هذا المقال هو الفصل الثالث من كتابي القادم الظلال المتنقلة (الصادر قريباً عن خان الجنوب-برلين)، وهو كتابٌ في أدب الرحلات عن زيارتي إلى أراضي الجزيرة العليا في تشرين الأول (أكتوبر) 2024، في إثر أسامة بن منقذ، الذي أمضى عقداً من السنين في حصن كيفا، ألّفَ فيها معظم كتبه، وتأمَّلَ في أقداره. من خلال الرحلة، سأحاول فهم أسامة، وفهم نفسي. هناك الكثير من الاختلافات بيني وبينه: كان فارساً، وأنا أَرهبُ السلاح؛ كان لطيفَ المعشر تُفتَح له أبواب القادة والحكام والقصور والمدارس، وأنا مُنزوٍ منعزل؛ كان متورطاً في الألاعيب السياسية، وأنا أخشى السياسة. ولكننا نتشارك في الأسئلة حول معنى القَدَر، والمصائب، والكتابة، واللهو، في عالم قاتمٍ قاسٍ.
ومن ذلك اللهو في الأقدار، عودتي إلى بلدي بعد أقل من شهرين من الرحلة، إلى البلد الذي كنتُ واثقاً بأنني لن أراه مجدداً. في سوريا، حرَّرتُ الكتاب الذي يقوم بكليّته على استحالة زيارتها! وفي سوريا، أيضاً، اكتشفتُ أن الرحلة ساعدتني على فهم مدينتي، دمشق، وتَذوُّق مَباهجها، وخساراتها، بشكل جديد. التشابهات والتقاطعات بين المدن التي زرتُها ودمشق، شحذت مشاعري وقلقي ومحبتي، لدمشق، ولتلك المدن. هذا لم يكن في الحسبان، وأنا مدينٌ للرحلة بشكل آخر لم أكن أتوقعه.
اليوم الأول
على الطريق، حاجز للجيش التركي. الحرارة تتجاوز الثلاثين درجة مئوية، وكل الركاب رسموا وجوهًا ميتة. لا ابتسامات، لا دمدمات. حتى الرضيعة، والطفل: لا نأمة أمام عساكر الجيش. نظرَ إلى جواز السفر، ثم نظرَ إليَّ. تذكرتُ كل ما يخيفني في هذا الكون: شابٌّ وسيم، ربما في العشرين من العمر، يتحوَّل إلى جندي. في سوريا، شبابٌ يحاربون مع جيش النظام، مع الكتائب الإسلامية، مع الميلشيات الشيعية، مع الروس، مع الأميركيين، مع داعش، مع الجيش الحر، مع الأكراد. العسكر عسكر، في كل مكان وزمان. لم أكن يومًا من أنصار السلمية المطلقة. لكنني أجد نفسي أقرب إليهم، باستمرار. ما الذي يدفع كل هؤلاء الشباب لحمل السلاح؟ نظرتُ إليه. لم يلاحظني، ولم يسأل أيًّا من الركاب شيئًا. انطلقنا، ولم يتكلَّم أحدٌ لمدة طويلة.
الطريق ينحدر بين الجبال. على اليمين، نهرٌ يجري، جالبًا معه اللون الأخضر. ولكن الجبال جرداء، بيضاء، قاسية. اشتهرت نصيبين بكونها معقلًا للمسيحيين السريان اليعاقبة، وفيها مدرستهم الشهيرة. عندما سلمها البيزنطيون للفرس العام 363م، هجرها معظم أهلها، وذهبوا إلى أورفا (الرها) وديار بكر. لاحقًا، تحولت مدرسة الرها إلى النسطورية، فطردَ الإمبراطور البيزنطي أساتذتها. (لم تقبل الإمبراطورية بوجود النسطورية، على عكس أصحاب الطبيعة الواحدة، الأرمن والأقباط واليعاقبة، الذين حافظت القسطنطينية على علاقاتها معهم، رغم الاختلافات اللاهوتية والقمع المتقطع بحقهم). عادوا إلى نصيبين، التي أصبحت أيضًا معقلًا نسطوريًّا. قدَّمت المدارسُ السريانية خدمة جليلة للثقافة العربية الإسلامية في بداياتها، في الترجمة والتأليف. ثم تراجع دور المدينة التجاري والثقافي مع التغيرات العميقة في بنية المنطقة. قبل «ترحيل الأرمن»، كان معظم سكانها مسيحيين يعاقبة، بالإضافة إلى أرمن وعرب. أما اليوم، فهي مدينة بأغلبية كردية ساحقة، تقع على حدود سوريا، وفيها معبر حدودي مغلق منذ بداية الحرب. حدثت فيها صدامات عديدة بين مناصري حزب العمال والجيش التركي، بعد سيطرة مسلحين مقرَّبين من حزب العمال على مناطق واسعة في الجزيرة السورية، شمال شرق البلد.
