يوْقفُ شرطيان ألمانيان أسمران شابةً ترتدي قبعة عليها تصميم علم فلسطين في برلين، ويطلبون منها خلعها رغم أنها غير مشاركة في أي احتجاج أو مظاهرة فلسطينية، ورغم عدم وجود تشابه بين علم فلسطين ورموز حماس، تكتب الصحفية ميليسا جان مستغربة على موقع X. وفي مساء السبت، الرابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر)، كان كاتب هذه السطور واقفاً عند تقاطع شارعي زونن آليه (المعروف بشارع العرب) ورويترشتراسه في نويكولن البرلينية، يراقب من بعيد سيارة صالون ضخمة للشرطة، يطارد عناصرها من يُشتبه بأنهم محتجون فلسطينيون في المكان.

عندما تجاوزتْ مجموعةٌ من الشرطة الشارع بدا كل شيء هادئاً، إذ لم يكن هناك متظاهرون على الجانب الآخر من الشارع بل مجموعة من المتفرجين. دفع شرطيٌ يرتدي ملابس مكافحة الشغب شاباً كان واقفاً قربي بكل بساطة، آمراً بـ«فتح الطريق» بطريقة عدائية، وعندما رد عليه الشاب بشكل عفوي بدفعة خفيفة مسائلاً إياه ماذا دهاه حتى يدفعه بهذه الطريقة، تجمعت بقية العناصر عليه ورموه أرضاً مانعين أي أحد من الاقتراب، فيما كانت الناشطة السورية وفا مصطفى بين آخرين يسألونهم: ما الذي فعله لتفعلوا به ذلك؟ لكن دون جدوى. قُيِّد وسِيقَ لأخذ بياناته.

يُمثّل هذان المشهدان الأجواء التي يعيشها الفلسطينيون-ات والمتعاطفون-ات معهم من المنطقة العربية في برلين، وفي عموم ألمانيا، خلال الأيام القليلة الماضية منذ هجوم حماس على مواقع عسكرية ومستوطنات إسرائيلية في محيط قطاع غزّة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وانتشار صور وأخبار مروعة عن قتل واختطاف مدنيين.

1.شبكة تأسست في الولايات المتحدة قبل عقد لدعم الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، بحسب بياناتها، ولديها فروع في مختلف الدول الأوروبية. صنفتها إسرائيل في العام 2021 كمنظمة إرهابية، كجزء من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكانت الشبكة قيد المراقبة في ألمانيا حتى قبل قرار المستشار بحظرها، لكونها «معادية للسامية ولإسرائيل»، بحسب رئيس فرع برلين  للمخابرات الداخلية. الشبكة تعهدت في بيان غاضب من القرار بالطعن مستقبلاً فيه باستخدام جميع السبل القانونية المتاحة.

وبُعيد انتشار الأخبار، جاء انتشار صورٍ التُقطت لأشخاص يُعتقد أنهم ينتمون لشبكة «صامدون» الفلسطينية1 التي أعلن المستشار أولاف شولتز عن حظرها في وقت لاحق في خطاب في البوندستاغ، وهم يوزعون البقلاوة على المارة في نويكولن البرلينية احتفالاً بهجوم حماس، ما فجّرَ موجة سخط في المشهد السياسي الألماني أجمع، بِدءاً بالمستشار شولتز وانتهاءً بعمدة حي نويكولن الاشتراكي مارتن هيكل، الذي ساءه توزيع الحلوى وتمجيد حرب فظيعة «فيما يتساقط الإرهاب على إسرائيل» على حدّ وصفه.

«ينبغي أن يقولها المرء بوضوح: من يعيش في ألمانيا ويوزع الحلوى في نويكولن أو أينما كان تعبيراً عن فرح شديد، لا ينتمي إلى هذه البلاد. من يدعم هذا الإرهاب ويحتفل به هو نفسه ليس أفضل من مرتكبيه. لا ينبغي أن نصبر على ذلك سياسياً»، كتبت سيراب غولر، النائبة في البرلمان الاتحادي الألماني (بوندستاغ) عن الحزب المسيحي الديمقراطي، وهي من أصول تركية.

وقد تحدثت الشرطة عن تواجد عناصرها في مكان توزيع الحلوى، وتَحقُّقها من هوية البعض وتسجيلها دعاوى جنائية ضدهم، وعن تواصلها مع النيابة العامة في هذا الخصوص.

