أسهم التصوف في صنع التاريخ العربي والإسلامي، وأثر في العديد من أحداثه وتحولاته، وتناولت دراسات عديدة علاقة التصوف بالسياسة في مجال التداول المعرفي المعاصر، وخاصة الدراسات التاريخية، التي تناولت إشكالية العلاقة بين الحاكم السياسي والمتصوفة، وعما إذا كانت توافقية، أم صدامية، بالاعتماد على ثنائيات مثل الاحتواء والملاحقة، والاستقطاب والتضييق، والمداخلة والانقباض، وسوى ذلك. وبرز دور المتصوفة في اجتراح أفكار ونظريات تخص الإمامة وشروطها، وذهبوا إلى القول بجواز إمامة المرأة، إلى جانب تبنيهم خيار عدم الخروج على السلطة، والدعوة الى سمع الحاكم وطاعته. إضافة إلى دورها في مجال الجهاد وأنواعه وشروطه، والأهم هو دور المتصوفة وأطروحاتهم في مجال الحقوق والحريات بمختلف مجالاتها، سواء أكانت حريات سياسية وفكرية، أو اقتصادية واجتماعية. وترى مريم ثابت العبيدي، في كتابها “الفكر السياسي الصوفي: السلطة، الحقوق، الحريات” (القاهرة، دار العربي للنشر، 2024)، أن أغلب الباحثين في التصوف نظروا إليه بوصفه ظاهرة لا يتعدى كونها مجرد فعل مقصور على جملة من السلوكيات النمطية وبعض الشطحات الرياضية، وأنها لا تتعدى مجموعة أفراد اعتزلوا المجتمع والسياسة، وزهدوا في الدنيا. وذهب بعضهم إلى اتهام المتصوفة بالانهزامية في ميدان السياسة، فيما رأى بعضهم الآخر أن حرص المتصوفة على عدم الانشغال بالسياسة، أفضى إلى أن انشغالهم بأمور السياسة هو نتاج غير طبيعي في تاريخ التصوف، بالنظر إلى خصومة التصوف مع السلطة. وعليه يتمحور جهد المؤلفة في محاولة سبر أغوار التصوف، وبحث تأثيره في الفكر السياسي الإسلامي، وتبيان خصوصياته، حيث تعرّفه بشكل يظهر هويته، بالاعتماد على مقاربة تجعل التصوّف أحد ألوان التراث السياسي، ويمتلك قدرة على إثراء التفكير في الحداثة السياسية.
تاريخيًا، نشأ التصوف العربي الإسلامي كظاهرة فردية، جنحت نحو الزهد والتشدّد في العبادة، بغية إبعاد النفس عن الانغماس في الملذات والترف، غير أنّها تطورت لتصبح طرقًا ومدارس مميزة، وتحولت إلى منظومة توجهات عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية، وشكلت تيارات فكرية هامة في الفكر الإسلامي. وترفض المؤلفة اعتبار السلطة والتصوف خصمين لا يلتقيان، والذي بني على خلفية اعتبار السلطة مجرد عملية اجتماعية حركية، فيما التصوف تجربة ذاتية انكفائية تنأى بنفسها عن شؤون الحياة وشواغلها، وعن أمور السياسة وتوابعها على وجه الخصوص. وتمثل هذه الخلفية ادعاء قد يصدق على التصوف الفردي، أو على الزهد في جانبه السلبي. أما التصوف الإسلامي بشكل عام، فقد شكّل منذ بدايته رد فعل على تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية، واتجه نحو معارضة السلطات القائمة بمختلف أنواعها، حيث شجع على ظهور الزهد وانتشاره بعد ما عاناه المسلمين من تعسف الحكام واضطهاد المستبدين الذين حاولوا فرض إرادتهم وآرائهم الدينية على سواهم من الناس، فبات الانكفاء والزهد مرتبطين بالثورة على السلطة، وبالتالي فإن الظاهرة الصوفية كانت نتاج إحساس عميق بالاغتراب عن العالم وعن الذات، نظرًا لما كان يعتري العالم من قبح وغبن، ونقص أفرزته سلطة جبرية، ذات مظهر زائف، وكانت بعيدة عن روح الإسلام وحقيقته. ثم تعمقت تجربة التصوف واتسعت أبعادها لتأخذ أشكالًا من التنظيم الاجتماعي والسياسي، التي يكمن خلفها حراك فكري وفلسفي، حمله فلاسفة كثيرون في التاريخ العربي والإسلامي.
