غالباً ما كانت العلاقات التركية – الإيرانية تشهد خلافات أو تباينات، مردّها أكثر من سبب. كما غالباً ما كانت أنقرة، حتى في عهد الحكومات العلمانية التي سبقت وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة عام 2002، «تتفهّم» السلوك الإيراني، انطلاقاً من «ثابتة» أنّ انفجار العلاقات بين البلدَين ممنوع، مهما كانت الظروف. ومبدئيّاً، توطّدت العلاقات بين أنقرة وطهران مع وصول الإسلاميين إلى السلطة، واعتبار إيران وجودَ «إسلاميّ»، هو رجب طيب إردوغان، على رأس النظام في تركيا، أفضل بما لا يقاس من وجود العلمانيين. وقد أَظهر الرئيس التركي، في أكثر من مناسبة، صحّة الظنّ الإيراني به، فتمرّد على العقوبات الغربية على الجمهورية الإسلامية في مجال الطاقة وحركة الأموال، ولكن من دون أن يلغي ما تقدَّم أنه طبّق أحياناً جانباً من هذه العقوبات، ولا سيما لجهة تقليص واردات النفط والغاز من إيران. كما أنه لا يلغي، وهذا الأهمّ، أن الخلافات بين البلدَين لم تكن يوماً هامشية، بل تعود أصلاً إلى طبيعة النظامَين واصطفافاتهما الإقليمية والدولية، وفي مقدّمة ذلك الانتماء الأطلسي لتركيا، وعلاقاتها القديمة والثابتة والقوية مع إسرائيل، والتي ما فتئت تتوطّد في حقبة «العدالة والتنمية».جاءت عملية «طوفان الأقصى»، في السابع من أكتوبر، مفاجئة جداً بالنسبة إلى تركيا التي ارتبكت إزاء ما يجب فعْله حيالها، ولا سيما أنّ أولويتها تتمثّل في الحفاظ على ما وصل إليه مسار التطبيع بينها وبين إسرائيل، كما «المصالحة» مع «حلف شمال الأطلسي» في «قمّة فيلنيوس»، فضلاً عن المصالحات مع دول أخرى، من مثل السعودية والإمارات. ولذا، حاولت تركيا الوقوف على مسافة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، وهو ما أثار، من دون شكّ، انزعاج فصائل المقاومة، وفي طليعتها «حماس». ومع أنّ الخطاب التركي ارتقى تصعيداً، وصولاً إلى قول إردوغان إن التاريخ سيذكر رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، بوصفه «جزّار غزة»، كما هو آرييل شارون «جزّار بيروت»، إلّا أن عدم اتّخاذ تركيا أيّ إجراء عملي ضدّ إسرائيل، سواء على المستوى الديبلوماسي أو الاقتصادي، أسهم في بقاء حالة الانزعاج تلك.
غير أن هذه القضية انتقلت إلى مستوى أعلى، أولاً مع لقاء الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إردوغان في قمّة «منظمة التعاون الاقتصادي» في أوزبكستان في التاسع من تشرين الثاني الماضي، ثمّ لقاؤهما على هامش القمة العربية – الإسلامية في الرياض، بعد يومين من قمّة طشقند. ويوم الأحد الماضي، في الـ26 من الشهر نفسه، أعلن إردوغان أن رئيسي سيزور أنقرة، يوم الثلاثاء في الـ28 منه، ولكن المفاجأة أن الزيارة لم تحصل، ليذهب البعض إلى ربط إلغائها أو تأجيلها بمشاركة مزمعة لرئيسي في نشاط جماهيري في أنقرة كان مقرّراً تنظيمه في اليوم نفسه للزيارة، وهو ما اعتبرته تركيا غير مناسب، فكان أن ألغت النشاط، ما أدّى بدوره إلى ردّ فعل إيراني تمثّل في إلغاء الزيارة من أساسها. وإذ يمكن أن يكون ذلك هو السبب المباشر للتأجيل، إلّا أنّ أيّ تأكيد أو نفي لهذه «المعلومة» لم يخرج من أنقرة، فيما عزا وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، الإرجاء إلى أسباب شكلية مرتبطة بجلسة مجلس الأمن الدولي حول غزة، والتي عُقدت بعد يوم من زيارة رئيسي (الملغاة) إلى أنقرة، ووجود وزيرَي خارجيتَي البلدَين في نيويورك، يوم الزيارة. لكن ما كان يعتمل في مسار العلاقات بين البلدَين في ما يتعلّق بالوضع في غزة، كان يشير إلى ما هو أعمق وأبعد من نشاط جماهيري في أنقرة، أو جلسة أمميّة في نيويورك.