منذ اليوم الأول للهجوم، تكاد الشرطة الألمانية لا تغادر حي نويكولن وخاصة شارع زونن آليه- شارع العرب، وهي تفتش وتدقق وتفضُّ التجمعات غير المسجلة رسمياً لدى السلطات، وتأخذ بيانات المخالفين-ات. طوابير طويلة تقف قرب سيارات شرطة، فيما يسوق عناصرها المزيد إلى المكان لتسجيل بياناتهم تمهيداً لملاحقة قضائية محتملة لاحقاً.

في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) صَرَّحت الشرطة عن تَحقّقها من هوية 40 شخصاً، وتوجيه تهم التهجُّم على موظفي إنفاذ القانون ومقاومتهم والشغب، وذلك بعد فضِّ تجمع بالقوة رُميت على عناصر الشرطة زجاجات خلاله، وأصيب اثنان منهم. كذلك، أعلنت الشرطة عن دهنها علماً فلسطينياً باللون الأبيض، كان قد رُسم على نصب في ساحة هيرمان بلاتز الملاصقة لـ«شارع العرب». وعند اكتشافها رسمه من جديد في الموضع نفسه، أعادت إخفاء العلم «لوجود دلائل على أن المكان يستخدم لتمجيد الهجوم على إسرائيل».

وفي العاشر من تشرين الأول ذكرت الشرطة أنها تحققت من شخص في حي نويكولن، سبق وأن صدر بحقه قرار منع مزاولة النشاط السياسي، وهو يرتدي رموزاً فلسطينية، وأنه قام بمقاومة عناصرها ما أدى إلى إصابته واثنين منهم، مشيرة إلى أنه «في سياق نشاطات معادية لإسرائيل، كان هناك المزيد من التحقق من هويات الأشخاص والطرد من المكان».

حظر التظاهر

واظبت الشرطة أيضاً على الإعلان عن منع جميع المظاهرات التي قُدِّمَت طلباتٌ لترخيصها لدى السلطات في ساحة باريسر بلاتز عند بوابة براندنبورغ، وفي نويكولن، وكل المظاهرات البديلة، لأنها «تشكل خطراً على الأمن والنظام العام»، أو «يمكن الانطلاق من كونها أو من المثبت أنه سيُساء استخدامها لأجل تمجيد هجوم حماس»، مشيرة إلى أن «سلطاتنا أخذت في الحسبان الوضع في الشرق الأوسط والجرائم التي وقعت في المظاهرات في السابق وأحداث نهاية الأسبوع الماضي».

ومن بين المظاهرات الممنوعة حتى العشرين من تشرين الأول الجاري تلك التي طلبت الترخيص باسم «برلينيون-ات يهود ضد العنف في الشرق الأوسط وضد قتل إخوتنا في غزة. لليهود والفلسطينيين نفس الحق» أو «تضامن مع المدنيين في قطاع غزة»، وذلك «لأن المشاركين في التجمع سيتعاطفون على الأرجح مع حماس». ووسط تعميم المنع بدت الموافقة على مظاهرة في ساحة بوتسدامر بلاتز ظهر الأحد الماضي، دعا منظموها لإحضار أعلام فلسطين فقط، استثناءً. لكن هذا الاستثناء لم يَدُم طويلاً، إذ فضّت الشرطة المظاهرة بطريقة عنيفة كما أظهرت مشاهد مُصوَّرة. وقد زعمت الشرطة أن الاعتصام شهد تدفقاً كبيراً لأشخاص يحملون رموزاً فلسطينية، أمر اعتبره المنظم غير مرغوب فيه وغير مخططٍ له، لذلك مُنع الاعتصام قبل بِدئه.

وكان من اللافت أيضاً وقوف إريس هيفتس، عضوة رئاسة جمعية «صوت يهودي لأجل سلم عادل في الشرق الأوسط» في اليوم نفسه في ساحة هيرمان بلاتز حاملة لافتة كتبت عليها «كيهودية إسرائيلية: أوقفوا الإبادة الجماعية في غزة»، محاولةً، بحسب بيان الجمعية، إثبات عدم صحة تصوير وسائل إعلام إسرائيلية وألمانية نويكولن كمكانٍ خطر على اليهود. اقتربَ منها شرطيٌ وأخبرها بأن ما تقوم به غير قانوني، في إشارة إلى التجمّع دون ترخيص، فردت بأنه ليس ثمة تجمع هنا، بل تقف كفرد وتعبر عن رأيها ببساطة. وبعد احتجازها مؤقتاً استطاعت إقناع عناصر شرطة آخرين بحجتها وعادت إلى الوقوف في الساحة.

