عودة سوق التنابل إلى الحياة
لم يكن سوق الشعلان وسط العاصمة السورية دمشق مجرد مكان للبيع والشراء، بل كان مسرحًا بصريًا للوفرة والجمال خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي. حين كنت تمشي بين محلاته، كنت تشعر أنك في متحف للطعام، تحديدًا الفواكه والخضار، حيث كان كل شيء منظمًا بعناية لا توصف، وكأن منسّقي الفواكه والخضار ليسوا مجرد باعة، بل فنانون يبدعون لوحات من الألوان والنكهات.
أما إذا كنت ممن لا يملكون الوقت لتجهيز الخضار، فكان الحل جاهزًا: سوق التنابل، كما اعتاد الدمشقيون على تسمية سوق الشعلان، هناك، كان بإمكانك أن تجد البطاطا مقشرة ومقطعة، الفاصوليا جاهزة للطهي، البامية نظيفة، الباذنجان والكوسا محفوران، والبقدونس مفروم ومعدّ للاستخدام.. وبالطبع، كان لهذا الرفاه ثمنه، لكنه كان خيارًا مريحًا لمن يبحث عن السرعة والجودة معا.
كان السوق، بكل هذا الازدهار، يعكس حيوية الاقتصاد السوري في ذلك الزمن، حيث التجارة مفتوحة، والأسواق تعج بالبضائع المحلية والمستوردة، لكن كل ذلك تغيّر بعد عام 2011.
تحوّلت دمشق إلى مدينة منهكة، والسوق فقد بريقه شيئًا فشيئًا، حتى أصبح أصحاب المحلات يجدون صعوبة في تأمين البضائع أصلاً. لم تعد الفاكهة والخضار كما كانت، والأنواع المستوردة صارت خطرا يهدد التجار بالسجن بسبب القيود المشددة على الاستيراد، تحت ذريعة الحفاظ على العملة الصعبة.
◄ السوريون يراقبون، يترقبون، يأملون، لكنهم أيضًا يخشون من أن تكون هذه العودة إلى الحياة مجرد حلم قد يصحو منه الجميع على واقع مختلف
لكن اليوم، وبعد رفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، نهض سوق الشعلان من كبوته، وكأنما بسحر ساحر.
فوق رفوف خشبية صغيرة في قلب السوق، تتلألأ حبّات المانغا والكيوي والأفوكادو والأناناس بألوانها الزاهية، مشهد لم يعتده السوريون خلال سنوات الحصار الاقتصادي. يقول أحد الباعة بابتسامة واسعة “لم نعد نخبئ الأناناس، نضعه اليوم على الواجهة بكل ثقة.. زمن الخوف من الأناناس انتهى!”
طيلة عقود، كانت الفواكه الاستوائية رمزًا للرفاهية في سوريا، إذ صنّفتها السلطات ضمن الكماليات، وفرضت قيودًا صارمة على استيرادها. لم يكن الحصول عليها سهلاً، حيث لجأ التجار إلى طرق تهريب سرية عبر الحدود، وكان سعرها يفوق قدرة المواطن العادي، حتى أن بعضهم خبّأ الأناناس في محركات السيارات لإدخاله إلى البلاد بعيدًا عن أعين الرقابة.
لكن مع التغييرات السياسية الأخيرة، بدأ المشهد الاقتصادي في التبدل بسرعة مذهلة. فالدولار، الذي كان التداول به ممنوعًا ويُعاقب عليه القانون، أصبح الآن متاحًا في كل مكان. وتزايدت حركة السيارات الحديثة في الشوارع، كما بات الوقود، الذي كان نادرًا لسنوات، متوفرًا دون عناء.
انخفاض أسعار الفواكه الاستوائية هو أحد المؤشرات التي تعكس التحول الاقتصادي الجديد، حيث أصبح سعر كيلوغرام الأناناس 40 ألف ليرة، بعد أن كان 300 ألف العام الماضي. هذا التحول السريع أعطى السوريين شعورًا بأن حياتهم تعود إلى طبيعتها، وأن الاقتصاد يستعيد عافيته، ولو بشكل تدريجي.
لكن، رغم هذه العلامات الإيجابية، لا تزال هناك تساؤلات عالقة.
هل ستتمكن الدولة من الحفاظ على هذا الزخم الاقتصادي؟ هل يبقى الاستقرار الأمني راسخًا، أم أن شبح الاقتتال قد يعود ليخطف هذا الانتعاش الوليد؟
لا يمكن الحديث عن نهوض اقتصادي حقيقي دون استقرار أمني متين، فالتاريخ أثبت أن رأس المال جبان، وأن المستثمرين يحتاجون إلى بيئة آمنة قبل أن يغامروا بأموالهم. ولهذا، بدأت السلطات الانتقالية في إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، واستحداث إدارات جديدة لمكافحة التهريب والجريمة المنظمة، لضمان بيئة ملائمة للنشاط الاقتصادي.
◄ طيلة عقود، كانت الفواكه الاستوائية رمزًا للرفاهية في سوريا، إذ صنّفتها السلطات ضمن الكماليات، وفرضت قيودًا صارمة على استيرادها. لم يكن الحصول عليها سهلاً
لكن هل هذه الجهود كافية؟ البعض يرى أن الوضع لا يزال هشًا، وأن الاستقرار الذي نشهده اليوم قد يكون مؤقتًا. فالبلد خرج من حرب استمرت 14 عامًا، وأرهقت مؤسساته وشعبه، ويحتاج إلى وقت طويل حتى يستعيد عافيته بالكامل.
ومع رفع العقوبات، تفتح الأبواب أمام فرص استثمارية جديدة، لكن السؤال الأهم: هل يكون الاقتصاد السوري مركزًا للنمو المستدام، أم يبقى معرضًا للاضطرابات؟
الكل في سوريا اليوم يراقب بحذر، لأن الجميع يعرف أن التحسن الاقتصادي لا يعني فقط توفر السلع، بل يعني قدرة الناس على عيش حياة مستقرة وآمنة. فإذا تمكنت السلطة الجديدة من ضبط الأمن وتعزيز المؤسسات الاقتصادية، فقد يكون هذا بداية نهضة حقيقية تعيد لسوريا مكانتها الاقتصادية في المنطقة.
أما إذا عاد الصراع ليطل برأسه من جديد، فإن المشهد سيختلف، وسيبقى الاقتصاد في دائرة التقلبات والتراجعات، مثلما حدث خلال السنوات الماضية.
الأسواق تزدهر، الناس بدأوا يستعيدون شيئًا من حياتهم السابقة، لكن التساؤلات حول المستقبل لا تزال قائمة.
وفي نهاية المطاف، يبقى السؤال الأكبر: هل تكون هذه بداية انتعاش طويل الأمد، أم مجرد استراحة مؤقتة قبل دورة جديدة من الأزمات؟
السوريون يراقبون، يترقبون، يأملون، لكنهم أيضًا يخشون من أن تكون هذه العودة إلى الحياة مجرد حلم قد يصحو منه الجميع على واقع مختلف.