يمثل النظام السياسي في سوريا مزيجاً من حكم الأغلبية وضمانات التعددية، حيث يحقق التمثيل العددي استقرار الحكم عبر منح الأغلبية السكانية القوة السياسية، بينما تضمن الآليات الدستورية مشاركة عادلة للمكونات الأخرى…
تحتل مسألة توازن السلطات وتمثيل المكونات الإثنية والدينية في سوريا مكانة مهمة في أي نقاش يهتم بالواقع السياسي والدستوري للبلاد. في هذا السياق، لا بد من إيجاد تسوية بين هذه المكونات على مستوى بنية النظام السياسي والدستوري، بما يؤمن إدارة التعددية السورية بطريقة متوازنة وعادلة إلى أبعد حد.
في الواقع، لا بد من إيجاد صيغة حكم تشاركية للدولة السورية التعددية، من خلال بناء المؤسسات الدستورية، وتحديد الصلاحيات الممنوحة لها، وسبل الرقابة والتأثير في ما بينها.
في هذا الإطار، يصبح من الضروري صياغة عقد اجتماعي جديد يستند إلى مبادئ المواطنة المتساوية، مع ضمان حقوق جميع المكونات ضمن إطار الدولة الموحدة. يجب أن يراعي هذا العقد مصالح الأغلبية العربية السنّية دون أن يؤدي ذلك إلى تهميش المكونات الأخرى، بل على العكس، ينبغي أن يُوفر لها ضمانات دستورية تكفل مشاركتها الفاعلة في صنع القرار السياسي والإداري.
إن تجارب الدول ذات التعددية الإثنية والدينية يمكن أن توفر نماذج قابلة للتطبيق في الحالة السورية، مثل الفيدرالية أو اللامركزية الموسعة التي تمنح صلاحيات محلية للمكونات المختلفة دون تقويض وحدة الدولة. يمكن أيضاً اعتماد نظام انتخابي يضمن التمثيل النسبي العادل، ما يسهم في تحقيق التوازن بين الأغلبية والمكونات الأخرى، ويحول دون استئثار أي طرف بالحكم.
لذلك، يمكن الاستفادة من التجربة العراقية لفهم كيفية تحقيق التوازن بين مبدأ حكم الأغلبية وضمانات للمكونات الأخرى. بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، أصبح الحكم في العراق بيد الأغلبية الشيعية، التي تمتعت بأكبر تمثيل سياسي في الدولة، مع ضمان حقوق المكونات الأخرى، وخاصة الأكراد والسنّة، من خلال بنية النظام والمؤسسات الدستورية.
منح الدستور العراقي لعام 2005 الأكراد حكماً ذاتياً في إقليم كردستان، مع سلطات واسعة في إدارة شؤونهم، كما أُقرّ نظام التشاركية الخاص، لضمان مشاركة جميع المكونات في الحكومة ومؤسسات الدولة.
واجه هذا النظام تحديات كثيرة في تحقيق التوازن بين حكم الأغلبية والضمانات للمكونات، إذ تحول مع الوقت إلى فيدرالية أكثرية، وأصبحت الضمانات في حدها الأدنى مع غياب قدرة المكونات على التأثير الكبير في السلطة الاتحادية. ولكن مع ذلك، يوفر نموذجاً يمكن الاستفادة منه.
إن بناء الفيدرالية التوافقية السورية، يجاوب في صلب فلسفتها على هذا المبدأ، حكم الأغلبية للعرب السنّة والضمانات للمكونات الأخرى، وهذا يعني صياغة عقد اجتماعي بين المكونات السورية يرتكز على هذه الفلسفة بما يضمن حقوق جميع المكونات.
ضمان حكم الأغلبية، ينطلق من نظام انتخابي، يعتمد على التمثيل العددي، حيث تعكس نتائج الانتخابات الأغلبية للعرب السنّة في مجلس النواب والحكومة الاتحادية.
يتم تشكيل مجلس النواب وفق التمثيل العددي المباشر، إذ تحصل كل منطقة على مقاعد تتناسب مع عدد سكانها، مما يتيح للأغلبية للعرب السنّة الحصول على معظم المقاعد. كما أن غياب التوزيع المذهبي أو الإثني يعزز من هذه الأغلبية، إذ يُترك التمثيل لعدد الناخبين فقط. يسهم نظام الاقتراع النسبي في ترجمة هذا التوزيع الديموغرافي إلى قوة سياسية داخل مجلس النواب، مما يمنح الأغلبية سيطرة على التشريعات واتخاذ القرارات المهمة.