شملَ المنعُ العديد من المدن، كميونيخ وفرايبورغ ومانهايم وغيرها. ففي فرانكفورت، وبعد أن رفعت المحكمة الإدارية الحظر عن مظاهرة تقدمت ناشطة إيرانية بطلب تنظيمها، باعتبار أن الحظر يشكل تعدياً غير متناسب مع حق حرية التجمع، عادت محكمة إدارية أعلى درجة لفرض الحظر، متفقة مع بلدية المدينة التي جادلت بأنه سيكون هناك «تحريض وأقوال معادية لإسرائيل ومعادية للسامية». حكم نفذته شرطة المدينة، ولا يمكن الطعن فيه إلا أمام المحكمة الدستورية.  ومع عدم مغادرة الناس مكان المظاهرة المحدد قبل المنع، احتجزت الشرطة البعض وسجلت بياناتهم وحدثت بعض المناوشات. واعتبر مايك جوزيف عمدة فرانكفورت (وهو من أصل سوري) قرار المنع صائباً خلال ظهور له في مظاهرة متضامنة مع إسرائيل في المدينة، قائلاً: «من يهاجم الحياة اليهودية في مدينتنا فهو يهاجم مدينتنا، وسنتخذ إجراء ضده».

وكانت مقدمة الطلب، إيتاك باراني، العضوة في منظمة «فلسطين»، قد احتُجِزَت بشكل وجيز لدى الشرطة التي قالت إنها اشتبهت بتحريضها و«الموافقة» على ارتكاب جرائم. حيث نُقل عنها قولها علناً في «مؤتمر صحفي»: «بالنسبة لي هذا الكسر للسجن هو فعل مقاومة ناجح. ليس هناك إرهابُ حماس وليس هناك إرهابُ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».

الأساس القانوني للحظر

تُعَدُّ عتبة شروط حظر التظاهرات عالية في ألمانيا، على ما أكدت عليه المحكمة الدستورية، ويُعد خياراً أخيراً ينبغي على السلطات قبل اللجوء إليه النظرُ فيما إذا كان بوسعها السماح بالاحتجاجات تحت شروط، أو السماح بإقامتها ومراقبتها وفضِّها عند الضرورة. ينبغي على أي حال أن تقدّم السلطات مخطط توقعات وجود خطورة، تجيب فيها على أسئلة مثل ما إذا كانت قد حدثت وقائع في مظاهرات مماثلة تبرر حظر التظاهرة، وفيما إذا كانت الشرطة قد مرت بتجارب سلبية مع منظمين مُعيَّنين.

وليس حظرُ التظاهرات الفلسطينية جديداً؛ إذ منعت المحكمتان الإدارية والإدارية العليا في برلين قبل أشهر مظاهرات ذكرى النكبة، مبررة بكونها قد تشهد إطلاق شعارات معادية للسامية ومُحرِّضة، وتمجيداً للعنف وتعبيرات عن الاستعداد لارتكاب العنف. وينص قانون التجمع في بعض الولايات، كشأن برلين، على إمكانية حظر مظاهرة عندما يتم فيها التحريض على جنسية أو مجموعة إثنية ما.

ولطالما كان حظر التظاهر مثيراً للجدل في ألمانيا، التي تؤكد على وجود ضوابط للحريات. حيث شكلت تظاهرات حركة «التفكير الجانبي» المناهضة لسياسة الحكومة بخصوص الإغلاق والوباء ومنعها في برلين وغيرها من المدن، أزمةً مع منع بعض المحاكم الإدارية خروجها لأسباب متعلقة بالأمن العام وعدم التزام المشاركين بالشروط، لتقرر محاكم أخرى أعلى درجةً منها لاحقاً إلغاء الإجراءات التقييدية، فيما أكدت المحكمة الدستورية وجوب تمكين التظاهر حتى خلال الوباء. لم يكن من بين الأسباب المقبولة للحظر حينها الإدلاء بآراء تُعتبر متجاوزة للحدود، «إذ ينبغي على الدولة الديمقراطية الحرة أن تتحمل مثل هذه الآراء» على حد وصف التلفزة الألمانية العامة.