“تعد الأوضاع السياسية من بين أهم أسباب نشأة التصوف، خاصة مع توسع الدولة الإسلامية، وتخلي المسلمين عن كثير من أمور دينهم، والتقاعس عن أداء فرائض دينهم، وإقبالهم على الملذات والترف”
نهض التصوف في الجانب الفلسفي الإسلامي، على منهج استنباطي للصلة بين النفس والإله، حيث أن كل متصوف له طريقته الخاصة في السير نحو الذات العلّية. وهنا تكمن حقيقة التصوف في كونه مجموعة التجارب الذاتية. وعلى الرغم من اختلاف مضامين ومواضيع ومنطلقات تجارب المتصوفة، فإن ذلك لا يلغي وجود صلات تقارب واتصال وتفاهم بينهم في مختلف الجوانب الروحية والفكرية والسلوكية ضمن إطار التجربة الصوفية ومنطقها. وقد اتصل التصوف في الإسلام بالفلسفة وتداخل معها إلى درجة اعتبر فيها الفيلسوف صاحب تصوف عقلي، مع وجود منطق خاص في التجربة الصوفية، التي عرفت في الفكر الصوفي بـ”الحال”، بوصفه سموًا روحيًا يتصل به المتصوف مع الله، حيث تغدو الصوفية ممارسة عملية لحياة شعورية، تنتج أفكارًا وتضع نظريات، باعتبارها تجربة شخصية، فردية وحية، عمادها المعرفة الذوقية والحب الإلهي. ولعل تميز التجربة الصوفية بالميل نحو الزهد والعزلة، هدفه الوصول إلى الخضوع اللا محدود للعشق الإلهي والاستغراق به، متعالية بذلك على الطبيعة، ومتخطية حدود العالم المحسوس.
تعد الأوضاع السياسية من بين أهم أسباب نشأته، خاصة مع توسع الدولة الإسلامية، وتخلي المسلمين عن كثير من أمور دينهم، والتقاعس عن أداء فرائض دينهم، وإقبالهم على الملذات والترف، ودخول كثير من العادات والتقاليد الغريبة عن الإسلام. إضافة إلى تردي الأوضاع الداخلية والاضطرابات السياسية، وقيام الفتن، حيث فضل العديد من المسلمين الوقوف على الحياد إيثارًا للسلامة، فسلكوا طريق العزلة والابتعاد عن الفتنة والاقتتال. وعليه، يجري النظر في التصوف على أنه تجربة فريدة، يعيشها الصوفي في كيانه، طالبًا القرب من الله، ويرى عند رواده علما باطنا، لا تدرك حقيقته بالحواس، بل بالبصيرة أو القلب الذي يعدّ منبع الحكمة ومصدر المعرفة، وبه يتطلع الصوفي إلى الأمور الخفية، التي حجبت عن أبصار الناس.
قد يكون للتصوف طابع مميز من جهة اعتماده على طريق التجربة، مع أن تلك التجربة لا تُعدّ مصدرًا للمعرفة، مثلما هي الحال عند الفلاسفة التجريبيين، إنّما بوصفها تجربة تضع النفس في عالم دائم الاتصال بالله. ويلجأ الصوفي فيها إلى لغة رمزية تعبّر عما في دواخله، تتمتع بمعان مضمرة يلجأ إليها المتصوفة هربًا من ملاحقة أعين السلطان. وتحتاج إلى تأويل يتلاءم مع قواعدها، لذلك كان الرمز من أهم خصائص الخطاب الصوفي، الذي نهل من القرآن والسنة، إضافة إلى مؤثرات فلسفية فارسية ويونانية، وظهر ذلك في أطروحات وأفكار فلاسفة مثل السهروردي، وابن عربي، وابن سبعين، والحلاج، وسواهم من الذين تفردوا عن غيرهم في طرح الأفكار والفلسفات، وأغنوا التصوف كي يضم مختلف أصناف الحب وألوانه ونزعاته، بدءًا من الألفة والمحبة، وصولًا إلى العشق والوله. فضلًا عن دعواتهم لإزالة الموانع في علاقات الإنسان وأخيه الإنسان، وسيادة روح التسامح، والنظرة المتساوية إلى كل الملل والنحل، وعدم التفريق بين الناس إلا في قدرتهم على بلوغهم مراتب الطاعة الإلهية، لذلك لم يفرقوا بين الرجل والمرأة إلا بالعمل الصالح، ومنحوا المرأة حقها في الإمامة، وفي مواكبة حركة الحياة ومشاركة مجتمعها الإسلامي في شتى المجالات، وحولوا بذلك مفهوم الحقوق إلى مفصل هام في وجودهم، انطلاقًا من سعيهم إلى تجسيد الحق، وتمثله في يقينيته، عبر ربط العلاقة بين الحقوق الإنسانية والقيم الإنسانية، ووظفوا ثقافة الحقوق من أجل تصحيح المفاهيم الخاصة بالدين والتدين.
