لم يحظ “الإعلان الدستوري” الذي أصدرته القيادة السورية المؤقتة بإجماع السوريين. وهذا أمر بديهي، إذ لا يمكن لأي شعب أن يتوافق على كل شيء، فالتطابق سمة لدول الأنظمة الاستبدادية والشمولية.

بيد أن خصوصية التجربة السورية تحيل الخلافات الحاصلة والصاخبة بين السوريين، ليس فقط إلى خشية بعضهم من إمكان تجيير ذلك الإعلان لتعزيز النواحي السلطوية على حساب غيرها، لشعب خرج للتو من ربقة واحد من أعتى أنظمة الاستبداد، ولا بالنظر للتسرع في صوغ الإعلان، وقبله طريقة تنظيم مؤتمر الحوار الوطني، وإنما لأن السوريين مختلفون، أصلا، على أشياء كثيرة، تبعا لواقعهم وتاريخهم، وكونهم لم يتعودوا على تنظيم اختلافاتهم أو توافقاتهم، وإيجاد مخارج لها بواسطة الحوار والطرق الديمقراطية. وأيضا، لأنهم من الأساس، لم يعتادوا تعريف ذاتهم كشعب، مع الاحترام لشعار “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”، الذي يبرز، فقط، كهتاف في المظاهرات، من دون تمثلات مناسبة له في الواقع.

تكمن مشكلة السوريين في أن نظام الأسد (الأب والابن) حرمهم أولا من الدولة التي ابتلعتها السلطة، ومن المواطنة التي تكفل صيرورتهم كشعب

ولعل أكثر أمرين افتقد السوريون لهما، طوال العقود السابقة، هما: الدولة أي دولة المؤسسات والقانون، والمواطنة أي كمكانة سياسية وحقوقية وكعلاقات فيما بينهم وما بينهم وبين الدولة. فالأولى، أي الدولة، هي شرط الديمقراطية. والثانية، أي المواطنة، هي شرط المجتمع المدني وشرط تحول السوريين- الأفراد الذين تتشكل منهم الجماعات- إلى مجتمع أو إلى شعب حقا، لذا فهما أيضا أكثر أمرين يحتاجهما السوريون في هذه المرحلة.

وتكمن مشكلة السوريين في أن نظام الأسد (الأب والابن) حرمهم أولا من الدولة التي ابتلعتها السلطة، ومن المواطنة التي تكفل صيرورتهم كشعب، فاقم منها انتهاجه سياسة “فرق تسد”، ووضع كل جماعة سورية في مواجهة غيرها، زارعا الخوف والكراهية والتنافسية السلبية فيما بينهم. أيضا، فقد حرم السوريين من السياسة، وبالتالي فهم لم يتعودوا على تقاليد المشاركة السياسية، طوال أكثر من نصف قرن، لذا فبعد أن باتوا على مسرح التاريخ، ظهر أن فائضا من الكلام لديهم، لكن من دون خبرات أو تقاليد حزبية، أو تجارب كفاحية. وتاليا فقد فاقم من كل ما تقدم أن السوريين، بعد انهيار النظام، وجدوا أنفسهم إزاء فراغ وانهيار كبيرين، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والمرجعيات، لصالح غلبة هويات أولية، إثنية وطائفية وعشائرية ومناطقية وطبقية، وكلها على حساب الهوية الوطنية.

ربما كل ذلك يفسر أن ردود الفعل ذات الطابع الشعبي على الإعلان أتت بأحكام متسرعة ومطلقة وبتحيزات مسبقة، مع توجسات مشروعة، بغض النظر عن الموقف من الإعلان سلبا أو إيجابا، تأييدا مطلقا أو رفضا مطلقا.

طبعا، يمكن الحديث عن سلبيات أو نواقص كثيرة في الإعلان الدستوري، كما يمكن الحديث عن إيجابيات كثيرة فيه، بيد أن ما يجب إدراكه، أن الأمر يتعلق بإعلان دستوري مؤقت، بمعنى أن التفاعلات القادمة بين السوريين أنفسهم، وبينهم وبين الحكم الجديد، هي التي ستحدد طبيعة الدستور القادم ومعه طبيعة الحكم.

