تمكنها من ذلك بسهولة”. وأضاف أنه “بمتابعة التاريخ والحاضر، نتيقن أن البشر لا يعيشون في سلام دائم، فقد عانت أكبر اقتصادات العالم الانهيار في أعقاب الحروب العالمية، وشهد العالم صعود اقتصادات جديدة”.
فريدمان وبرؤية غير تقليدية يحدثنا عن المواجهة الأميركية لروسيا في أوكرانيا، التي أثبتت أنه يمكن للقوى العظمى الحقيقية أن تشارك في المعارك دون أن تطلق رصاصة واحدة، لكن كيف؟
حكماً من خلال التقنيات الحديثة التي تحوزها مثل تلك القوى، وفي مقدمها الولايات المتحدة، من عينة الهواتف النقالة، والكاميرات الدقيقة، ناهيك بالأقمار الاصطناعية، والأنظمة الملاحية.
هل انتقل العالم إلى حقبة زمنية مغايرة، تجري فيها المنافسة برسم آخر غير النار والبارود فوق سطح الأرض؟
غالب الظن أن هذا ما يقصده، إذ يعتبر أن الحرب الراهنة بين روسيا وأوكرانيا أثبتت قدرة الولايات المتحدة على أن تشارك في الحرب من خلال أسلحة مستحدثة، لا سيما سلاح العقوبات الاقتصادية، مما يقطع بعمق قراءته لما كتبه نابليون بونابرت من قبل “الجيوش تمشي على بطونها”، بمعنى الحاجة إلى اقتصادات قوية تدعم وتزخم المعارك.
عطفاً على ذلك فإن القوى العظمى المقبلة ستدير حروبها من الفضاء، وليس من الأرض، مما ينذر بالفعل بحقبة عالمية جديدة على صعيد العلاقات الدولية.
الدول الصغرى في مواجهة القوى الكبرى
هل فتحت التقنيات الحديثة طريقاً للدول الصغرى لتجد لها موقعاً ومستقراً وسط الدول الكبرى، لا سيما في حال المواجهات العسكرية؟
يبدو الأمر على هذا النحو بالفعل، لا سيما في المعارك المقبلة، ذلك أنه لم يعد شرط الفوز وجود أرتال من الدبابات التي تزن مئات الأطنان، ولا المدافع بعيدة المدى.
على سبيل المثال، حين ظهر القمر الاصطناعي استطاعت الجيوش أن تعرف مواقع ومواضع الأعداء، من ثم تمكين أنظمة التوجيه الداخلية الآلية للذخائر من تنفيذ ضربات شديدة الدقة.
من هنا باتت القوات تحتاج إلى عدد أقل من الذخائر نتيجة دقة التصويب المرتكن إلى التحديد الشديد لأماكن انتشار قوات الخصم.
وفي الوقت نفسه ينتقل تركيز القوى البشرية من ساحة المعركة النشطة إلى إدارة الذكاء واستحداث مزيد من التقنيات بسرعة أكبر، ولم تعد الحرب تتطلب عدداً هائلاً من السكان، كما أنها لا تتطلب استهلاكاً هائلاً للمواد الخام، وبالطبع، كان لذلك عواقب جيوسياسية.
من هنا ـ والعهدة على فريدمان ـ أصبح بإمكان الدول الصغيرة جداً أن تشن حرباً، لا سيما ضد الجيوش النظامية من الطراز القديم التي تفتقر إلى الدقة ومدى الاستهداف الواسع الذي تتمتع به الفئات الجديدة من تلك الدول.
يخبرنا رجل “ستراتفور” و”جيوبولتيك فيوتشرز”، عن تحول هذه الدول الصغيرة من الاعتماد على العمق إلى الاعتماد على الوقت. ويرى أنه كلما زادت مساحة الدولة، زادت المناطق التي يجب أن تنتشر فيها القوات والموارد العسكرية. وفي نموذج الحرب الناشئ، كلما زاد الوقت المتاح للرد على الأخطار، زادت الفاعلية.
هل هذا تطور واحد؟
قطعاً، إنها مجموعة من التطورات التقنية والتكنولوجية الحديثة، التي تدور في ثلاثة مدارات، باتت تحكم العالم: الذكاء الاصطناعي، والرقائق الإلكترونية، والحوسبة الكمومية، وهي الأساس الذي تقوم عليه الاستخبارات الفضائية والأسلحة الموجهة ذاتيا بعيدة المدى وصولاً إلى الأنظمة الآلية المضادة للصواريخ.
وبفضل هذه التقنيات الجديدة، تستطيع القوى الصغيرة من الظهور بمظهر قوي، ويعد التقنيون أهم العناصر في هذه الجيوش، حيث يحافظون على الأنظمة المبرمجة ويقومون بترقيتها، ويظل هؤلاء جزءاً بسيطاً فقط من القوى البشرية التي يتحدث عنها التعريف القديم للقوى العظمى.
هل يعني ذلك أنه لم يعد هناك أهمية للجيوش النظامية الكلاسيكية؟
بالطبع لا تزال الجيوش المأهولة لا غنى عنها، لكن التحول إلى أسلوب فكري جديد فيما يخص الاستراتيجية العسكرية يجري على قدم وساق.
وعلى رغم أن التكنولوجيا الجديدة لم يتم اختبارها على نطاق واسع من ثم لم تثبت فاعليتها في النزاعات الكبرى بعد، فإن التطور يحدث بسرعة، ويعني ذلك أن تعريف القوة العظمى يجب أن يتغير.
الرائي ودعوة للصعود إلى القمر
حكماً لا يمكن أن يكون فريدمان شخصاً منفرداً برؤاه، ولا باستشرافاته، وغالب الظن أنه المقدمة الضاربة لجيوش ما ورائية من الباحثين والمفكرين الأميركيين، أولئك الذين يصنعون مستقبل الدول العظمى، وإن كانت هذه قصة أخرى.
فريدمان وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي نقل الاهتمام البشري إلى القمر من جديد، محفزاً روح الاستكشافات الجغرافية الكبرى في التاريخ البشري، لكن هذه المرة، ليس فوق سطح الأرض، بل فوق كوكب القمر، بسبب قربه من الأرض وامتلاكه مقومات استيطانه مستقبلاً.
خلال فعاليات اليوم الختامي من حوار أبوظبي للفضاء ذكر فريدمان أن “القمر جزء من كوكب الأرض من حيث النشأة، ولا يخفى علينا أن كوكب القمر جزء من وجودنا، مما يدفعنا إلى استكشافه لنعرف كيف يبدو بالفعل. بعضهم هبط ومشى مئات الأقدام، ولكن كانت تلك بداية رائعة وإنجازاً كبيراً بالطبع، لكنهم عادوا سريعاً، والآن نحاول فهم ماهية القمر”.
يكاد السامع لفريدمان أن يقطع بأن حديثه ليس سوى خطة طريق لمشروع أميركي مقبل، لاستكمال الوجود الأميركي فوق سطح القمر، لا سيما أنه يقول “نحتاج إلى جنود ورجال أعمال وتكنولوجيين ومختلف الشرائح والفئات، ويجب التفكير في أن الثروة في القمر ستكون للبشرية بشكل عام، حيث يجب التفكير بالبعد الإنساني”.
أهم ما يميز فريدمان في واقع الحال أنه راءٍ للتاريخ الإنساني، بأكثر من كونه مستشرفاً سياسياً.