فجأةً، بدأ السائق يناقش وضعي مع راكبٍ تبنَّى قضيتي، بالكردية. كنتُ قد أخبرت السائق بمكان نزولي، وأريته عنوان الفندق على الهاتف. فهمتُ أنه نسيَ، ولم يسمع قط بهذا الفندق. أخذوني، أنا وحقيبتي، ومشوا بي مسافةً قصيرة. قلتُ إنني أريد تاكسيًّا. أتى رجلٌ بسيارة من دون إشارة تاكسي عليها. أعطيته رقم هاتف الفندق. كلمهم لدقائق طويلة. ما الذي يناقشونه؟ نظرتُ حولي. درجة الحرارة اليوم أعلى من الأيام السابقة، وكل شيء يُوتِّر الأعصاب. وصلتُ إلى الفندق. لم يسمعوا بهذا الحجز. بعد ربع ساعة من النقاشات، بين فتاتين وفتى، حسمت الصبية ذات العينين الخضراوين الواسعتين النقاش: «ويلكم. نو بروبليم»، وابتسمتْ. أحمر شفاه لامع جذاب. لماذا نتواصل بالإنكليزية؟ الفتى جرَّب كل الكلمات العربية التي يعرفها. سبعة فقط. ثم قال:
– آه، أنا بحبك؟
انفجرنا ضاحكين جميعًا.
غرفة واسعة جدًّا، نظيفة. ورق الحائط يصوِّر منحوتات خشبية نافرة. من النافذة، ترى الأوتوستراد العريض المؤدي إلى ماردين، وأبنية قليلة متوزعة على الطرف الآخر، ومحطة وقود. فتحتُ الحاسوب. الإنترنت سريع. موظفة الاستقبال بعينيها الخضراوين سألتني، ببراءة: «تحكي كرمنجي؟». كلا. ولا كلمة. شعرتُ بتأنيب الضمير. كبرتُ في حي الأكراد في دمشق، وفيه كبر أبي وأمي أيضًا. مع ذلك، كمعظم العرب، لا نعرف شيئًا من الكرمنجية. لا أعتقد أن ذكرياتي عن المكان لطيفة جدًّا. مثل نصيبين، كان الحي قاسيًا. ولطالما اعتقدتُ أن أبي وأمي اكتسبا قبول كل الناس، جزئيًّا، لأنهما نشآ في حي الأكراد. لم يُفكّرا يومًا في هويات مغلقة، وكنتُ محظوظًا في هذا.
قرأتُ قليلًا، ثم حاولتُ النوم. فشلتُ. استمعتُ إلى شوبيرت. أنا أحب موسيقى الرومانسيين، وعواطفهم المتشخلعة. Sonata for Arpeggione and Piano in A minor. انتظرت حتى المساء. قررتُ أن أمشي قليلًا في المدينة. سأزور المعالم التاريخية غدًا، وهي ليست كثيرة، مسجد وكنيسة.