الخلافات بين أنقرة وطهران لم تكن يوماً هامشية، بل تعود أصلاً إلى طبيعة النظامَين واصطفافاتهما الإقليمية والدولية
وإذا كان الخلاف بين إيران وتركيا حول سوريا واضحاً و«قديماً»، في ظلّ امتناع إردوغان عن القيام بخطوات تصالحية مع دمشق، في مقابل تسريعه مسار التطبيع مع إسرائيل، فإن التباين الكبير بينهما تجاه الموقف من عملية «طوفان الأقصى» جعل الخلافات تَظهر إلى العلن. والقصّة، وفقاً لصحيفة «آيدينلق»، بدأت مع زيارة عبد اللهيان إلى أنقرة، في الأول من تشرين الثاني الماضي، واتفاقه مع المسؤولين الأتراك على التحرّك بصورة مشتركة والتنسيق في شأن الوضع في غزة. ولاحقاً، خلال قمّة طشقند، اقترحت إيران على تركيا القيام بخطوات عملية ترجمةً لهذا التحرّك المشترك، بوقف صادرات النفط والغاز (ومعظمها من آذربيجان) والمواد الغذائية، إلى إسرائيل. لكن تركيا لم تتّخذ أيّ إجراء ضدّ إسرائيل، معتبرةً أن الضغط على الولايات المتحدة وأوروبا يعطي نتائج أكثر من أيّ خطوة عدائية تجاه دولة الاحتلال يمكن أن تزيد من «انعدام الثقة» بين دول المنطقة، كما قالت. كذلك، كان وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، قد زار أنقرة يوم السادس من تشرين الثاني، وحذّرها من أيّ تنسيق أو تعاون مع طهران في شأن غزة. وفي هذا الجانب، نقلت الصحيفة عن الأستاذ في جامعة طهران، فؤاد إيزادي، قوله إن «قطع التنسيق بين تركيا وإيران، يعني بلوغ إسرائيل أهدافها». وأضاف: «إيران تدعم المقاومة الفلسطينية في كلّ شيء، من السلاح إلى المال. لكن بعض الدول الإسلامية، مثل آذربيجان، لا تزال تؤمّن حاجات إسرائيل من الطاقة، وتمرّ هذه الصادرات عبر أراضي دول مسلمة (مثل تركيا)».
وفي السياق ذاته، أشارت مواقع تركية إلى ما نُشر على موقع المرشد الإيراني، علي الخامنئي، من رسم غرافيك يُظهر الدول الإسلامية الأكثر ملأً بالنفط خزانات وقود آلة القتل الإسرائيلية. ويرد في الرسم، كلّ من كازاخستان وآذربيجان والبحرين والأردن والإمارات ومصر، فيما تُذكر تركيا كأكثر الدول المصدّرة إلى إسرائيل. ونقل الموقع عن الخامنئي قوله، في الـ19 من تشرين الثاني الماضي، إن الدول الإسلامية يجب أن تمنع وصول الطاقة والمواد الغذائية إلى إسرائيل، معدّداً أنواع المنتجات التي تصدّرها أنقرة إلى تل أبيب، من حديد وفولاذ وسيراميك وأغذية ومواد بناء وغيرها، ومشيراً إلى أن الصادرات التركية إلى إسرائيل، بلغت عام 2022، خمسة مليارات و700 مليون دولار، في حين استوردت إسرائيل من تركيا ما يعادل 6.2% من مجمل وارداتها.
كذلك، تشير بعض تلك المواقع إلى وجود فيديو على موقع الخامنئي عن لقاء إردوغان ونتنياهو في نيويورك، مع الإشارة إلى أن إسرائيل تستورد 99% من حاجتها من النفط من الخارج، وأن 65% من هذه الواردات تأتي من ثلاث دول إسلامية، هي: آذربيجان وكازاخستان ومصر. وبحسب الفيديو، فإنه «رغم الخطاب السياسي القوي للمسؤولين الأتراك، ولكن تركيا من بين الدول الخمس الأولى التي تصدّر منتجات إلى الصهاينة».
وفي ظلّ هذه التباينات والأجواء المتشنّجة، كان من الطبيعي أن تؤجّل زيارة رئيسي إلى أنقرة. لكن ذلك لا يلغي أن البلدين يُجيدان لعبة التعاون والتنافس، وأنّ من المتوقّع تحديد موعد آخر للزيارة.