عملية السلام التي سبق لها أن فشلت في تركيا مرتين؛ في (2009-2011) ثم في (2013-2015)، يبدو أن فرص نجاحها واردة أكثر من أي وقت مضى؛ لأن الأطراف المعنية جميعها، باتت أكثر قابلية لتقديم التنازلات.
تسير الخطة التي يشرف عليها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ووضع أسسها أصلاً إبان إدارته لجهاز المخابرات، في مسارين:
أولاً. العفو عن عبد الله أوجلان وخروجه من السجن إلى مقر إقامة جبرية. (وهذه عملية سريعة لا تستغرق وقتاً).
ثانياً. منح الكرد في تركيا حقوقهم الثقافية، وإدارة البلديات في مناطقهم. (وهذه عملية أطول تستغرق وقتاً ولها تحدياتها).
الآن، كيف يتموضع أطراف العملية:
❊ الزعيم عبد الله أوجلان الذي يدخل في عامه الـ77 قريباً؛ أمضى منها 25 عاماً وحيداً في سجن معزول يشرف عليه أكثر من ألف موظف تركي، ويعاني مرض اشتد عليه، يريد أن ينجز هذه العملية، وينتقل من سجنه إلى مقر إقامة جبرية، ويترك خلفه إرثاً سيتذكره الكرد لأجيال قادمة، بإعلان إلقاء السلاح وحلّ حزب العمال الكردستاني (PKK) بضمانة وإشراف من حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” (DEM).
❊ أما قيادة (PKK) الهرمة (مراد قريلان، جميل بايك، دوران كالكان) في جبال قنديل، فليس أمامها خيارات كثيرة، إذْ لا يزال أوجلان يحظى بالاحترام الأكبر بين صفوف المقاتلين؛ فهو المؤسس، وصاحب الرؤية، والقائد الأعلى، وعندما يطلق الزعيم نداءه، عليهم الاستجابة له ولو ظاهرياً. وسيكون لدى هؤلاء مصدران للقلق: أولاً- عدم الثقة بأجهزة الاستخبارات التركية في محاولة اغتيالهم، وثانياً- في ظل عدم تحقيق أهداف الحزب الأصلية، سيشعرون بأنهم أضاعوا حياتهم سدىً.
❊ ورغم أن تركيا قد أضعفت قواعد PKK في السنوات الأخيرة وكسرت معنوياته، بأن حدّت خيارته في حرية المناورة بعد أن أقامت قواعد عسكرية تركية متقدمة في شمال العراق، إضافة إلى استهداف الكوادر بالطائرات المسيّرة، لا تزال هذه القواعد قادرة على إلحاق الضرر الكبير بالمصالح التركية، والرئيس رجب طيب أردوغان يدرك ذلك. لذلك كان PKK دائماً على أجندته. وستكون هذه القواعد أكثر استجابة لنداء أوجلان الذي يدرسون رؤيته، ويرددون مقولاته، ويضعون صورته على الصدور.
❊ وإذا كانت أنقرة قد فشلت سابقاً في نزع سلاح PKK من خلال أوجلان، فذلك لأنها لم تستفد من دور إقليم كردستان العراق. ويبدو أن تركيا تراهن هذه المرة على الإقليم بأن يضغط على العمال الكردستاني مقابل أن يفسح له الطريق للعب دور أكبر وأساسي بين كرد سوريا.
❊ ورغم أن وحدات حماية الشعب في سوريا، عارضت محادثات السلام مع أوجلان في عامي (2014-2015)؛ لأنها كانت في موقع قوة، إلّا هذه الوحدات تدرك الآن أن حظوظها قد تراجعت، وهي عملياً تتفاوض مع القيادة السورية الجديدة المدعومة تركياً، من أجل العودة إلى كنف الدولة السورية، في ظل القلق من انسحاب أمريكي مفاجئ وكشف الغطاء الأمني عنهم. وستتجاوب هذه الوحدات على الأرجح مع نداء أوجلان للتعاون مع تركيا، حتى إنْ رفضت قنديل ذلك.
❊ سيكون التحدي الأكبر لدى حزب DEM، فقاعدته الحزبية لها رأيان مختلفان: رأي يقول بأولوية تأمين الحقوق الكردية وإطلاق سراح أوجلان، ورأي آخر يقول بأولوية إلحاق الهزيمة بأردوغان، لا سيما أن الحزب أحد أعمدة جبهة المعارضة التركية. ويبدو أن قادة الحزب يفضلون الرأي الأول، الأمر الذي قد يؤدي في النهاية إلى انشقاق في الحزب.
