تعيش سوريا اليوم لحظة فارقة في تاريخها الحديث، فالدولة السورية التي خرجت من أتون الحرب والدمار والانقسام ، ما تزال في غرفة العناية المشددة، تنتظر من ينقذها وينهض بها، وفق رؤية وطنية تتماشى مع روح العصر ونظرة العالم المتحضر. لا مجال للترقيع أو التجميل، بل نحن أمام مهمة تأسيس دولة حقيقية على أسس سليمة.
أولى هذه الأسس هي إعادة تنظيم الجيش السوري على أسس وطنية ومهنية، بما يضمن ولاءه للدولة لا للأفراد أو الأيديولوجيات أو القوى الخارجية. فجيش أي دولة هو ضمان استقرارها، ولا يمكن الحديث عن دولة مستقلة وذات سيادة طالما أن جيشها مخترق من قوى أجنبية أو خاضع لإرادات غير وطنية. يجب أن يكون جيشاً جامعاً، غير طائفي، ينضوي تحت مظلة دستور واضح ومؤسسات مدنية ديمقراطية.
كما لا بد من أن تكون سوريا دولة مدنية قائمة على المواطنة المتساوية، حيث لا تمييز بين المواطنين على أساس الدين أو القومية أو المذهب أو الانتماء السياسي. فالدولة المدنية في سوريا ليست ترفاً، بل ضرورة لبناء مجتمع متماسك يتساوى فيه الجميع أمام القانون وتُكفل فيه الحريات والحقوق. لا يمكن أن تُبنى سوريا الجديدة على أسس الإقصاء والتمييز، بل على العدالة والكرامة واحترام الإنسان كقيمة عليا.
وفي هذا السياق، فإن سيادة القانون واستقلال القضاء يجب أن يكونا حجر الزاوية في المشروع الوطني السوري. فبدون قضاء مستقل، لا يمكن الحديث عن عدالة، وبدون عدالة لا يمكن الحديث عن مصالحة أو استقرار حقيقي. العدالة هي التي تعيد الثقة بين المواطن والدولة، وهي التي تفتح الباب أمام تجاوز الماضي وتفتح صفحة جديدة من الثقة والانتماء.
لقد جرّبت سوريا الكثير من النظريات والمقاربات الفاشلة كالاسدية ، واليوم لا وقت للتجريب. ما تحتاجه سوريا هو العودة إلى المبادئ الأساسية للديمقراطية، القائمة على التشاركية الواسعة في رسم السياسات واتخاذ القرارات، دون إقصاء أو تهميش لأي مكوّن أو تيار. فالديمقراطية ليست فقط صندوق اقتراع، بل ثقافة حكم، وآلية لضمان التوازن والرقابة والتداول السلمي للسلطة.
ان تأسيس الدولة السورية الناشئة لا يكون إلا من خلال مشروع وطني جامع، ينطلق من الداخل ويستجيب لحاجات الناس ومعاناتهم. فالسوريون اليوم منهكون، يريدون دولة توفر لهم الأمان، والتعليم، والرعاية الصحية، والخبز، والكهرباء، والعمل. وبالتالي فإن تحسين مستوى الخدمات والمعيشة لم يعد مطلباً عادياً بل هو أولوية وطنية وإنسانية لا تحتمل التأجيل.
وفي الوقت الذي تتحدث فيه بعض الأطراف عن ضرورة رفع العقوبات، فإن الحل لا يكمن في انتظار الخارج أو تحميله مسؤولية كل شيء، بل في تحريك عجلة الاقتصاد من الداخل، واستثمار الثروات الوطنية السورية الهائلة من نفط وغاز وزراعة وصناعة. فالتعافي الاقتصادي ممكن، لكنه يحتاج إلى شفافية، واستقرار سياسي، وبيئة قانونية واقتصادية جاذبة للاستثمار، قبل أي شيء آخر.
تقع المسؤولية اليوم على عاتق الإدارة السورية الجديدة ممثلة بالرئيس احمد الشرع وحكومته الانتقالية ، لأنها تدعي تمثيل الشعب السوري و”تحتكر” السلطة . لقد سئم السوريون الشعارات والوعود ، وهم بأمسّ الحاجة إلى أفعال تترجم إلى أمن وكرامة ولقمة عيش. آن الأوان لتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الضيقة، وللخروج من دوامة المحاور والتبعيات، والانحياز لصوت الناس لا لصوت السلاح أو الخارج. فالوطن لا يُبنى بالخطابات ولا بالشعارات ، بل بالرؤية والعمل، وبالقدرة على بناء شراكات حقيقية تضمن لكل مكوّن مكانته ودوره وكرامته.
فالحرص على إنقاذ سوريا، يعني فتح الأبواب أمام حل وطني شامل، يشارك فيه الجميع، ويستند إلى الديمقراطية والمواطنة والعدالة، قبل فوت الأوان وتضيع الفرصة الأخيرة لإنهاض الدولة السورية من تحت الركام.