جاء في المخرج الرابع من البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني السوري (25/2/2025): “الإسراع بإعلان دستوري مؤقت يتناسب مع متطلبات المرحلة الانتقالية ويضمن سد الفراغ الدستوري بما يسرّع عمل أجهزة الدولة السورية”. ونصَّ المخرج السادس من ذلك البيان على تشكيل لجنة دستورية لإعداد مسودة دستور دائم للبلاد.
لقد كان البحث عن دستور لسورية هاجسًا أكبر بين هواجس كتابتي لرباعية “مدارات الشرق”. وما ذلك إلا لأن وضع الدساتير وتعطيلها وسما تاريخ سورية منذ قيامتها في مطلع القرن العشرين.
في ختام الجزء الثاني من الرباعية، وهو “بنات نعش”، الذي صدر في الطبعة الأولى عام 1990 يُقبِل هشام الساجي (الصحافي) على دستور المملكة السورية التي أعلنها المؤتمر السوري برئاسة الشيخ محمد رشيد رضا في دمشق في 8/3/1920، فصار الثامن من آذار/ مارس من كل عام عيد (المملكة السورية العربية) إلى أن اغتصبه الانقلاب الذي جاء بالبعث إلى الحكم، فصار عيد الثورة. وقد ظل الأردن يحتفل بعيد المملكة السورية حتى عام 1962.
كان هشام الساجي يُعِدّ للباشا شكيم ما ستلاقي به سورية مرحلة ما بعد ثورة 1925. ومن الإعداد كان أن أخذ يبدّل كلمة المملكة حيث جاءت في دستور 1920 بكلمة الجمهورية، وكلمة الملك بكلمة الرئيس. هكذا صارت الصياغة الجديدة للمادة الأولى: إن حكومة الجمهورية السورية العربية حكومة جمهورية مدنية نيابية عاصمتها دمشق الشام ودين رئيسها الإسلام.
لكن هشام سيتجاوز المواد التالية، إذ كيف يمكن أن يورّث الباشا شكيم أو سواه ممن سيكون رئيسًا في المرحلة القادمة ذكرًا من صلبه؟ بالطبع ما كان لمخيلة الكاتب الذي كتب الجزأين الأول والثاني من “مدارات الشرق” بين عامي 1986 – 1990، أن يتخيل أن حافظ الأسد سيورّث عما قريب ذكرًا من صلبه، وأن أصناءه غير الميامين سيسرعون إلى تقليده: حسني مبارك وابنه جمال، صدام حسين وابنه عدي، علي عبد الله صالح وابنه أحمد، وزين العابدين بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي. أما هشام الساجي فقد اندفع في مواءمة دستور المملكة لدستور الجمهورية المنشود والمنشودة، وما عاد يدقق فيما ينقل وما يضيف وما يبدل وما يحذف، فيجعل السوريين في المادة العاشرة متساوين في الحقوق والواجبات، ويعلي الحرية الشخصية فوق التعديات والتجاوزات، يحرم في مادة التعذيب والأذية مهما كانت الأسباب، ويشدد على صيانة المعتقدات والديانات والمساكن وأموال الأفراد وأموال الحكومة. ولما شرع يكتب المادة الخاصة بالمطبوعات خُيّل إليه أن جريدته تملأ أرض الغرفة وجدرانها وأيدي الصبيان وواجهات المكتبات. وجاءت تلك المادة كما هي في الدستور الملكي حرفيًا: المطبوعات حرة في ضمن دائرة القانون، ولا يجوز تفتيشها ومعاينتها قبل الطبع.
أعاد قراءة المادة مرارًا وهو يتوقف عند كلمة القانون، ورأى نفسه يعود إلى ما كتب، إذ اشترط ما يحدد القانون الدخول إلى المساكن أو تفتيشها، ولتوقيف الناس أو الإخلال بالأمن العام، فاضطرب وغمض عليه الأمر، ولعله لذلك انتقل إلى ما يخص القضاء، يطمئن المواد التي تصون استقلالية المحاكم، وحق كل إنسان بالدفاع عن نفسه أمامها، وتمنع تأليف محاكم غير المحاكم القانونية أو تأليف لجان تقضي كما المحاكم، إلا لجان التحكيم.
