في أوائل الشهر الجاري، قال رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي في مقابلة إعلامية “إن التقسيم لو حصل إكراها، فإن شيعة العراق سيتفردون بالحصول على الثروات النفطية”، قاصدا بذلك الرد على إمكانية مطالبة القوى السياسية “العربية السنية” في العراق بأية حلول لا مركزية أو فيدرالية. وهو أمر فسره مراقبو الشأن العراقي كتحول نوعي في طبيعة التعاطي والروابط والتوازنات السياسية في البلاد، بالأخص من حيث العلاقة بين الجماعات السياسية/ الأهلية الثلاث الرئيسة في البلاد، الشيعية السنة والأكراد، وتأثرها برعاتها وداعميها الإقليميين والدوليين والتوازن فيما بينهم.

فحتى مدة قريبة ماضية، كانت النواة الصلبة للقوى السياسية الشيعية العراقية، المهيمن عليها من قِبل إيران، والتي يشكل المالكي وتنظيمه السياسي وكتلته البرلمانية واحدا من أهم أركانها، كانت ترفض أي نقاش سياسي في ذلك السياق. وتمارس مركزية سياسية وإدارية وأمنية على كافة مناطق العراق، خلا إقليم كردستان، وإن كانت تمارس أقصى الضغوط الاقتصادية والسياسية والأمنية عليه، وصلت درجة قطع رواتب موظفيه طوال شهور أو استهداف منشآته المدنية عبر فصائل وميليشيات تحمل تسميات ويافطات “وظيفية”.

يربط المراقبون عودة هذا النقاش راهنا بالتحول الإقليمي الأبرز، المتمثل بتراجع نفوذ إيران الإقليمي، بعد هزيمة “حزب الله” وسقوط النظام السوري السابق. المترافق مع إجراءات عِقابية قد تتخذها الولايات المتحدة أو إسرائيل تجاه فصائل الحشد الشعبي العراقية، المصنفة عرفا كجناح عسكري لتلك النواة السياسية العراقية الصلبة، الموالية لإيران.

إيران في الصورة
ثلاثة أسباب مركبة كانت تدفع استراتيجية إيران العراقية لأن تكون شديدة “المركزية”، بالأخص تجاه “العرب السنة”. فهذه الاستراتيجية سلكت دربا طويلا منذ عام 2005، إلى أن تمكنت من تحقيق ذلك، واستخدمت خلاله كل الأدوات الممكنة من المجال العراقي، من ممارسة ضغوط هائلة على الساسة والتنظيمات الحزبية في المناطق السنية، مرورا بفرض الإرادة العسكرية من خلال فصائل الحشد الشعبي، وليس انتهاء بالتشريعات البرلمانية والأحكام القضائية الصادرة خصيصا بغرض تحجيم الحضور السياسي لهذه المنطقة وممثليها السياسيين في المشهد العام للبلاد.

لا تبدو إيران راهنا قادرة على القيام بدور الرعاية التقليدي نفسه الذي كانت تتخذه في العراق. وفي عين الوقت، لا تبدو القوى السياسية العراقية المركزية جاهزة لإحداث تغير جوهري في طبيعة وآليات العمل السياسي

فالقوى السنية العراقية كانت مركز معارضة جذرية للنفوذ والهيمنة الإيرانية على العراق. وكانت إيران تعرف أن حصولها على مساحة للفعل السياسي المستقل، المتعامد مع أية جغرافيا تتسم باللامركزية السياسية، سينمي المعارضة الجذرية والمستدامة للنفوذ الإيراني في العراق، تحديدا في دواخلها السياسية والشعبية، وبدرجة أقل في البرلمان والحكومة الاتحادية. فأية لا مركزية جغرافية داخل العراق، شبيهة بما لإقليم كردستان، كانت ستحقق حماية سياسية للقوى السنية العراقية المناهضة لإيران.

وفي مرحلة متقدمة، تحديدا بعد عام 2011، كان تنامي قدرة العرب السنة في العراق على التحكم بمناطقهم، دون سيطرة واضحة ومطلقة للسلطة المركزية، كان يعني قطع سلسلة مناطق نفوذ إيران الإقليمية. فالمناطق السنية الشاسعة في العراق، التي تشمل كل المحافظات الوسطى والغربية، كانت تشكل فالقا جغرافيا/سياسيا بين العراق وسوريا، مركزي ثقل النفوذ الإيراني.

وبين الأمرين، كان تمتع السنة العراقيين بشيء من اللامركزية يعني تحول العراق فعليا إلى ثلاث دويلات مترابطة، وتاليا زيادة نسبية في شرعية ونفوذ إقليم كردستان، الذي تعتبره إيران مسا بأمنها القومي الداخلي، بسبب القضية الكردية داخل إيران.