❊ الرئيس أردوغان أيضاً لديه مصلحة هائلة في إنجاح الخطة ليس لتخليد إرثه في حل المشكلة الكردية فقط، إنما لتحقيق أهداف سياسية ملحة. فهو يرغب في تفكيك جبهة المعارضة التي تعرقل إطالة أمد فترة حكمه، باستمالة حزب DEM لمساعدته على تعديل الدستور مقابل الاعتراف الدستوري بالحقوق الثقافية الكردية. لكن قد يصطدم أردوغان بسبب ذلك مع القوميين الأتراك، كما أن بعض أنصار حزب DEM قد يترددون في منح أردوغان بطاقة تؤهله ليصبح رئيساً مدى الحياة. وللتغلب على هذه المشكلة، قد يلجأ أردوغان إلى مناورة الدعوة إلى انتخابات مبكرة بدعم من حزب DEM، مقابل منح الحزب إدارة البلديات في المناطق ذات الأغلبية الكردية، ومنح الكرد المزيد من الحقوق الثقافية.
❊ أما أمريكا، فستجد الفائدة المباشرة لأي اتفاق بين تركيا وPKK، في سوريا. فإذا سارت العملية السياسية السورية بسلاسة، ستكون أنقرة أكثر انفتاحاً على التعامل مع الكرد في سوريا، وستشجع حكومة الرئيس الشرع لإشراك الكرد في النظام السياسي السوري. وهذا سيريح أمريكا من الصداع المستمر الذي كانت تسببه أنقرة بسبب دعم «قسد»، وستكون قادرة على الاستفادة من إمكانيات تركيا في ملفات أخرى عديدة عالقة في أفريقيا.
سيحتاج أردوغان إلى بعض الوقت لبناء الثقة مع كرد سوريا، لكن مع وجود شراكة أمريكية وإقليم كردستان وكرد سوريا، ستتمكن هذه الأطراف من خلق مثلث مزدهر اقتصادياً بين الدول الثلاث، كان تقليدياً وعلى مدار سنوات مفرخةً لإنتاج الجهاديين.
هذا لا يعني أن ليس هنالك تحديات. الحوارات مع الجماعات التي تمارس العنف لها عادة تعقيداتها. فقد تتمكن طهران التي طعنتها تركيا في الظهر، من إقناع قيادات في PKK بالانشقاق والاستمرار في الكفاح المسلح. ويمكن لأنقرة حينها التعامل مع هذه المشكلة على أنها مشكلة ليست كردية إنما طرف يحارب بالوكالة عن إيران.
وعلى الكرد في سوريا استثمار هذه الملابسات، وأن لا ينجرّوا وراء الذين يرون أن دمشق قد عادت إلى الحضن الأموي. وعليهم أن يدركوا أمراً: استمر الحكم الأموي في دمشق 91 عاماً، وليس لهم أثر في المدينة سوى اسمياً المسجد الأموي. بينما استمر الحكم الأيوبي لدمشق 89 عاماً، والمسجد الأموي الذي نعرفه اليوم أعاد الأيوبيون بناءه كاملاً بعد أن تعرض 5 مرات للحرائق، وأضافوا إليه طابعهم المعماري. وأعادوا بناء قلعة دمشق الحالية، وأطلقوا نهضة ثقافية في المدينة، وتركوا المدرسة العزيزية، والمدرسة العادلية، والمدرسة الكاملية، والتكية السعدية، والأضرحة والمقامات. ولا تزال مصر، والعراق، والإمارات، واليمن، وليبيا، وسوريا، تستخدم «نسر» صلاح الدين شعاراً للدولة. وإذا سارت الأمور كما يجب، سيكتشف الكرد الأثر الهائل الذي تركه ورائهم الأيوبيون على الجغرافيا السورية بأكملها. وعندما توفي صلاح الدين لم يترك وراءه سوى 40 درهماً من الفضة وديناراً واحداً من الذهب، فقد أنفق معظم ماله على رعاياه والحروب التي خاضها؛ وللمقارنة عندما توفي معاوية بن أبي سفيان ترك وراءه 50 مليون درهماً (بحسب روايات المؤرخين المسلمين).