“كان البحث عن دستور لسورية هاجسًا أكبر بين هواجس كتابتي لرباعية
“مدارات الشرق”. وما ذلك إلا لأن وضع الدساتير وتعطيلها وسما تاريخ سورية منذ قيامها”
لكن الاضطراب عاوده وهو يقرأ في الدستور القديم: المحاكمات تكون علنية، ما عدا المحاكمات التي يجيز القانون جعلها سرية، وخاف من أن يكون هذا القانون الذي يلح عليه ذريعة أيضًا لسواه، كي يجعل تلك المواد حبرًا على ورق. وتوقف عن الكتابة ذلك النهار، ثم تابع بدون أن تهدأ وساوسه، حتى إذا وصل إلى المادة أربعين رمى بالقلم جانبًا، وكانت المادة تقول: إذا ظهر في أحد أنحاء المملكة – قرأها الجمهورية – ثورة أو دخلت الحكومة في حرب أو أعلنت النفير العام، فللحكومة العامة أن تعلن الأحكام العرفية مؤقتًا بموجب قانونها الخاص – ولم يقرأ: الذي يصدر من المؤتمر – على شرط أن تكون الإدارة العرفية في حال ظهور الثورة مقتصرة على المنطقة التي تظهر فيها.
عندئذ أحس أنه لن يكون قادرًا الآن، ولا وحده، على أن يخرج بما يُرضي، فأزاح الأوراق التي كتب، ومعها أزاح الدستور الملكي جانبًا وهجس أسيان: ما أضرط من الحبر إلا الورق.
بعد عشرين سنة من كتابة “بنات نعش” عاد الهجس بالدستور يسكنني وأنا أتهيأ لكتابة رواية “حجر السرائر” التي صدرت في الطبعة الأولى عام 2010.
هكذا افتتحت الروايةَ شخصيةُ المحامي الشاب رمزي الكهرمان، عضو لجنة وضع أول دستور جمهوري لسورية عام 1929. وتصور الرواية اللحظات الأخيرة من حياة الرجل، في غرفة من مزرعة أخيه عبد الواسع في غوطة دمشق، حيث يرى رمزي عددًا قديمًا من المجلة الحقوقية، ويقرأ في صدرها: “حقوقية بوليسية انتقادية روائية فكاهية تبحث في علم الحقوق والشؤون العدلية والحوادث القضائية”. وهذه المجلة ليست من بنات الخيال، بل من الوثائق التي تمثّلها الرواية.
كان موضوع المذكرة التي يعدها رمزي الكهرمان هو الخصومة السياسية والجريمة السياسية في القانون. وكان أخوه عبد الواسع قد سأله ساخرًا عندما حدثه عن ذلك: “القانون الفرنسي أم القانون السوري؟” فقال رمزي: “ستقرأ ما أكتب. أريد رأيك”. ورد عبد الواسع: “الرأي رأيك ورأيها”. فسأل رمزي: “من هي؟” فأجاب عبد الواسع: “لجنة الدستور يا أبو الدستور”.
في هذا الجواب جاءت الإشارة إلى الشخصية التاريخية التي لولاها ما كانت شخصية رمزي الكهرمان في رواية “حجر السرائر”. إنه ذلك الشاب الذي فاز بعضوية المجلس التأسيسي المنتخب عام 1928 والمكلف بوضع أول دستور جمهوري لسورية. الشاب الذي كان الرئيس الثاني لذلك المجلس، بينما كان هاشم الأتاسي (1875 – 1960) الرئيس الأول.
ذلك الشاب هو فوزي الغزي (1897 – 1929) أحد مؤسسي الكتلة الوطنية، والذي عمل مع فارس الخوري (1877 – 1962) على صياغة أهداف حزب الشعب ونظامه الأساسي عام 1925. كما عمل فوزي الغزي مع عبد الرحمن الشهبندر (1879 – 1940) في الثورة السورية 1925 – 1927 وسُجن في سجن جزيرة أرواد. وقد اشتهر فوزي الغزي بلقب “أبو الدستور” لدوره في إنجاز دستور 1928 خلال أسبوعين، مستلهمًا من الدساتير الأوروبية، بينما يجري الحديث اليوم عن الحاجة إلى سنوات لإعداد الدستور. وفي رئاء فارس الخوري لفوزي الغزي جاء: “يبكيك أحرار سوريا وأنت أخ / ويبكيك دستور سوريا وأنت أبُ”.
تحت عنوان “الثامن من آذار السوري… هل نعود للاحتفال بالاستقلال والدستور” كتب الصديق محمد موفق أرناؤوط. وإذ أضيف الاحتفال بعيد المرأة العالمي إلى الثامن من آذار/ مارس السوري، أصدع وأصدح بالجواب: نعم، سنحتفل، وعسى أن يكون ذلك بعد سنة.