أنتج الفكر الصوفي تيارين، سلبي وإيجابي، يمكن وصف أولهما بأنه تيار مقاومة ومعارضة سياسية، وتجسد في عدد من التيارات الصوفية، خاصة في الأندلس مع حركة ابن قسي. وثانيهما تيار آثر المقاومة الروحية والسعي لإصلاح الحكم، عبر محاولة أصحابه بسط سيطرتهم على مملكة الروح، وتركهم مملكة الحس إلى أصحابها السلاطين والفقهاء. لكن الغلبة حاز عليها التيار الصوفي الذي راهن على إصلاح النفوس وتهذيبها، لأنه رأى فيها مدخلًا لإصلاح العالم والوجود المادي. وعليه، أنتج فكر المتصوفة سلوكًا سياسيًا معارضًا ثوريًا في بعض الأحيان، وتخاذليًا منضبطًا في أحيان أخرى، الأمر الذي يفسر أن مواقف الطرق الصوفية ليست موحدة، فهناك طرق صوفية كافحت الاحتلال والاستعمار، وأخرى تعاونت معهما. كما أن تاريخ المجتمعات الإسلامية عرف طرقا نهضت بمجتمعاتها، وكونت كيانات سياسية ذات مكانة هامة، وقدمت نماذج في النشاط السياسي المنظم، فيما وجدت طرق أخرى عاشت عالة على مجتمعاتها في زواياها، ولم تؤثر في الواقع الذي تعيش فيه. وتجلى الجانب السياسي السلبي للصوفية في فكرة تحصيل المنفعة المتبادلة بين السلطان أو الحاكم والرعية، لكن السلطان لجأ إلى استخدام المتصوفة لتطويع عامة الناس، ودفعهم إلى مهادنته وإطاعته، مستغلًا مواقف بعض المتصوفة التي نادت بعدم الثورة على الحاكم، اعتقادًا منهم أن هذا الموقف السلبي أكثر مواءمة للشريعة الإسلامية، وذلك على خلفية اعتبار الحاكم هو ولي الأمر، واعتبارهم أن الجهاد الحقيقي هو جهاد النفس بوصفه الجهاد الأعظم، وأن حياة المتصوف هي جهاد ومجاهدة من أجل ملاقاة الله. ومع ذلك لم يمنع الجهاد الروحي بعض المتصوفة من المشاركة في الحياة السياسية والجهاد. وقد قامت طرق صوفية عديدة بدور هام في مقاومة الاحتلال الأجنبي، على الرغم من أن أدوارها كانت تتنازعها مواقف سلبية وإيجابية. وتطورت مشاركة الطرق الصوفية في الحياة الاجتماعية في البلدان العربية والإسلامية مع مرور الزمن، وأسهمت في الحفاظ على الهوية، والدفاع عن الأمة، وتقديم النصح إلى الحاكمين، ودفع المظالم عن المستضعفين. وفي العصر الحديث، لم يعد التصوف حالة من الزهد والتعبد الفردي، بل نشأت مؤسسات واسعة الامتداد عبر دول العالم، واتخذ بعضها دورًا اجتماعيًا وتنمويًا وسياسيًا، فيما تحول بعضها الآخر إلى مجرد نواد وجمعيات لأداء مظاهر احتفالية وكرنفالية.
عنوان الكتاب: الفكر السياسي الصوفي: السلطة، الحقوق، الحريات المؤلف: مريم ثابت العبيدي