لعل أبرز وأهم اختبار يواجه الإدارة في دمشق على صعيد سياستها الخارجية، يتعلق أساسًا بالعلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، نظرًا لما تمثلانه من تحديات على مستويات عدة، وما تملكانه من قدرات للتأثير على مجريات الأمور في سوريا، بينما تبدو دمشق حيالهما منزوعة الحول والقوة، وغير قادرة حتى على اتخاذ مواقف واضحة حتى الآن لتحديد إطار هذه العلاقات.
وفي ظل شحّ في التصريحات الصادرة عن مسؤولي إدارة الرئيس دونالد ترمب، والتي قد تُقرأ منها ملامح الموقف الأميركي حيال سوريا، جاءت تصريحات مبعوث الرئيس الأميركي للشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، والتي أعرب فيها عن اعتقاده بإمكانية تطبيع لبنان وسوريا للعلاقات مع إسرائيل من خلال إبرام معاهدة سلام معها، كأوضح رسالة أميركية حتى الآن لما تنتظره واشنطن من الإدارة الجديدة في سوريا، إضافة طبعًا إلى جملة من المطالب الأخرى ذات الصبغة العمومية، والتي تتقاطع مع مطالب أوروبية وعربية، وحتى سوريا داخلية، مثل توسيع المشاركة في الحكم، واحترام حقوق الأقليات والمرأة… الخ.
ورغم أن هذا النهج، أي محاولة دفع المحيط الإقليمي للتطبيع مع إسرائيل، ليس جديدًا في السياسة الأميركية، وقد عبّرت حتى الإدارة الأميركية السابقة عن دعمها لهذا المسار، خاصة بين إسرائيل ولبنان من خلال مبعوثها إلى المنطقة عاموس هوكستين، إلا أن الجديد هو أن واشنطن ترى أن ذلك بات ممكنًا على أرض الواقع، وفق ما صرّح به ويتكوف، وذلك بسبب ضعف حزب الله جرّاء حربه الأخيرة مع إسرائيل، وكذلك سقوط نظام بشار الأسد وتراجع النفوذ الإيراني في المنطقة، وفق ما تعتقد واشنطن.
ورغم هذه المتغيرات، فإن واشنطن تدرك أن التطبيع يحتاج إلى وقت وتهيئة الظروف المناسبة، لذلك يكون مفهوماً استمرار غياب الموقف الأميركي حيال الحكم الجديد في دمشق، والتراخي في رفع العقوبات، بينما تواصل إسرائيل قصف لبنان وسوريا، بغية تهيئة الظروف لطرح مطالب سياسية محددة عليهما، تتصل كما هو واضح بالتطبيع المجاني مع إسرائيل، وإسقاط المطالب بالأراضي المحتلة “القديمة”، أي الجولان بالنسبة لسوريا، ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا بالنسبة إلى لبنان.
ورغم ما يبدو أنه توافق في الأهداف والنهج بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أنه لا يخفى أن ثمة تعارضات كثيرة بين الجانبين في الموقف المبدئي إزاء التطورات في سوريا.
فبينما تقول واشنطن إن سياستها في سوريا تركز أولًا على “مكافحة الإرهاب”، وتحديدًا تنظيم “داعش”، ويستتبع ذلك رعاية السجون التي تضم عناصر التنظيم المعتقلين في سوريا، فإن هذا الأمر لا يشكّل أية أهمية لإسرائيل.
كما أن الولايات المتحدة تسعى إلى قدر من الاستقرار في سوريا للوصول إلى حكومة قادرة على تحقيق الهدف الأول وضبط الوضع في البلاد بشكل عام، ولذلك شجعت ودفعت قوات “قسد” لتوقيع اتفاق التعاون مع الرئيس الشرعي، بينما تسعى إسرائيل إلى عكس ذلك، وتشجع “قسد” على عدم التعاون مع دمشق، وعلى تصعيد مطالبها الانفصالية، كما تشجع مكونات أخرى في الاتجاه نفسه، مثل الدروز في جبل العرب، وهي تريد بشكل عام حكومة ضعيفة في دمشق، ودولة ضعيفة في عموم سوريا.
وفي حين عبّرت واشنطن عن ترحيبها بالحكم الجديد في دمشق الذي أنهى الوجود الإيراني في سوريا، وقطع علاقاته مع حزب الله، فإن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة نسبت ذلك لنفسها، ولم تعترف بأي فضل للحكم في دمشق بهذا التطور. ومن التناقضات أيضًا، مسعى إسرائيل إلى إقناع روسيا بالإبقاء على قواعدها في سوريا لموازنة الوجود التركي هناك، بينما تريد واشنطن من الإدارة في دمشق إبعاد الروس كليًا عن البلاد.
وخلاصة القول، ما يمكن استنتاجه أن الحكومة في دمشق، والتي لم تتلقَّ على الأرجح أية عروض رسمية للتطبيع مع إسرائيل، وكانت تصريحات ويتكوف نوعًا من جسّ النبض، ما تزال في موقف الترقب بانتظار تبلور ونضوج سياسة أميركية واضحة تجاه سوريا يمكن البناء عليها. إضافة إلى أن هذه الحكومة لا تعوّل كثيرًا على ما يصدر من مواقف وتصريحات من جانب حكومة نتنياهو المأزومة داخليًا، والتي تفتح جبهات عسكرية عدة في غزة ولبنان وسوريا، ولا يمكن تالياً معرفة السياسة الإسرائيلية الحقيقية تجاه سوريا ما لم تصل إلى السلطة حكومة إسرائيلية أكثر تعقلاً من الحكومة الراهنة، التي تعيش في ذروة أوهام القوة، وتظن أن بوسعها فعل ما تريد في المنطقة دون رادع من أحد.
وهنا، ينبغي ألا نغفل عن عامل مهم لم يتم تفعيله حتى الآن في العلاقة مع إسرائيل، وهو الموقف التركي، وما يمكن أن تسفر عنه تفاهمات محتملة بين الرئيس أردوغان ونظيره الأميركي ترمب، بشأن عدد من الملفات، وفي مقدمتها الملف السوري. وفي حال نجح أردوغان في الوصول إلى هذه التفاهمات، والحصول على تفويض أميركي لإطلاق يد تركيا في سوريا، بما في ذلك محاربة تنظيم “داعش”، فإن من شأن ذلك ردع إسرائيل وفرملة سياستها الطائشة تجاه سوريا.