مع أم ضد؟

رغم ذلك، لم يكن حظر المظاهرات الفلسطينية في الأيام العصيبة السابقة أمراً مفروغاً منه، حيث تناولته الصحافة الألمانية؛ فنشرت صحيفة تاتز اليسارية مادة يعبر فيها أحد صحفييها، إريك بيتر، عن دعمه لقرار الحظر كحالة استثنائية، مُعتبِراً أنه وإن كان حظر التظاهر أمراً حسّاساً ديمقراطياً لكنه أفضل من بديل سيء، مشيراً إلى أن الحظر يقي برلين «احتفالاً غوغائياً في زونن آليه، يُنكَر فيه قتل حماس البربري للمدنيين، ويُنادَى فيه بمحو إسرائيل». ويشير إلى أن التوقعات التي تدعو للحظر مُبرّرة، كإطلاق شعارات معادية للسامية ومُحرِّضة، خاصة بالنظر إلى التجارب السابقة. «للتعبير الحر عن الرأي حدود، ينبغي أن تُقاس وفق المعايير الحضارية الدنيا. لا عيب ديمقراطي في ألا تسمح للفاشيين والإسلامويين بالنزول عن عتبتها». ومع ذلك، يدعو بيتر لأن يكون حظر طلبات التظاهر متوازناً ومبرراً، وأن يكون من الممكن الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني المضطهد، والحداد على ضحاياه، معتبراً أن فرض اشتباه عام بمعاداة السامية ليست وسيلة دولة قانون ديمقراطية، داعياً الفلسطينيين للتحرك والتوضيح بأن مظاهراتهم ليست منصَّة للكراهية.

فيما تُعارض زميلته، ماري فرانك، في رأي مقابل هذا الحظر، وتعتبر أنه «مع تفهّم الرغبة في منع كل ما يشرعن بطريقة أو أخرى فظائع حماس، لكنه (الحظر) لا يتوافق مع الحق الأساسي بالتعبير عن الرأي وحرية التجمع في مجتمع ديمقراطي، لأن الاشتباه باحتمال وقوع جرائم لا يكفي لفرض منع… وذلك لحسن الحظ. وإلا سيصبح من الممكن حظر كل تظاهرة بهذه الحجة، وسيفسح النظام الاجتماعي الحر الطريق لدول بوليسية، لا يتم التسامح فيها مع آراء غير مريحة».

ورأت فرانك أنه لا يمكن أخذ حركة التضامن الفلسطينية ككل بجريرة ما فعله محسوبون على حركة «صامدون» بتوزيعهم الحلوى، وسحب حق التعبير عن الرأي عنها، موضحة أن «فلسطين ليست تماماً حماس، ولا يقاسي الفلسطينيون-ات انتهاكات حقوق إنسان شديدة من إسرائيل فحسب بل من حماس أيضاً، التي تسيء لهم باستخدامهم كدروع بشرية».

وتحدثت الباحثة كاثرينا غابور، التي ألَّفت كتاباً عن تعايش الفلسطينيين والإسرائيليين في برلين، في مقابلة تلفزيونية عن خوف الفلسطينيين في برلين إلى حد ما من التعبير عن آرائهم في الصراع، لأنها تُصنَّف مراراً وتكراراً على أنها معادية للسامية.

هذا ما يراه أيضاً أوفا ينسن، نائب مدير مركز بحوث معاداة السامية في الجامعة التقنية في برلين، قائلاً: «بصرف النظر عن الوضع الحالي، يعد صعباً على الفلسطينيين، إلى حد ما، التعبير عن آرائهم دون أن يواجَهوا فوراً بتهم معاداة السامية»، الأمر الذي يجده ينسن إشكالياً.

ورغم كونه مُشكِّكاً في صوابية منع التظاهرات بشكل عام، يرى حظرها بعد المجازر المروعة في إسرائيل في محله، خاصة عندما تُدعَم حماس فيها، لأن ذلك «يجرح اليهود ويهددهم»، على حد توصيفه.

مع ذلك، يرى أنه لا ينبغي أن يكون حظر المظاهرات الفلسطينية مُعمَّماً، بل ينبغي إجراء موازنة بين الرفض والقبول لكل طلب، داعياً إلى إقناع الفلسطينيين-ات بأن دعم حماس لن يفيدهم إن كانوا مهتمين بحلٍّ لصراع الشرق الأوسط.

ورأت غابور أن المشكلة في ألمانيا تكمن في أن لديها، بالنظر إلى تاريخها، موقفاً رسمياً يقول إنهم يقفون إلى جانب إسرائيل ويدافعون عن حقها في الوجود. أمر يبدو واضحاً أكثر هذه الأيام من خلال تواجد العلم الإسرائيلي في كل مكان. لكن بالمقابل ليس هناك موقف رسمي ألماني يقول إنهم إلى جانب الفلسطينيين الذين يتعرضون للهجوم بُعيدَ ذلك. لطالما كان هذا هو الوضع، وبات أكثر وضوحاً هذه الأيام.

لا حدود للحظر

واكتسبَ التضييق على حرية تعبير الفلسطينيين-ات في ألمانيا بُعداً جديداً في الأيام الماضية، مع اعتبار أي إظهار لرمزٍ فلسطيني، أو معظم صيغ التضامن مع القضية الفلسطينية، تهديداً للأمن العام وتضامناً مع حماس. فقد اعتبر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البوندستاغ، ميشائيل روت، أن من يصيح «فلسطين حرة» في الشوارع يصبح شريكاً لحماس التي تريد مسح إسرائيل من الخارطة، ومحو شعبها، «لم أكن أعتقد بإمكانية تواجد هذه الكراهية المتعصبة ضد إسرائيل في ألمانيا والاتحاد الأوروبي. ثمة خطر تدميري في ذلك».

وبعد اشتباك معلم في مدرسة في حي نويكولن مع طالب (14 عاماً) رفع علم فلسطين في الباحة، وتبادلهما الضرب، أصدرت كاترينا غونت-فونش سيناتور التعليم في ولاية برلين قراراً يمنع ارتداء الكوفية الفلسطينية وكل الرموز الأخرى في المدارس، بزعم أنها تشكل تهديداً للسلم فيها.

وقالت إن «أي تصرف استعراضي أو رأي يمكن فهمه على أنه داعم أو موافق على الهجمات ضد إسرائيل أو داعم للمنظمات الإرهابية المنفذة لها كحماس أو حزب الله، يُمثل في الوضع الراهن تهديداً للسلم المدرسي، وهو ممنوع». وتضمَّنَ المنع حتى «الرموز والإشارات والآراء التي لم تصل إلى حدود المسؤولية الجنائية»، بما في ذلك الكوفية، واللواصق المكتوب عليها «فلسطين حرة»، أو «خارطة إسرائيل الملونة بألوان علم فلسطين»، وصيحات «فلسطين حرة».

لقي هذا الحظر الشامل لكل ما يُعرِّفُ الفلسطينيون أنفسهم عبره انتقادات من الحزب الاشتراكي المعارض، الذي رأى أنه يساوي بين حماس ومواقف شرعية ومعتدلة ومحمية دستورياً من وجهة النظر الفلسطينية، واعتبر الحظر مشكوكاً فيه دستورياً وغير ملائم.

موقع بزفيد في ألمانيا تعقَّبَ أيضاً تعليق طلاب جامعة بارد الخاصة علم فلسطين في سكنهم الطلابي، وسأل حكومة ولاية برلين عن ذلك، فردّت معتبرةً نشر العلم «تعبيراً عن التعاطف مع الهجوم الإرهابي لحماس»، ورأت فيه دليلاً على أن هناك حاجة كبيرة للتصرف ومكافحة معاداة السامية بكثافة أكبر وباستدامة أكبر. فيما عبَّرت إدارة الجامعة عن إدانتها لقتل حماس المدنيين واختطافهم، لكنها أشارت إلى حق الطلاب في التعبير عن رأيهم، وبينهم من هو قادم من فلسطين وإسرائيل.

ورداً على سؤال من صحفي ألماني، أكد المتحدث باسم وزارة الداخلية الألمانية يوم الاثنين 16 تشرين الأول، أن مجرد إظهار العلم الفلسطيني «ليس ذا صلة جنائية».

ويمرّ اليهود المقيمون في برلين بوقت عصيب أيضاً، وفق ما صرحوا به لوسائل إعلام ألمانية. فهناك تقارير عن مشاعر خوف سائدة في الوسط اليهودي من أعمال عنف ضدهم، وعن عدم إرسال أطفالهم إلى المدارس ورياض الأطفال. كذلك، ظهرت صور لرسم نجمة داوود على أبواب بعض المباني التي يقيم فيها يهود، شاركها السفير الألماني في إسرائيل شتيفن زايبرت.

تبعات قانونية لما يمكن تفسيره كتضامن مع حماس

وسائل الإعلام الألمانية عجَّت في الأيام الأخيرة بشروحات حول كيفية معاقبة داعمي حماس. فأوضح خبيران قانونيان من شبكة آ إر دي أنه يمكن معاقبة موزعي الحلوى وفق الفقرة 140 من قانون العقوبات، المخصصة لمعاقبة من «يكرّم جرائم أو يوافق عليها» علناً، حتى وإن وقعت خارج ألمانيا، بشرط أن يقلق ذاك الفعل السلم العام، مشيرين إلى تعديل قانون العقوبات في 2020 ليصبح حرقُ أعلام الدول الأجنبية محظوراً، وذلك بعد أن شهدت شوارع برلين حينها حرق أعلام إسرائيل.

