تبدو الخفّة عنواناً عريضاً لما يحصل في سوريا، لكنها الخفّة المضادة للخفّة النيتشوية أو حتى المتعوية، الخفّة التي تشعرك بثقل أكبر كلما عاينتها واندمجت بها أكثر
يعزو نيتشه الحياة “الحلوة” للحيوان إلى “الخفّة”، إذ إنه لا يرزح تحت وطأة الثقل المفرط للذاكرة، ولا قلق لديه من فقدان الهوية أو صعوبة تحديد ماهيتها، كل كلب خفيف وسعيد، لا مشكلة لديه في هويته، بتحديد جنسه، بمعرفته: هذه عظمة آكلها، هذه قطة أكرهها، وهنا المنطقة التي أفرض عليها سطوتي فأتبوّل على زواياها.
الخفّة المثالية، التي تحدث عنها غاستون باشلار أيضاً، والمرتبطة بالسعادة وتوفير الاستقرار والفرح للبشر، من خلال تقليل مهام الحياة اليومية أو التخفيف من ثقلها على وجود الناس، استلزمت أن ينغمس العالم أكثر فأكثر في حياة الترفيه والاستهلاك، (لا دخل هنا على الإطلاق لهيئة الترفيه وزكيبة الفلوس السعودية)، وأن نتناول العالم كله، بمآسيه ومصائبه، بتراجيدياته ومجازره وانعدام العدالة فيه، بالإرهاب الذي يصبح مقاومة حيناً وشريعة حيناً آخر، نتناوله بخفّة الحيوان اللاهي، خفّة “الرقص في السلاسل” كما يقول نيتشه، فنسعد ونرتع في ملاهينا، وتزداد كروشنا حجماً ولحاناً وطولاً، لكن إلى أي حد تلزمنا خفّة مماثلة في سوريا “المحرّرة”؟
الثقل والخفّة
يرغب الفقه الإسلامي في الوصول إلى خفّة الوجود التي تحدث عنها جميع الفلاسفة، والتي كمنتج نهائي، يمكن أن تكون هدفاً أفلاطونياً: الخلاص من ثقل الجسد للبقاء في خفّة الروح، لكن مشكلة هذا الفقه أنه يستخدم أدوات الثقل للولوج إلى الخفّة، يستخدم ما ينفي الثقل نهائياً، يعدمه وينفيه عبر زجره وحجبه بل وتجريمه.
وعلى هذا، تبدو الخفّة عنواناً عريضاً لما يحصل في سوريا، لكنها الخفّة المضادة للخفّة النيتشوية أو حتى المتعوية، الخفّة التي تشعرك بثقل أكبر كلما عاينتها واندمجت بها أكثر، خفّة ألا تجد ما تغضب بشأنه لأن لا شأن لك أصلاً، ولم تكن أصلاً معنياً بالذي يحصل: خفّة في التعاطي مع المستقبل، خفّة في السياسة وخفّة في إدارة الشأن العام.
كانت السياسة بالنسبة الى حافظ الأسد شأناً مرتبطاً بشخصه: لا سياسة خارج جيوب قمصانه الموحدة، ولا توجّهات إلا ما تتفتّق عنه مخيلته البديعة، ثم أصبحت في عهد ابنه لعبة صينية رخيصة، يتم تداولها على طاولات التسلية وأراكيل المعسّل، ثم انتصرت “الثورة”، فظنها الرئيس الجديد هي نفسها سياسة الخلفاء الإسلاميين (الأمويين لو أردنا الدقة) فوزعها على ولاة الأمر واستقطع منهم الولاء والخراج، وسمح للجميع بإطلاق اللحى، حتى النساء.
السياسة الجديدة في سوريا الجديدة هي اللاسياسة: صورة فقط تجمع الرئيس بوزرائه، وبلحاهم على وجه التحديد، ومقابلات يبدو فيها باسماً ومطمئناً، طالما أن مخابرات ما وقنوات إعلامية بعينها ستحمي صورته تلك. وعلى رغم تمثّله “الثقل” الكامن في النظرة الباردة، والابتسامة الحيادية، واللطف المبالغ به (هل تذكرون ديكستر، القاتل المتسلسل؟) إلا أن الخفّة تسيل كنهر، عبر التعامل مع الواقع المعيشي، الخدمي، السياسي، العسكري، مع أطياف المجتمع، مع نواياه ورغباته، كل ما تقوم به الحكومة الجديدة متسم بالخفّة والاستئثار.
ثقل الكلمات
الكلمات لا تشير فقط الى الأشياء ولا تصف فقط الواقع، كما يقول الفيلسوف الإنكليزي جون أوستن (1911-1960) بل تهدف إلى جعل الفعل قيد “التفعّل”، قيد الإنجاز والتشكل، فحين يقول أحمد الشرع: “نعلن أن الثورة انتهت وانتصرت” لا يهدف فقط إلى توصيف واقع ووضع نقطة “انتهى” أو “تمت” للبدء بمرحلة جديدة. لا. الكلمات هنا تشكل وعيداً وإيذاناً وخلقاً لواقع ما، مغاير. لهذه الكلمات وقع الفعل أكثر من خفّة الوصف. إنه يستخدمها ليفعل لا ليعلن.
وقياساً، تتخذ الكلمات التي يقولها معنى مختلفاً لما تعنيه في سائر الأيام أو الأدبيات. “الثورة انتصرت” تعني أن التظاهرات التي يمكن أن تنشأ ضمن الواقع المنفلت الذي سمح به سابقاً مرذولة وغير ذات جدوى، وأن الانتقاد الذي كان يسمح به والموجه ضد “الدولة” وحتى ضد أعداء الدولة، الحقيقيين والمفترضين، يجب أن يتوقف الآن، لأننا نحن من أصبح الدولة، ونحن من يجب أن نحدّد الاتجاهات التي يسمح فيها بتقرير من العدو ومن الصديق، من الثائر ومن “الفلول”.
