الفك الآخر للكماشة هو تسارع بناء “بؤر استيطانية” جديدة، من دون إعلانات، في طوباس ورام الله وحوارة ومحيط القدس. وبحسب تقرير منظمة “مناهضة الاستيطان” يجري التخطيط لبناء ألف وحدة استيطانية لتوسيع مستوطنة أفرات القريبة من بيت لحم.
هناك فوضى وكثير من الكآبة في المشهد الفلسطيني، كما لو أنه استعادة معاصرة لعقد أربعينيات القرن الماضي، السنوات التي تلت الثورة الكبرى (1936-1939)، البلاد المستنزفة بعد ثلاث سنوات من قمع الجيش الإنكليزي والعصابات الصهيونية، وإعادة احتلال البلاد والتنكيل بأهلها، آلاف القتلى والمعتقلين، التشتت والتقسيمات الطائفية وصراع العائلات والولاءات التي تصل إلى حدّ التعاون المعلن مع الانتداب، والأهم خطر التهجير وغياب القيادة.
لا يختلف المشهد الراهن في إطاره العام عن تلك السنوات التي سبقت “النكبة”.
تبدو الضفة الغربية أشبه بأرخبيل من الجزر المحاصرة بأكثر من 900 حاجز عسكري وبوابة حديدية. على الأرض يواصل الاحتلال اجتياح شمال الضفة في عملية “السور الحديدي” التي ستدخل شهرها الثاني. تتركز الحملة العسكرية الواسعة على مخيمات شمالي الضفة، والمدن الحاضنة لها، ولكنها تذهب هذه المرة نحو تغيير بنيية المخيمات وتنظيمها العمراني، وتهجير أكبر عدد ممكن من سكانها. وصل رقم المهجرين إلى حوالي 40 ألفاً. بموازاة التهجير تواصل جرافات الـ “دي9” تدمير البنية التحتية وحرق البيوت وتوسيع شبكة الأزقة الضيقة التي تتشكل منها المخيمات، والتي شكلت عائقاً أمام اقتحامات جيش الاحتلال وحملاته المتكررة ضد المقاومين. هي فكرة قديمة موجودة في أدراج وزارة الحرب الإسرائيلية، وحاول “أرئيل شارون” تنفيذها في مخيمات غزة مطلع سبعينيات القرن الماضي أثناء عمليات جيش الاحتلال القضاء على المقاومة المسلّحة في القطاع.
الفكّ الآخر للكماشة هو تسارع بناء “بؤر استيطانية” جديدة، من دون إعلانات، في طوباس ورام الله وحوارة ومحيط القدس. وبحسب تقرير منظمة “مناهضة الاستيطان” يجري التخطيط لبناء ألف وحدة استيطانية لتوسيع مستوطنة أفرات القريبة من بيت لحم.
في الجانب الآخر يواصل المشهد السياسي الفلسطيني تعثره بين استعراضات تسليم المحتجزين التي تنظمها “حماس” في غزة، ومناوراتها حول وجودها، من جهة، ورغبتها في التخلي عن حكم غزة من جهة ثانية، إلى جانب إحصاء البيوت المتنقلة التي سمح نتنياهو بدخولها وعدد الآليات الثقيلة التي تجاوزت معبر رفح، ومفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق الهدنة التي تبدو عبثية على نحو ما.
السلطة في رام الله تواصل تعثرها في سلوكها المشوّش وهي تحاول أن تجد لها مقعداً في ترتيبات “اليوم التالي”، والتوفيق بين دورها كجهة ممثلة للشعب وتمرير قراراتها التي تتعارض مع نظرة الناس إلى دورها؛ وهي قرارات تفتقر بقوة إلى رضا الشارع ومطالبه، وآخرها المرسوم الرئاسي المتعلق بمخصصات الأسرى والجرحى وتحويل المسؤولية بشأنها إلى مؤسسة للشؤون الاجتماعية، مع ما سيترتب على ذلك من تغيير في المعايير وقيم الصرف والصيغة الوطنية الرمزية التي يتمتع بها الأسرى في الشارع الفلسطيني.
الأبواب المغلقة أمام تحقيق “التوافق” في الساحة الفلسطينية دفعت مجموعة من المستقلين والمؤسسات الوطنية وبعض الفصائل إلى الدعوة إلى مؤتمر وطني، بهدف الضغط على الفصيلين الرئيسيين “فتح” و”حماس” لكسر الاستقطاب، وإصلاح منظمة التحرير. المؤتمر الذي انعقد في العاصمة القطرية بعد تعذّر عقده في عاصمة أخرى، واجه حملة عنيفة من حركة “فتح” والسلطة، فتوزّعت الاتهامات بين تفتيت الموقف الفلسطيني وإضعاف تمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني، وهو ما حاول المشاركون في المؤتمر والبيان الختامي الصادر عنه نفيه.
رغم أن المؤتمر الوطني لم يدفع فكرة الوحدة إلى الأمام، فإنه أشار من جديد إلى ما يمكن تسميته “التيار الثالث”، وهو منصّة شهدت، من دون نجاح، أكثر من محاولة منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي. إنه تيار يضمّ المستقلّين الوطنيين وامتداداتهم في الشارع خارج الاستقطاب الثنائي بين “فتح” واليسار، أو لاحقاً بين “فتح” و”حماس”، ولكنه كان دائماً خارج الغرفة، ويفتقر الى آليات العمل والبرنامج والذراع الشعبية في الحواضن، بحيث اقتصر حضوره، حتى الآن، على المناشدة والبيانات ودعوة الآخرين والتحليل.
طبقات المشهد الفلسطيني الثلاث: السلطة التي تضمّ “فتح” وتسيطر على هيكل منظمة التحرير، وتتكىء على الموقف الرسمي العربي، التيار الإسلامي الذي يضم “حماس” و”الجهاد” وفصائل عسكرية تدور في فلكه وتحالفاته مع القوتين الإقليميّتين إيران وتركيا، “التيار الثالث” الذي يحاول التذكير بوجوده ويتحرك على عربة من المناشدات الفوقية، لا يبدو أنها، رغم خطورة الواقع وكارثة غزة وشمالي الضفة، ناضجة لمواجهة التحولات المتسارعة التي تهدد فعلاً بتصفية القضية الوطنية.
هذا الواقع بأحزانه يفسّر مدخل هذه المقالة حول الفوضى والكآبة، ويبرر استحضار مقدمات نكبة الـ “48” ودروسها.