وقد يكون لدعم حماس تبعات، وفقاً للمادة 54 من قانون الإقامة، التي تنص على تسهيل الإبعاد عن ألمانيا للأجنبي عندما يوافق على ارتكاب جرائم ضد السلم والإنسانية وجرائم حرب أو جرائم إرهابية، وفقاً للقناة الألمانية الثانية.

وكانت وزارة العدل الاتحادية قد نشرت تغريدة بعنوان «ينبغي ألا يحصل المعادون للسامية على جواز سفر»، موضحة أن من لا يتقبل «نظام قيمنا» في الدستور لا يمكن أن يصبح ألمانياً، وأن معاداة السامية أو دعم جريمة غير إنسانية هو سبب استبعاد قوي من التجنيس وفق قانون الجنسية الجديد.

وخطا السكرتير العام للحزب المسيحي الديمقراطي المعارض، كارستن لينمان، خطوة متشددة أكثر بمطالبته بسحب الجنسية الألمانية من المشاركين في الاحتفال بهجوم حماس إن كانوا مزدوجي الجنسية. فيما دعا الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري، في خطة من 4 نقاط، إلى حبس المُحرِّضين على إسرائيل لمدة 6 أشهر على الأقل، وربط منح الجنسية واللجوء بالاعتراف بحق إسرائيل بالوجود، وسحب الجنسية الألمانية من مزدوجي الجنسية حال دعمهم للإرهاب، على حد توصيفه.

وأكد السكرتير العام للحزب الاشتراكي الحاكم، لارس كلينغبايل، على دعمه ترحيل «من يحتفل بحماس في الشوارع الألمانية ولا يحمل الجنسية الألمانية»، معتبراً أنه ينبغي أن يكون هناك «توافق ديمقراطي في مجتمعنا على إدانة إرهاب حماس». لكنه حذَّرَ من «مساواة العرب أو المسلمين مع إرهاب حماس»، ومن الإدانة المُعمَّمة التي قد تهدد التماسك المجتمعي.

وفي ظل هذه الأجواء، أثار إلغاء حفل منح الروائية عدنية شبلي جائزة عن روايتها تفصيل ثانوي في معرض فرانكفورت للكتاب سخطاً في مختلف أنحاء العالم. وحاول المعرض تدارُك الأمر بمواظبته على التوضيح على موقع X بأنه لم يقدم على الخطوة، بل منظمة «ليتبروم» المانحة للجائزة. وعلى موقع المنظمة يمكن قراءة ما يلي: «بسبب الحرب التي بدأتها حماس، التي يعاني منها الملايين في إسرائيل وفلسطين، قررت ليتبروم عدم عقد حفل جائزة ليبراتوروبرايس في معرض فرانكفورت للكتاب. تبحث ليتبروم عن صيغة ووضع مناسب للمناسبة في وقت لاحق». في الوقت نفسه، أشار حساب المعرض إلى أنه سيُبرز الأصوات اليهودية والإسرائيلية على نحو خاص، مشيراً إلى أن المعرض يقف بتضامن كامل إلى جانب إسرائيل.

ويمكن تلخيص مدى التوتر السياسي الذي يعيشه الساسة الألمان حالياً لتبيان أنهم يفعلون المطلوب، أو ربما ما هو أكثر، من أجل إسرائيل، بإلغاء رئيسة الحزب الاشتراكي الحاكم، ساسكيا إيسكن، لقاءاً قصيراً مع السيناتور الأميركي بيرني ساندرز، الذي زار برلين في الأيام الماضية، لكونه لم يعبّر عن دعمه لإسرائيل بشكل كافٍ، رغم إدانته هجوم حماس، هذا علماً أن ساندرس يهوديٌّ فقَدَ بعضاً من أقاربه في المحرقة. واقعة علَّقت عليها مغردة بالقول: «بتنا في مجتمع (أقف مع) بتعنت وبدون أي شروط، إلى حد لم يعد يُسمَح فيه بأي معارضة أو تقييم موضوعي البتة».

* * * * *

عن معاداة السامية في ألمانيا

مساواةً بصيحاتٍ من الواضح أنها معادية للسامية، كـ«خيبر خيبر يا يهود»، تُفسَّر صيحات وشعارات «فلسطين حرة» أو «من النهر الى البحر فلسطين ستكون حرة» على أنها معادية للسامية في ألمانيا، وتُرى على أنها مُشكِّكة في حق إسرائيل في الوجود وداعية لإبادة شعبها.