محاولًا ألا يزيد قلقي، درستُ الخريطة جيدًا: شارع واحد طويل، «جادة الجمهورية»؛ في نهايته أَنحرفُ يسارًا نحو المدينة القديمة. لا أريد أن يوقفني الجيش التركي في مكانٍ أجهل أهميته العسكرية. مشيتُ، لتنتابني نوبة ذعر كاملة: أولًا، يحدِّق أهل نصيبين إلى الغرباء. وهذا ما يزيد من رعبي. وقد حاولتُ جاهدًا ألا أثير الشكوك، منذ بدأتُ الرحلة. أطلقتُ لحيتي قبل أسابيع من وصولي، أكثر من المعتاد، جلبتُ ألبسة بألوان داكنة، ولم ألبس الشورت. مع ذلك، يحدقون إليَّ. بعد عشر دقائق، منطقة عسكرية تركية. أخذ قلبي يخفق بعنف. نوبة ذعر. وقد أصابتني نوبات ذعر شاملة من قبل. أربع أو خمس مرات. مرة في كوبنهاغن، بلا سبب. كنتُ أمشي، وفجأة، شعرتُ بأنني مُراقَب. المرات الأخرى، كنتُ أنتظر فيها أوراق الإقامة: في إسطنبول، قبل عشر سنين، وقد أضاع مركز الهجرة جواز سفري. وفي مالمو، قبل أشهر قليلة، كذلك، لم تجد دائرة الهجرة طلب الجنسية الذي كانوا يدرسونه لأشهر. والآن. أنا متأكد أنهم راقبوني، منذ وصولي إلى إسطنبول، وتابعوني في باطمان، وحسن كيف، وميديات.
جادة الجمهورية تقع على طرف المدينة: بمعنى، على يميني، سوريا. مشيت من دون أن أنظر. ولكن البنايات اختفت، لينفتح الأفقُ عليها. أسرعتُ الخطى، لأصل إلى السوق المركزي. تابعتُ بِهمَّة، لأجد نفسي عند ساحة الجمهورية. تمثال أتاتورك. أبنية أثرية (أعتقد عمرها قرنان، ليس أكثر)، بالضبط مثل ميديات، حجر أبيض وأبيض محمرٌّ. جميلة جدًّا، وليست كبيرة. مشيتُ بتأنٍّ، وأنا أعرف تمامًا إلى أين وصلت: الحدود مع سوريا. تزايد خفقان قلبي. لو أوقفوني هنا، لن يقنعهم شيء بأنني سائح، بأنني أبحث عن أجوبة لأسامة. ارتجفتُ كليًّا. يجلس الناس في الحديقة المطلة على نقطة الحدود، والشمس تغرب. القامشلي أمامي فورًا. التففتُ بعيدًا عنها، لأجد نفسي عند الآثار التي كنت أنوي زيارتها غدًا. دخلتُ المسجد، علَّ قلبي يهدأ.
مسجد زين العابدين صغير، عواميده عريضة وقصيرة وكثيرة، ما يوحي بحميمية خاصة. نزلتُ إلى القبر الدرجاتِ الثلاث. يقولون إنه من أحفاد الإمام علي. اللون الأخضر. لا يوجد أحد في المسجد. المئذنة أمام الجامع مستقلة عنه، طويلة، جميلة، عريضة. الجامع من العهد ما قبل العثماني. اتجهتُ نحو الكنيسة. الحارس يغلقها. هتفتُ به بالإنكليزية: «أرجوك، خمس دقائق فقط». سمح لي، بل رافقني إلى داخل الكنيسة، وأشعلَ الأضواء، ودلَّني على القبو.
الكنيسة ساحرة. لم تكتمل إعادة إعمارها. معظمها مُهدَّم في الخارج. ولكن البناء الباقي مؤثر جدًّا: أحجار شبه-سوداء، والنقوش عريضة فجة فخمة. القبر في القبو. نزلتُ مسرعًا. مساحة صغيرة، تكاد تتسع فقط لقبر القديس يعقوب النصيبيني، أول أُسقف للمدينة، التي فيها وُلد ومات. اشتُهر بزهده، وحارب الأريوسية والنسطورية، وزار بلاد فارس لنشر المسيحية، كما أشرف على تعليم القديس أفرام. يحتفل بعيده الكاثوليك والأرثوذكس واليعاقبة والأرمن. طلبتُ منه، بشكل شخصي، أن يحميني، من كل ما قد يصيبني من مصائب.
لم يطلب الحارس مالًا، ولم يرد مزيدًا من كلمات الشكر. شعرتُ بأنه فعل ذلك، فقط كي يؤكد لي أن الإجابات لن تفرَّ مني كليًّا، على أنني وأسامة، سنتابع الرحلة، كما خططنا لها، على أن الوقت لن ينفد قريبًا.
