منذ ليلة اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي ووائل حمادة، في التاسع من كانون الأول (ديسمبر) قبل عشرة أعوام، في دوما على يد ملثّمين تُشير كل القرائن إلى تبعيّتهم لجيش الإسلام، شاعَ أن تُسمّى القضية في وسائل الإعلام وفي الأحاديث المتداولة على أنها قضية «رزان ورفاقها». ويعترضُ كثيرٌ منّا على هذه التسمية حيثما ظهرت، إذ أن حُسن النيّة في الغالبية العظمى من استخداماتها لا ينفي كونها اعتماداً كسولاً على شهرة رزان زيتونة يُساهم في طمس أسماء سميرة ووائل وناظم فوق تغييبهم. سميرة الخليل مُناضلة ومعتقلة سياسية سابقة وعمِلت بشكل دؤوب خلال سنوات الثورة على تحسين شروط حياة النساء في المجتمعات المحلّية المُستهدفة بوحشية من قِبل النظام الأسدي؛ ووائل حمادة ناشط حقوقي وسياسي ومعتقل سابق خلال الثورة، وفاعل في العمل الحقوقي التوثيقي؛ وناظم حمادي مُحامٍ وشاعر وناشط بارز في العمل المعارض قبل الثورة وخلالها.

الحيثية السياسية والفاعلية حاضرة، لكن ضرورة حضور أسمائهم تتجاوز صونَ الذُخر والمكانة: إظهار الأسماء، كل الأسماء، هو أقلّ ما يتوجب فعله أمام قضية تغييب، وهذا يخص الأربعة ويخص كل المُغيَّبين والمُغيَّبات في سوريا. الأسماء والوجوه هي العتاد المتوفر سعياً لإظهار الحقيقة وكشف مصير مُغيَّبينا ومُغيَّباتنا على يد النظام الأسدي أو غيره من المُغيِّبين في عموم الجغرافيا السورية. كثيرون تعلّمنا أفكاراً كهذه من رزان زيتونة.

دخلت رزان زيتونة عالم النضال الحقوقي مباشرةً من بوابة ممارسة القانون مطلع القرن الحالي، وشاركت كمتدربة، ومن ثم كمحامية، في الدفاع عن معتقلي ربيع دمشق وما بعده، وعن معتقلين إسلاميين من مختلف التنظيمات. وقد مثّلت تجديداً في العمل الحقوقي حينها، ليس فقط لصغر سنّها، ولكن أيضاً لأنها جاءت إليه من خارج حاضنته الأساس في سوريا، أي جيل يساريي الثمانينات والتسعينات، من معتقلين سابقين غالباً، الذين مَنحوا أولوية لقضية حقوق الإنسان والحريات العامة للنضال في زمن «ما-بعد إيديولوجي». برزت رزان زيتونة سريعاً كمحامية متخصصة بالدفاع عن معتقلين سياسيين أمام محكمة أمن الدولة الشنيعة وغيرها من المحاكم، ولكن أيضاً كفاعلة حقوقية في جهد يتجاوز المُرافعة المتخصصة أمام المحاكم نحو التفكير في العمل العام انطلاقاً من النشاط الحقوقي. وفي حين كان عملها التوثيقي والتنظيمي في المجال الحقوقي قد امتد طوال ثُلثي عقد الألفينات، إلّا أنه تبلور بشكل بارز وعظيم خلال الثورة، خصوصاً مع تأسيس «مركز توثيق الانتهاكات»، العلامة الفارقة الأبرز في المجال التوثيقي خلال سنوات الثورة الأولى.