رويترزرويترز
رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي لدى وصوله للتصويت في انتخابات مجالس المحافظات العراقية، في مركز اقتراع ببغداد، العراق، 18 ديسمبر 2023
خيارات العرب السنة
لا تبدو إيران راهنا قادرة على القيام بدور الرعاية التقليدي نفسه الذي كانت تتخذه في العراق. وفي عين الوقت، لا تبدو القوى السياسية العراقية المركزية جاهزة لإحداث تغير جوهري في طبيعة وآليات العمل السياسي، تحديدا من موقع الشراكة الحقيقية في القرار الاستراتيجي والمؤسسات الأمنية والعسكرية في البلاد، أي الجوهر الفعلي للسلطة في العراق.

مجموع الأمرين يدفع مختلف القوى السياسية السنية العراقية نحو التفكير بخيارات سياسية “غير تقليدية”، تفكك المعادلة الحالية وتعيد ترتيب الحياة السياسية بطريقة يكون فيها للممثلين السياسيين لهذه الجماعة دور وحضور أكبر في المشهد السياسي، وهي خيارات يمكن تصنيفها حسب ثلاثة مستويات:

على أقصى اليمين، ثمة القوى والشخصيات التي تطالب بتأسيس إقليم فيدرالي خاص، تحت اسم “الإقليم العربي”، أسوة بـ”إقليم كردستان” يضم أغلب مناطق “العرب السنة” في العراق، في محافظات صلاح الدين ونينوى “الموصل” والأنبار وديالى، مع تفاوض على آليات حكم محافظتي بغداد وكركوك.

ثمة قوى سياسية عراقية “سنية” تستخدم “ملف اللامركزية” كأداة للضغط على النواة السياسية الحاكمة

يتصدر الشيخ ثائر البياتي، الأمين العام لمجلس العشائر العربية ومؤسس “جبهة إنقاذ العراق” هذه المبادرة منذ عام 2018، لكنه عاد مجددا إلى زيادة نشاطه الإعلامي والسياسي، والذي يدعي خلاله تمثيله للأغلبية المطلقة من “العرب السنة” في العراق، مؤكدا خشية بقية الأطراف السياسية “السنية” من التصريح بموقفها السياسي من الموضوع، بسبب ما تتعرض له من ضغوط وابتزاز من فصائل “الحشد الشعبي”، مؤكدا جاهزية المشروع من كل جوانبه، معلنا انطلاقه عما قريب.

الكثير من الساسة والتنظيمات السياسية العراقية “السنية” لا تعتبر البياتي ودعواته جدية وقادرة على إنتاج قيمة سياسية، مشيرين إلى عشرات الدعوات والخطابات المناهضة للنواة الصلبة للسلطة جذريا، التي لم تأتِ بأية نتيجة إيجابية على القواعد الاجتماعية والواقع السياسي في البلاد، بل على العكس تماما، حسب رأيهم، أوصلت الاستقطاب السياسي والإعلامي والطائفي إلى حده الأقصى، وتاليا فتحت باب “الجحيم” على المجتمعات والجغرافيات السنية، وفعليا خدمت القوى السياسية العراقية الموالية لإيران.

يعتبر السياسي العراقي “السني” البارز مشعان الجبوري ترك تلك “الرومانسية” السياسية أساسا للوصول إلى حلول واقعية وذات قيمة وتأثير على الواقع السياسي الحالي. الجبوري المقرب من زعيم “تحالف العزم” ورئيس حزب “السيادة” خميس الخنجر، وأحد منظمي التنسيق بين الزعماء السياسيين للعرب السنة في العراق، يطالب السلطات العراقية باتخاذ إجراءات سريعة وواقعية، مثل تطبيق بنود “قانون العفو العام” الصادر مؤخرا، وإطلاق سراح آلاف الشبان الذين اعتقلوا لأسباب طائفية غير قانونية، مثل استناد القوات الأمنية على تقارير كيدية وشهود غير مصرح بأسمائهم. كذلك يطالب الجبوري بإخراج فصائل الحشد الشعبي من المدن ذات الأغلبية السنية، وإعطاء مزيد من الصلاحيات للسلطات المحلية، مع حمايتها من تدخلات المكاتب الاقتصادية والإدارية التابعة للفصائل. فمثل هذه الإجراءات ستعيد الثقة والشعور بالأمان، وتاليا ترك باقي التفاصيل لمفاوضات وتوافقات القوى السياسية.

أ.ف.بأ.ف.ب
مشعان الجبوري، في 7 فبراير 2022
بين الجانبين، ثمة قوى سياسية عراقية “سنية” تستخدم “ملف اللامركزية” كأداة للضغط على النواة السياسية الحاكمة. فرئيس البرلمان المعزول محمد الحلبوسي استخدم هذا الملف مطولا منذ ربيع عام 2023، حينما عزل عن رئاسة البرلمان، وقاد اجتماعات موسعة للزعماء السياسيين والعشائريين في محافظة الأنبار، أكبر محافظات العراق، للإيحاء بالاستعداد الجدي للمطالبة باللامركزية السياسية في مناطقهم.