خرجتُ مسرعًا. عدتُ من نفس الدرب. لم آكُل منذ الصباح. وجدتُ مطعمًا بحديقة واسعة. جلستُ وأكلتُ. أغلى من باقي المطاعم. لا بأس. أنا بحاجة إلى أن أدلل نفسي قليلًا. على يساري، سوريا. نظرتُ، وحاولتُ ألا أزيد جرعة الرومانسية. تحيط سوريا بنصيبين، إذ تشكل المدينة مثلثًا تركيًّا داخل خط الحدود السوري. ولكن الشمس تغرب، وكل غروب جميل، حتى لو كان سوريًّا.
هل شعر أسامة بنوبات الذعر هذه؟ على الأغلب. عندما كان يهرب بعائلته من مصر، وعندما غادر زنكي، والأسوأ، عندما غادر شيزر. أجل. كان يذهب إلى المجهول. ولكنه كان يحاول، في كل مرة، أن يعيد بناء حياته. وكانت الظروف تساعده.
عدتُ إلى الفندق. نافذتي تطل على أوتوستراد ماردين، وأمامي، على بعد عشرات الأمتار، سوريا. لم أعرف ذلك عندما دخلت الغرفة هذا الصباح.
هناك، من دون رومانسية، حروبٌ لا تنتهي، تركها أسامة، وقدمَ إلى الجزيرة.
يقول جان جينيه إن أفضل طريقة للتخلص من التوتر والقلق هي الاستمناء. مباشرةً، في اللحظة نفسها. وكان يفعل ذلك، حتى عندما يكون في المطاعم أو المقاهي. يبحث عن أقرب دورة مياه. لا يشبه هذا محاولات المتصوفة وممارسي اليوغا لضبط النفس. أعود إلى نصوصه في أدب الرحلة، التي جمعها في أسير عاشق، عن فلسطين. الأسلوب غير مقنع، ومفكك جدًّا. ولكن بعض الصفحات أخّاذة. وضعتُه جانبًا، وتركتُ روحي تهيم مع عازف الناي التركي الصوفي، قدسي إرجونير، غارقًا في ولهي وتَوتُّري وقلقي.
اليوم الثاني
الجبال إلى اليسار؛ إلى اليمين، قرى صغيرة، ووراءها، خلف غلالة التراب، سوريا. الغلالة لا تتكثف، ولا تتحلل. لا تشبه الضباب في الغرب. بل شيءٌ من حرِّ الشمس، يطبخ الأفق كبخار يَصَّاعدُ من شاي ساخن. وصلنا دير مار إيفين (القديس أوجين). سائق التاكسي اكتفى بالجلوس، منتظرًا نهاية مغامرتي المسلِّية له. صعدتُ وحدي، وأنا أفكر في تلك العزلة المطلوبة، هناك في الأعالي. يطلون على سهل مفتوح، سهل يجمع ما أصبح اليوم تركيا بسوريا. عندما بناه القس القادم من مصر، لم يفكر في مصير السهل، في الحدود، في جوازات السفر.
استولى النساطرة على الدير لفترة قصيرة في القرن السادس، ثم عاد إلى اليعاقبة. والنسطورية مذهب مسيحي، أدانه مجمع خلقدونية، وانتشر بين السريان الشرقيين خلف حدود الإمبراطورية البيزنطية، في بلاد الرافدين وفارس. إذ ينقسم السريان -وهي تسمية للسكان الذين تكلموا اللغة السريانية في مناطق الجزيرة والرافدين وسوريا، وتبنوا المسيحية، وليست تسمية عرقية أو إثنية- بين النساطرة واليعاقبة. كان الأرمن والأقباط واليعاقبة يتبعون ما سمَّته كنيسة القسطنطينية «أصحاب الطبيعة الواحدة». على عكس مصر وأرمينيا، التي أصبح فيها الملكيون الأرثوذكس أتباع القسطنطينية أقلية صغيرة، انقسمت الجزيرة وسوريا بين اليعاقبة والأرثوذكس. أما النساطرة، فقد اعتبرهم كلُّ هؤلاء هراطقةً. انتشرت النسطورية، إذًا، في بلاد فارس، ووصلتْ إلى الهند، ولاحقًا سادت بين المغول المتنصِّرين. تراجع دور النساطرة كثيرًا مع وصول تيمورلنك، وحملاته الدموية. كانوا عشائر شبه-مستقلة مسلحة مع نهايات القرن التاسع عشر، بأعداد صغيرة، في جبال هكاري وحول بحيرة أورميا، وتحالفوا مع الروس والإنكليز. خاضوا معركة مع العثمانيين، انتهت بمجزرة كبرى، وتهجيرهم جميعًا من آسيا الصغرى، إلى العراق.