تخرج الكلمات من فم الرئيس الجديد بخفة، يقولها ويبتسم وهو يعي أنها لا تعني ما تعنيه في أحوالها العادية، أو في درجة حرارة معتادة كحرارة الغرفة مثلاً. إنها تعني ما يحمّلها إياه، ما يشحنها به، تعني ما يريد أن يسمعه الغرب وما لا يريد أن يسمعه السوري المغلوب على أمره. كلمات خفيفة تماثل الخفّة التي اعتاد أن ينحر بها ضحية أو يرمي فيها متفجّرات أو ببساطة، يختار “سبية” ليقضي ليلته معها.
يستخدم جمل مثل، “العدالة الانتقالية”، “الدولة السورية”، “الدستور”، “الحوار الوطني”، بأداء مسرحي يظن أنها تتحقّق بمجرد التلفّظ بها، بمجرد الإفراج عنها من منطوق اللغة، وهذا يبدو صحيحاً لحد ما، لو لا أن الواقع يعكس القول بطريقة المرآة، فلا الحرية تعني عكسها والعدالة أيضاً، الى درجة أن طرفة “مثقفة” تتداول بين أصدقائي المسرّحين من وظائفهم تقول: “والعدالة الانتقالية تقلّى بزيت الزيتون أم بالسمنة؟”.
كان حافظ الأسد “ثقيلاً” بهذا المعنى، ونستخدم حافظ الأسد كمثال مقابل بـ “وزنه” للجولاني لأنه قادم من المنبت الصحراوي نفسه للكلمات، المنبت القاسي والذي يزن الكلام بميزان الوقع والتأثير، بينما جاء بشار الابن من “أصيص نباتات في الصالون”، لا رائحة ولا لون لكلماته، وبالتالي لا وزن، قليل أو كثير.
كان حافظ يستخدم الكلمات الخفيفة لكن بثقل، ويستخدم الجولاني اليوم الكلمات الثقيلة بخفّة. الفارق بين الاثنين هو ضئيل لناحية التأسيس للمجزرة القادمة، لكنه كبير لناحية الغاية من الأداء المسرحي، المقدّم لمتفرّج ما، سيصفق في نهاية العرض راضياً، أو يُجبر على التصفيق.
خطاب الأسد العروبي والوحدوي ذو الصبغة الاشتراكية في بداياته كان لزوم الشيء حينها، كان خطاب الجميع، إذ كان الجرح الفلسطيني ما زال طرياً وهزيمة 1967 تعيش في الذاكرة. كان خطاباً ينحو نحو الخفّة التي كانت حينها “تحرير فلسطين” و”استعادة الحقوق المنهوبة”، وعلى رغم أننا نعيش اليوم ما يشبه الجرح القديم حينها، إلا أن الكلمات لا تعني ما عنته حينها، لا الحقوق هي نفسها ولا البلاد تشبه البلاد، والخفّة اليوم أصبحت الثقل نفسه.
كلا الخطابين ينهلان من معين كلمات واحد: الإيديولوجيا اللطيفة العلنية والنوايا الخبيثة الخفية، وكلاهما لن يعيشا إلا في التأويل الدموي، الأول ألزمنا أن نلوك خطاب الوحدة العربية حتى أدمى نواجذنا، والثاني يجعلنا نلوك الهواء فحسب.
الدم والعدم
يقال إن كتاب جان بول سارتر “الوجود والعدم” كان يزن، في طبعته الأولى، كيلوغراماً واحداً بالتمام والكمال، وهذا ما ساهم، طبعاً بخلاف رؤياه الجديدة آنذاك، في انتشاره الواسع، خصوصاً لدى النساء الفرنسيات، إذ كن يستخدمنه لقياس وزن الخضراوات والفاكهة، في ظل ندرة المقاييس والأوزان في تلك الآونة من الحرب العالمية الثانية، في 1943، والنساء بطبعهن شكاكات، والحق معهن، لا يثقن بسهولة بباعة جوالين لا يمتلكون إلا الكلمات المعسولة والأوزان المغشوشة.
ولنا أن نتخيل لو أن سارتر، أنقص أو زاد، على سبيل المثال، من كمية الاقتباسات الهيغلية في كتابه ذاك، أو أن سيمون دي بوفوار اعترضت على طريقة صياغة الفصول وتقسيمها مثلاً، لاختلف الكتاب كلياً، ولاختلفت طريقة تعاطينا، وتعاطي التاريخ الفلسفي برمته، مع فيلسوف “ثقيل” كسارتر. لو أنه فقط غيّر الضمير المستخدم. تخيّلوا…
لا أورد هذه الحكاية المشكوك في صحّتها إلا للدلالة على الخفّة التي تنتاب الكلمات عندما يُساء استخدامها، أو عندما لا تستخدم للدلالة على معناها المباشر إنما لبهرجة الأداء وتسطيحه.
ولكن، لأن للخفّة وزناً خاصاً، يقاس بمقياس الجدية، أي المنتهى الذي نخلص إليه عند مقارنة ما يُقال مع ما يُفعل، نتأكّد حينها أن رئيساً خفيفاً لن يحمل أوزاناً ثقيلة أو أن أوزاناً خفيفة تثقل أكثر إذا حملها رئيس خفيف.