ترى الكثير من القوى السياسية أن الحلبوسي يستخدم هذا الملف في سياق الضغط على النواة الصلبة للسلطة فحسب، دون أية إجراءات جدية، مستندين في ذلك إلى طروحات الحلبوسي في ذروة صراعه مع السلطة المركزية قبل عامين، التي دعا خلالها إلى تطبيق المادتين الدستوريتين 117 و119، اللتين تعترفان بحق مختلف المحافظات في تشكيل أقاليم ومناطق ذات حكم ذاتي، فيما لو أقرت مجالس المحافظات ذلك، لكنه ما لبث أن تراجع عن تلك الطروحات، بعد توافقه مجددا من السلطة المركزية، على الرغم من امتلاك “حزب تقدم” الذي يتزعمه الحلبوسي لغالبية مقاعد مجلس محافظة الأنبار مثلا.

تشكيل إقليم ذاتي في المناطق السنية الشاسعة للغاية قد يخلق تحديا أمنيا رهيبا، للعراق بالعموم، ولسكان تلك المناطق تحديدا، يتمثل في إمكانية عودة تنظيم “داعش” الإرهابي إلى النشاط

وبغض النظر عما تعلنه أو تضمره القوى السياسية “السنية” كرؤى ومطالبات وحلول سياسية لموقعهم وواقعهم السياسي غير المرضي عنه راهنا، فإن أغلبية واضحة من القواعد الاجتماعية “السنية” تظهر نزوعا واضحا لكسر الحلقة الحالية من العلاقات السياسية، بينها وبين المؤسسات المركزية، الأمنية والاقتصادية تحديدا. تجد نفسها منجذبة لأية طروحات تخلق لها قدرة على إدارة شؤونها الداخلية التفصيلية بمزيد من الاستقلالية عن التدفق المستدام للمركز.

حسابات وحساسيات
لا تتحرك هذه الدعوات والبرامج السياسية في بيئة اعتيادية. فمجموع القواعد الاجتماعية والأحزاب السياسية الممثلة لها، وإن كانت ترى في تجربة إقليم كردستان نموذجا ناجحا لتنمية الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحتى الأمنية، داخليا، دون تدخل أو هيمنة تفصيلية من السلطة المركزية؛ لكنها في المقابل تعرف أن تلك التطلعات قد تواجهها صعوبات جيوسياسية قد تطيح بها تماما، وغالبا قد تعكسها.

فتشكيل إقليم ذاتي في المناطق السنية الشاسعة للغاية قد يخلق تحديا أمنيا رهيبا، للعراق بالعموم، ولسكان تلك المناطق تحديدا، يتمثل في إمكانية عودة تنظيم “داعش” الإرهابي إلى النشاط. ويعزو المراقبون إمكانية حدوث ذلك إلى أسباب تتعلق بالخلافات الداخلية بين القوى السياسية والعشائرية الرئيسة في هذه البيئة، التي قد تتحول إلى خلافات وتصدعات مناطقية، وتمتد إلى مسألة قلة الخبرات الأمنية والعسكرية لسكانها المحليين، بعد احتكار جماعة أهلية عراقية واحدة للمناصب الرئيسة في ذلك السياق طوال السنوات الماضية.

المسألة الثانية متمثلة في تأثيرات ذلك على الوقائع العامة للعراق، خصوصا على موقع ودور إقليم كردستان. فخلق “الإقليم السني” يعني فعليا تضعضع السلطة المركزية، وتاليا زيادة في دور إقليم كردستان وسلطاته، وأولا قدرته على حل النزاعات التاريخية العالقة بينه وبين هذه السلطة المركزية، وعلى رأسها قضية المناطق المتنازع عليها، كمحافظة كركوك وقضائي سنجار وخانقين. فهذه المسائل التي كانت عالقة بين إقليم كردستان والسلطة المركزية، الأقوى تشريعيا وسياسيا وحتى عسكريا، ستصير مسائل بين إقليمين فحسب، لإقليم كردستان في تلك المعادلة طاقة شرعية وقدرة منازعة أكبر، وهذا ما قد تعترض عليه القوى الإقليمية بحزم شديد، تحديدا تركيا وإيران.

أخيرا، فإن هكذا مشروع يتطلب بيئة إقليمية وحتى دولية واضحة. فسقوط النظام السوري وتراجع النفوذ الإيراني يشكل فقط أساسا سياسيا أوليا لذلك، لكنه لا يعني حتمية نجاحه. فالمسألة في المحصلة مجرد علاقة داخلية عراقية، وكما تمكنت النواة الصلبة في السلطة الحاكمة من الإطاحة بالكثير من التطلعات السياسية الداخلية، عبر استخدام عدد لا متناهٍ من الأدوات، بما في ذلك التساهل مع إمكانية سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي على قرابة ثلث مساحة العراق، فإنها قد تفعل أشياء مثل ذلك مجددا. وهذا ما قد يجر الويلات على هذه البيئة، “الجريحة” بالأساس من التجارب السابقة.

+ / –
font change
حفظ
شارك