قابلتُ قسًّا ينزل مُسرِعًا. سلَّم عليَّ. سألني ما الذي أفعله. أجبته زيارة.
– سرياني؟
– لا، عربي. من سوريا.
– أهلا وسهلا.
وتابع طريقه.
لا يوجد زوار إلّاي، وأعمال حفر، لتوسيع مدخل الدير.
الدير نفسه صغير. حوله، تتوزع آثار خَرِبة. ربما، كان أكبر بثلاث مرات من حجمه الحالي.
دخلتُ مترددًا. حجر أبيض-رمادي. لا يشبه القصور والمباني في ميديات، بل أقدم بكثير. أقدم دير مسيحي في المنطقة. بُني بعد تبني الإمبراطورية البيزنطية للمسيحية بوقتٍ قصير، في منتصف القرن الرابع. قاعة الكنيسة لا تتسع إلا لعشرين شخصًا، أو ثلاثين، على الأكثر. لا زينة. صورٌ قليلة، حديثة، غربية وليست سريانية، رخيصة الثمن. المذبح صغير. كل شيء يوحي بالزُّهد، بهجران العالم.
خرجتُ من القاعة. اتجهتُ نحو الفسحة الصغيرة المفتوحة. سمعتُ أصواتًا. وصلتُ إلى الطرف المطل على السهل. راهبٌ يُدرِّس فتى، بالسريانية. سألني عما أفعله هنا. ثم أخبرني بأنه سيقودني في جولة صغيرة.
يتكلم الراهب عدة لغات: الإنكليزية، والألمانية، والكردية، والتركية، وبالطبع، السريانية. أخذني إلى الكنيسة. أخبرني بعمر الدير. لم يتكلم كثيرًا عن المؤسس. ثم صحبني إلى مدفن الرهبان التسعة. لم يشرح عنهم. ولكنه قال إن السريان يُصلّون لهم. الرهبان مدفونون في الحيطان، بشكل أفقي. سألني عن حياتي. أجبتُ، مثله، باقتضاب.
– سرياني؟
– لا، عربي. ولكن، أمي مسيحية.
ثم أضفتُ:
– روم.
الراهب طويل، نحيل، وسيم، صارم، بلحية كثة، وجبَّة سوداء، وسطه مزنر.
سألتُه ونحن خارجان، عن الباب:
– كل الأبواب قصيرة، ضيقة.
أجابني:
– كي يتواضع البشر.
وفي إنجيل لوقا: «اجْهدُوا للدّخُولِ مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ».
فجأة، قال لي الزيارة انتهت.
– هل يمكن أن أرى الطرف العُلوي؟
– كلا، مساكن خاصة. انتبه على الطريق.
ثم كرر، بكلمة مشتركة بين العربية والسريانية:
– انتبه.
نزلتُ على مهل. أقف كل دقيقتين. المشهد مهيب: أمامنا سهل كبير بنِّي، قرى صغير متناثرة. ونحن في سلسلة الجبال، التي أصبحت تُعرف باسم طور عابدين، أي «جبل المتعبدين»، التسمية السريانية للمنطقة. فقد انتشرت المسيحية بسرعة كبيرة في شمالي سورية ومناطق الجزيرة، في القرن الثالث، بين الناطقين بالآرامية ولهجاتها المتعددة، ومنها السريانية. قدَّمت بديلًا لحالة التيه والضياع الفكري والديني الذي تخبَّطت فيه الإمبراطورية الرومانية طويلًا. في سوريا ومصر، انتشرت حركات الزهد والرهبنة بشكل متسارع مثير. في مصر، أخذت شكل الرهبنة الجماعية؛ أما في سوريا، فحركاتٌ فردية تتسم بزهدٍ عنيف، وبالتفرّغ لله وحده.