وتنعكس هذه الأغلبية البرلمانية مباشرةً في تشكيل الحكومة الاتحادية، إذ يتم تعيين رئيس الوزراء من الكتلة الأكثر عدداً، ويتم توزيع الحقائب الوزارية وفق قاعدة تمنح الأغلبية حصة وازنة مع تمثيل معيّن للمكونات الأخرى لضمان الحد الأدنى من الشراكة السياسية. فعلى سبيل المثال، يتم توزيع المقاعد الوزارية لحكومة من 24 وزيراً على الشكل التالي: 13 عرب سنّة، 3 أكراد، 3 علويين، 3 مسيحيين، 1 دروز، 1 أقليات. كما يؤدي ذلك إلى قدرة الأغلبية على تمرير القوانين والسياسات بسهولة، مما يعزز استقرار الحكم ويقلل الحاجة إلى تحالفات معقدة قد تعرقل عمل السلطة التنفيذية.
وهذا ما يوصلنا، إلى الجزء الآخر من الفلسفة التي نطرحها للفيدرالية التوافقية في سوريا، وهي الضمانات للمكونات. والإشارة إلى الضمانات لا تعني ضمانات شفهية أو شكلية، بل هي في صلب العقد الاجتماعي بين المكونات والذي يرعى بنية المؤسسات الدستورية. إذاً، هي ضمانات في تكوين النظام السياسي، وخاصة من خلال تحقيق الاستقلال الذاتي المناسب للمكونات، وتأمين مشاركتها في السلطات الاتحادية، في ظل صلاحيات دستورية، ووسائل تأثير فعلية في القرار، بما يضمن المشاركة الفعالة.
يضمن النظام الفيدرالي استقلالاً ذاتياً للمكونات عبر مستويين رئيسيين: الأول، استقلال ثقافي ولغوي يتيح لكل مكوّن الحفاظ على خصوصيته وهويته ضمن إطار الدولة الاتحادية، وذلك من خلال ضمان حقوق التعليم باللغة الأم، وإقرار أنظمة أحوال شخصية تتوافق مع المعتقدات الدينية لكل مجموعة. الثاني، استقلال إداري على مستوى الوحدات الفيدرالية، حيث يمنح الدستور صلاحيات واسعة للمناطق، وحقّ تشكيل الولايات، بسلطات واسعة تشمل التشريعية، التنفيذية، والقضائية، لإدارة شؤونها محلياً وفق إرادة سكانها، مما يعزز من توازن السلطة داخل الدولة.
أما على المستوى الاتحادي، فتتمثل الضمانات الأخرى للمكونات في آليات دستورية تمنع تهميشها، مثل إنشاء مجلس رئاسي يضم ممثلين عن المكونات الأربعة الكبرى، لضمان قيادة توافقية، بالإضافة إلى مجلس الاتحاد الذي يعمل كغرفة تشريعية ثانية تعكس التنوع الديموغرافي والديني وتتيح للمكونات المختلفة دوراً فاعلاً في صياغة القوانين والسياسات الوطنية.
في الختام، يمثل النظام السياسي في سوريا مزيجاً من حكم الأغلبية وضمانات التعددية، حيث يحقق التمثيل العددي استقرار الحكم عبر منح الأغلبية السكانية القوة السياسية، بينما تضمن الآليات الدستورية مشاركة عادلة للمكونات الأخرى، مما يسهم في بناء دولة متوازنة قادرة على استيعاب التنوع المجتمعي وتحقيق العدالة السياسية لجميع مواطنيها.
يؤدي هذا النموذج إلى تحقيق توازن دقيق بين الأغلبية الديموغرافية وضمانات التعددية السياسية، مما يحمي المكونات الصغرى من التهميش، ويضمن استقرار الدولة عبر مشاركة الجميع في الحكم. ومن خلال آليات التصويت الخاصة، ونظام الفيتو المتبادل، والتمثيل التشريعي العادل، يصبح النظام الفيدرالي السوري نموذجاً متوازناً يمكنه استيعاب التنوع المجتمعي، وتحقيق العدالة السياسية لجميع المواطنين.
يمثل هذا النموذج مزيجاً من الضمانات السياسية والدستورية التي تؤمّن مشاركة جميع المكونات، مع ضمان الاستقرار والوحدة الوطنية عبر نظام اتحادي متوازن.