ربما كان الأفضل للدستور لو نص على أن “السيادة هي للشعب” وأن “الدستور هو السلطة العليا، ولا سلطة لأحد فوقه”، وهذا مهم في دساتير النظم الجمهورية بدلالته السياسية

ما يفترض إدراكه أيضا أنه ليس من الواقعي انتظار تحول سوريا دفعة واحدة من دولة استبدادية إلى دولة ديمقراطية وحريات ومواطنين. فهذا هو الأمل، بيد أن ذلك يستلزم ترسيخ ثقافة الديمقراطية والمواطنة والحريات وحقوق الإنسان في المجتمع، أي ثقافة تتأسس على إتاحة حرية الرأي والتعبير والتظاهر، وحرية الأحزاب والإعلام، وهذه كلها مفتقدة في الواقع السوري، منذ ستة عقود، عدا أن الدولة ذاتها ما زالت مفتقدة فيه.

كل ما تقدم ليس له علاقة بالحكم الجديد، أين أخطأ أو أين أصاب؟ فهذا شأن آخر، لكن الحديث هنا يتعلق بالواقع المتعين في سوريا، حتى لا يبقى الكلام وقفا على وصفات إنشائية جاهزة، على شكل “روشيتات” نظرية، تنفع لأي مكان وزمان.

مثلا، ربما كان الأفضل للدستور لو نص على أن “السيادة هي للشعب” وأن “الدستور هو السلطة العليا، ولا سلطة لأحد فوقه”، وهذا مهم في دساتير النظم الجمهورية بدلالته السياسية. كما كان من المهم الإشارة ليس فقط إلى استقلالية السلطات الثلاث، وإنما النص على عدم هيمنة سلطة على أخرى، وأيضا أن النظام السياسي في سوريا ديمقراطي، وعلى أساس التداول بواسطة الانتخابات، وكذلك عدم تقييد حق ما بإجراءات سلطوية، تبعا لرغبة السلطة التنفيذية، لأن الدستور والقوانين، هي التي تنظم تلك المسائل.

مع ذلك ينبغي الأخذ بالاعتبار أن البلد يقوم من نقطة الصفر، أو ما دونه، سواء بالنسبة لقيامة الدولة، أو لقيام المواطنة/المجتمع؛ هذا أولا. ثانيا: ما يفترض ملاحظته هنا أن المسألة لا تتعلق بالنص فقط، وإنما بطبيعة السلطة، وتوجهاتها. مثلا نظام “الأسد” (الاب والابن)، قام على مبادئ “الوحدة والحرية والاشتراكية” ومقاومة إسرائيل والإمبريالية، وأن فلسطين قضيته المركزية، لكنه جعل من كل ذلك “عدة شغل”، أي للنصب والابتزاز والتسلط. وهذا دستور نظام “الأسدين” (1973-2012)، نص على أن “الجمهورية العربية السورية” دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية (م1)، وأن “السيادة للشعب” (م2) وأن مجالس الشعب مؤسسات منتخبة انتخابا ديمقراطيا يمارس المواطنون من خلالها حقوقهم في إدارة الدولة وقيادة المجتمع (م10). ونص في المادة (25) على أن الحرية حق مقدس، وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم… المواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات. وفي المادة (28) بأن كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي… ولا يجوز تحري أحد أو توقيفه إلا وفقا للقانون… لا يجوز تعذيب أحد جسديا أو معنويا أو معاملته معاملة مهينة”، لكن ذلك النظام دمر حياة الشعب السوري ودمر سوريا.

أيضا، فإن مشكلة السوريين في نقاشاتهم حول الإعلان، أنهم يبدون كأنهم يقفون في خندقين متقابلين، الموافقون ضد المعترضين وبالعكس، ومن ليس معنا ضدنا، إما وطني أو عميل، وهذا غير صحي البتة، وهذا ضد مبدأ الحرية الذي ضحى من أجله السوريون، وضد مبدأ الديمقراطية، وبخاصة أن كل طرف يدعي أنه يمثل الشعب أو أنه كل الشعب!