وكثيراً ما يصعب تمييز ما يعتبره الساسة والسلطات الألمانية معاداة للسامية، خاصة مع تبني الأحزاب السياسية السائدة تفسيراً متشدداً لمعاداة السامية. ففي العام 2017 تبنى البوندستاغ تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة لمعاداة السامية، ليكون مُرشِداً للسلطتين التنفيذية والقضائية وللقطاع التعليمي. لكن، على عكس باقي دول العالم، تبنى أيضاً جزءاً من الأمثلة التنفيذية التي طرحها التحالف، الخاصة بمعاداة السامية المتعلقة بإسرائيل، لتكون جزءاً من التعريف، إذ يشمل التعريف عبارة: «إلى جانب ذلك، قد تكون دولة إسرائيل، والتي تُعتبر جماعة يهودية، هدفاً لمثل هذه الهجمات».

وقد عارض الخبير القانوني الأميركي المختص بخطاب الكراهية كينيث ستيرن، الذي ترأَّسَ اللجنة التي وضعت التعريف، هذه المقاربة في حديث مع إذاعة في دي إر الألمانية، قائلاً إنهم أرادوا وضع تعريف دولي عابر لمعاداة السامية، لا أن يُستخدم التعريف كسلاح في «مطاردة ساحرات» سياسية، أو أن يقول شخص لآخر «أنت معادٍ للسامية»، ولم يريدوا البتة قمع آراء بعينها، لكن هذا ما تبيَّن حدوثه، الأمر الذي يثير قلقه.

وأوضح ستيرن أن المشكلة تكمن في أن الجماعات اليهودية اليمينية تتخذ التعريف كسلاح وتقوم بمأسسته، وعندما يتخذونه كسلاح يُحرِّفون معناه ليوائم أهدافهم السياسية. هذا ما حدث في ألمانيا عندما شُكِّلت مفوضيات مكافحة معاداة السامية على الصعيد الاتحادي وفي الولايات في 2018، وبالتالي تمت مأسسة التعريف، وأُسيء استخدمه مراراً ضد آراء غير مرغوب فيها. بحسب الإذاعة الألمانية، بدا ذلك واضحاً عندما استهدف البوندستاغ حركة مقاطعة إسرائيل BDS، في العام 2019، وناقش وأقرَّ قراراً قدمته غالبية الأحزاب السائدة يعتبر نشاط «بي دي إس» معادياً للسامية، ويطالب بشطب الدعم المالي المقدم لداعمي الحركة على جميع المستويات الاتحادية والمحلية.

كينيث ستيرن رأى أنه «بسبب التاريخ الألماني ومشكلة الهوية لديهم، يتبنى الساسة الألمان موقفاً متشدداً للغاية ويقدمون دعماً منحازاً لإسرائيل في الصراع الفلسطيني».

أموس غولدبرغ، بروفسور التاريخ في الجامعة العبرية في القدس، أوضح حينها أن مساواة معاداة الصهيونية وانتقاد إسرائيل بمعاداة السامية هي استراتيجية سياسية لدى إسرائيل، تُناقَش علناً في الكنيست. هي سياسة خارجية وليست نظرية مؤامرة.

وأشار غولدبرغ إلى أن حكومة إسرائيل ليس لديها ردٌ على النقد المتعلق بالصهيونية والاحتلال والمستوطنات، لذلك فإن طريقتها الوحيدة لمواجهة كل هذه الأسئلة هي اعتبار هذا النقد معاداة للسامية، أما الجانب الآخر فيتعلق في رغبتها منذ عقد بإلغاء القضية الفلسطينية كلياً من الساحة الدولية، وذلك عبر اعتبار السردية الوطنية الفلسطينية بحد ذاتها معادية للسامية.

ولفت غولدبرغ في حديثه مع في دي إر إلى عيش العديد من اليساريين اليهود في ألمانيا، لكنهم لا يعدون صوتاً شرعياً لليهود، بل على العكس يُعتبَرون معادين للسامية لأنهم ناقدون للغاية للسياسات الإسرائيلية. تالياً، يرى المرء وضعاً غريباً، يقف فيه ألماني ليس بيهودي ليخبر يهودياً بأنه لا يعلم ما الذي يعنيه أن تكون يهودياً ويتهمه بمعاداة السامية، «أمر لا تجده في أي مكان آخر في العالم، هو أمر خاص بألمانيا»، على حد وصفه.