ركّزت رزان على البوابة الحقوقية كمدخل للعمل العام، لكنها ركّزت بقوة على العمل الحقوقي كممارسة تتجاوز البُعد التقني للجهد القانوني، ولا تتوقف عند حدود القضايا المُرافَع عنها. جسّدت رزان منطق أن النشاط الحقوقي مُمارسة سياسية في جوهرها، وتتقصّد إدخال تغييرات  جذرية في الساحة العامة للبلد. لم تكن رزان وحدها التي تمارس السياسة، بمعناها الأعرض والأشمل، من البوابة الحقوقية خلال عقد الألفينات، لكن الفارق في الجيل وطريقة الدخول إلى النشاط لَعِبَا دوراً كبيراً في قُدرتها على بلورة هذه الأفكار وممارستها، في أحد أوجه عملها على «تثوير» مفهوم حقوق الإنسان في سوريا، حسب تعبير ياسين الحاج صالح عنها. ومن هذا الباب، ورغم أنها لم تأتِ من الممارسة الحزبية ولم تدخُلها، لم تغب رزان عن الممارسة السياسية في البلد طوال حضورها. حضرت وشاركت وناقشت، واختلفت واتفقت، ولاقت وافترقت. عدا ذلك، ورغم لا حزبيتها، أيقنت رزان حدود إمكانيات الفاعل السياسي الفرد «المستقل» وتعلّمت من عقد الألفينات ضرورة التنظيم، وأن الإيديولوجيا ليست وحدها المدخل لتوليف الجهود الفردية في نشاط جماعي. رأينا خلاصات جهودها وأفكارها في هذا المجال في تجربة «لجان التنسيق المحلية» الرائدة، التي كان لرزان دور مركزي في تأسيسها وعملها.

مع رزان الحقوقية ورزان السياسية، يتوجّب أن نُذكِّرَ برزان الصحفية. رغم كثرة انشغالاتها في عملها الحقوقي، لم تتوقف رزان عن الكتابة الصحفية، ولا عن متابعة ما يُكتَب في سوريا وعنها. أرشيف رزان الكتابي غني وبالغ الأهمية لقراءة ربع القرن الأخير من تاريخ سوريا. أسوةً بـ«روح العصر»، اشتهر لرزان بشكل خاص مقالات الرأي، المُميَّزة بشجاعتها وعزيمة لغتها، وحواراتها التي أجرتها مع أبرز مثقفي وناشطي الشأن العام السوري، قبل وخلال الثورة. لكن ريبورتاجات وتقارير رزان عن مختلف الشؤون الاجتماعية والحقوقية في سوريا الألفينات تُرينا عيناً يقظة وقراءة تفصيلية، عارِفة ومُحلِّلة، لواقع البلد وأهله. وعدا عملها الفردي، حضرت رزان في تأسيس ودعم مبادرات إعلامية متنوّعة، بما في ذلك موقعنا هذا، إذ شاركت رزان في نقاشات تأسيس موقع الجمهورية.نت، وبقيت قريبة من فريقه حتى لحظة خطفها.

حقوقيةً وسياسيةً وصحفية، أثّرت رزان زيتونة بعمق في كيفية فهم الشؤون العامة والتدخُّل فيها لدى الجيل الذي انفتحَ على العمل العام قُبيل الثورة، وتركت بصمة ثمينة في انخراطها في كل تفاصيل النضال الثوري بعد 2011 وحتى خطفها، لها آثار ومفاعيل ماثلة حتى اليوم، خصوصاً في العمل الحقوقي والتوثيقي. القضية التي بدأت قبل عقدٍ من اليوم بخطف أربعة مناضلين ومناضلات من مكتب «مركز توثيق الانتهاكات» في دوما ليست قضية «رزان ورفاقها»، بل قضية «سميرة ورزان وناظم ووائل». لكن ثمة قضية اسمها رزان  ورفاقها حقا : قضيتنا نحن، الذين تعلَّمنا من رزان كثيراً، واستقينا منها قوة وعزماً، ورأينا فيها رمزاً لما نصبو إليه كحياةٍ ديمقراطية في بلدنا: كثر يشتغلون في السياسة؛ وكثر يعملون على صون حقوق وحريات بنات وأبناء بلدهم؛ وكثر يكتبون.