عندما أرسل غولدبرغ رسالة مفتوحة مع 239 أكاديمي يهودي من إسرائيل وكل أنحاء العالم يدعو المستشارة حينها، أنجيلا ميركل، والساسة الألمان لعدم قبول القرار المتعلق بحركة المقاطعة في البوندستاغ، لم تستجب. بل أدت مشاركة المتحدث الصحفي للمتحف اليهودي في ألمانيا خبراً عن الرسالة إلى استقالة مدير المتحف بيتر شيفر بعد «حملة مطاردة ساحرات» ضده، وفق توصيف غولدبرغ.

وقبل أن يصدر قرار «بي دي إس»، أثارت وثيقة سرية (ما يسمى ورقة غير رسمية) حصلت عليها صحيفة ألمانية الجدل نهاية العام 2018، فالوثيقة هي رسالة أرسلتها الحكومة الإسرائيلية إلى الحكومة الألمانية، يُفترَض أنها غير موجودة ولا ينبغي التعليق عليها، تدعو فيها إسرائيل ألمانيا إلى تطوير آليات تمنع حصول منظمات تتدخل في شؤون إسرائيل، أو لديها توجهات معادية لإسرائيل، على الدعم المالي، مُضمّنةً في الرسالة قائمة بـ34 منظمة غير حكومية ووسائل إعلام ناقدة في إسرائيل وفلسطين. وتشير الوثيقة إلى استضافة نشطاء بي دي إس في مهرجان برليناله السينمائي ودعم صناديق ألمانية لأفلام يصنعها هؤلاء النشطاء، داعية إلى ربط مواصلة دعم هذه المؤسسات بإيقاف هذه النشاطات. فيلكس كلاين، مفوض مكافحة معاداة السامية لدى الحكومة الألمانية، قال إنه كان سينتقد الرسالة كتدخل في الشأن الداخلي الألماني لو أنها كانت مطالب رسمية.

عندما دعا كلاين لجنة خبراء قانونيين في البوندستاغ لإبداء رأيها في قرار البوندستاغ ضد حركة المقاطعة بي دي إس، ردت بأنه سيكون، كقانون، مخالفاً للدستور. مع ذلك ما زال القرار البرلماني ذو ثقل لدى السلطات عندما يتعلق الأمر باتخاذ قرارات إجرائية.

وفي مارس 2021، صدر «إعلان القدس حول معاداة السامية» كمقابل لتعريف التحالف الدولي، ولا يعتبر الإعلانُ مقاطعةَ إسرائيل معاداةً للسامية في حد ذاتها.

غولدبرغ، أحد المبادرين لوضع «إعلان القدس»، أوضح أن تعريف التحالف الدولي يعتبر انتقاد سياسة إسرائيل معاداةً للسامية حتى يثبت العكس، مشيراً إلى أن الكثير من الداعمين للفلسطينيين ينتقدون إسرائيل على سياستها، وبعضهم يتجاوزون الحدود إلى معاداة السامية، لكن النقد من حيث المبدأ ليس معادياً للسامية بل هو نقد سياسي، مبيناً أن استخدام لغة صورية معادية للسامية، أو شيطنة إسرائيل بشكل يفوق ما يمكن إثباته، يمثل تجاوزاً للحدود نحو معاداة السامية، وهنا الفرق.

وأشار أيضاً إلى أن إعلان القدس ينطلق من افتراض البراءة، فيما ينطلق تعريف التحالف الدولي من كون النقاش الناقد هو في ذاته معادٍ للسامية.

وكان غولدبرغ قد نشر مقالاً على صحيفة فرانكفورتر ألغماينه الألمانية قبل أشهر، انتقد فيه مفوض الحكومة الألمانية لشؤون معاداة السامية فليكس كلاين، الذي اعتبر وصف إسرائيل بدولة فصل عنصري معادياً للسامية. ووصف غولدبرغ كلاين بالإيديولوجي والبعيد عن الواقع، معتبراً أن «اتهام إسرائيل بكونها دولة أبارتهايد ليس معادياً للسامية. فذلك يصف الواقع».

كينيث ستيرن رأى بدوره أن تعريف «التحالف الدولي» وُضِع لغرض آخر، لا لاستخدامه لوصف شخص ما بأنه معاد للسامية لقوله شيء عن إسرائيل فحسب، وأن شتم الناس بكونهم معادين للسامية بات شائعاً لدرجة بات من الصعب معها معرفة ماهية مُعاداة السامية.