تابعتُ النزول، وأنا أتمنى أن أفعل ذلك؛ أقصد، أن أعيش في دير بعيد لسنتين أو ثلاث. سأحتاجُ إلى الكتب، بالتأكيد. ولكن، لا شيء آخر. ربما، سأصبح أهدأ، وقد أتخلّص من الأرق! ولكنني أريد ابني وزوجتي معي، وأريد أن أزور أهلي، في دمشق، لو أمكن، وأن أتمشى لأدردش بلا هدف مع بضع أصدقاء. ليس أكثر من ذلك. هل هذه عزلة ربانية مقبولة للرهبان؟ العمال يضحكون. أحدهم يتكلم بالعربية مع زميله. غيمٌ خفيف، كسر حدة الشمس. وقفتُ، والتقطتُ صورةً للدير. انتبهتُ إلى ألواح الطاقة الشمسية أعلاه. أعتقد أن أسامة لم يزُر الأديرة المسيحية. ولكنه اعتزل، تقريبًا، في إقامته الطويلة في الجزيرة. الجبال، الجبال هذه، الصخرية، البنية والبيضاء، تستدعي الوحدة، والعزلة. قبل اعتزاله في حصن كيفا، في أيام الشباب، زار نصيبين مع زنكي، وصاد فيها حيوانات متوحشة. أليست الشجاعة أن يعتزل المرءُ الناس، أن يهجر بُهرُجَ الحياة الكاذب، والنجاح الاجتماعي، وتكديس المال؟ نظرتُ حولي: الحياة البرية انقرضت كليًّا هنا. لا صيد، ولا صيادين.
اقتربتُ من العامل السوري. سألته عن إقامته هنا. يعيش في أورفا. قال أورفا أفضل بكثير من نصيبين، وماردين جيدة. يبدو -تقريبًا- راضيًا. من حلب. والعمال الآخرون من إدلب، ومناطق أخرى. سألني عن إقامتي في ألمانيا. تمنى لي صحة جيدة. العمل كثير، وعليه أن يكسب قوته وقوت أسرته. يحمد الله، على كل حال.
بالطبع، لم يزر الدير. قال، باسمًا.
ربما، لا يسمح له مديره التركي؛ ربما، لن يفرح باستقباله الراهب الصارم؛ ربما، لا يفكر هو في زيارة معبد مسيحي.
نزلتُ، وغلالة التراب تتعالى أمام عينيَّ.
رأسي يدور.
الجبل يدور؛ دوخة خفيفة.
عطَشٌ.
أين الماء؟
اليوم الثالث
نمتُ جيدًا. ربما الإرهاق. قررتُ أن أمشي قليلًا. القفز على الأوتوستراد عملية معقدة للوصول إلى المدينة. نسيم خفيف. أتجه نحو الساحة الأقرب، وأترك جادة الجمهورية، لأغامر إلى قلب المدينة، أو ما ظننته قلب المدينة. أمشي ثلث ساعة، في شارع رئيس، بلا ملامح، ثم أصل إلى نصيبين «الجديدة». بنايات كثيرة، أربعة أو خمسة طوابق. شوارع عريضة. حدائق. كلها مرتبة بشكل حسن. نصيبين القديمة، تقع قرب نقطة الحدود، ولا يستطيعون التوسع هناك، وإلا سيدخلون سوريا، التوسع خلفها. عملية البناء كبيرة، في كل مكان. بمساعدة خرائط غوغل، قررت أن ألتفَّ، وأتجه نحو سكة الحديد. واحدة من أشهر المعالم التاريخية في الشرق الأوسط، وتكاد تفصل بين نصيبين القديمة والجديدة. كانت جزءًا من المشروع العثماني لربط برلين ببغداد. تذكرتُ أنني سكنتُ في إسطنبول في حي قاضي كوي، قرب محطة القطار الرئيسة، حيدر باشا، عقدة الوصل بين المدينتين في المشروع بأكمله. أمشي على طول الخط، مدندنًا «يا وابور قولي رايح على فين»، لمحمد عبد الوهاب. ولكنها لا تناسب الجو. أخذَ الحر يشتد. أَتبعُ السكة. طيلة الوقت أقفز من طرف إلى طرف، لأحتمي بالظل: عادة مشرقية قديمة، كنتُ قد نسيتها تمامًا منذ انتقلتُ إلى أوروبا. لا توجد قطارات، بالطبع. فقط سكة يتيمة، تشهد على ماضٍ عثماني لربط مدنٍ ما لبثت أن انفكت بعنف شديد. «والقُرب نصيب والبُعد نصيب». أبتسم، مرغمًا. يبدأ الخوف بالتبخُّر في الحر- تطرده كلمات أحمد رامي العابثة. أكثر من مرة، أخبرني أصدقاء، مازحين، بأنني جبان. وفي طفولتي، ومراهقتي، كنتُ ضعيف البنية، نحيلًا؛ وتجنبت المشاجرات. أتابع التجوال خلف السكة. في المفاوضات النهائية بين الفرنسيين والأتراك، عقب الحرب العالمية الأولى، تحوَّل خط سكة الحديد هذا إلى خط الحدود بين سوريا وتركيا: النقيض الكامل لمعنى السكة، لاتصال المدن والناس! ثكنة عسكرية. تجاوزتُها وعُدتُ إلى جادة الجمهورية. واليوم، ما زلتُ أتجنب النقاشات الحادة، على صعيد شخصي، أو في وسائل التواصل الاجتماعي. أفكر في أسامة، وشجاعته؛ ولكنها شجاعة مضبوطة بالعقل؛ وبكل الأحوال، أمرُ الله قَدَرٌ مَقدور، دومًا، بحسب أسامة. يراوغ كتابه الاعتبار بين الثلاثة: العقل، والشجاعة، والقَدَر؛ ولا يصل إلى نتيجة حاسمة.
أدخلُ مقهى أنشئ حديثًا. لا يوجد الكثير منه هنا. فارغٌ من الزبائن. مكيَّفٌ. طلبت قهوة «فلات وايت». «أديل» تغني بحماسة. أتكلم الإنجليزية. يسألني عامل المقهى: «من أين أنتَ؟» أتردد. أنتبه إلى أنني «أوروبي». أنسى ذلك على الدوام، أو، لا أصدقه. ولكنني، فعلًا، أوروبي: والدليل، جواز السفر الذي أسافر به، وأتنقَّل، في ربوع تركيا، في حين لا يُسمح لثلاثة ملايين سوري يعيشون هنا، وحاصلين على الإقامة المؤقتة التركية (المسماة «كيمليك»)، بالتحرك خارج الولايات التي يقيمون فيها. وبين فينة وأخرى، تندلع أحداث شغب، يهاجم فيها الأتراكُ السوريين، فتتدخل الشرطة، وتقبض على الكثير من السوريين، المخالفين، أو حتى مع أوراقهم النظامية، لترمي بهم في سوريا. هذا سبب خوفي. ولا أعتقد أن الشجاعة تساعد كثيرًا. أجيبه: «سوريا، ولكنني قادم من ألمانيا». يبتسم، بتشكك. أجلس أمام النافذة. تعبر ثلاث مصفحات عسكرية سوداء، متجهةً إلى نقطة الحدود، ومعها ثماني سيارات شرطة، وأكثر من عشرين دراجة نارية. لم تمتد أحداث الشغب تلك إلى هذه المناطق التي أزورها، بأكثريتها الكردية. ربما، لأن عدد السوريين قليل في المناطق الفقيرة؛ وربما، لأن الشغب يحدث بسبب تحريض قوميين أتراك، لا يثير الأكراد. عقلنتُ الخوف، قليلًا، بهذه المحاججة. ولكن حتى في سوريا، كنتُ قلقًا. لم أشعر بالأمان، منذ بدأ وعيي السياسي، بالتدريج، يتكوَّن، معارضًا للنظام، من جهة، وللمجتمع المتزمِّت عمومًا، من جهة أخرى. لا أريد القول بأنني كنت بطلًا لمَّاحًا ثوريًّا. كلا، على الإطلاق. كنتُ أستمتع بحياتي قدر الإمكان، وأسكتُ على ما لا يناسبهما. عشتُ حياتي كلها مُتكاذبًا: لا أجرؤ على قول ما أؤمن به، أو ما لا أؤمن به، بالأحرى.
أتوجَّه نحو محل الكنافة، «صدِّيق». عصري، ونظيف، وأنيق. طلبتُ صحنًا منها، بابتسامة عريضة. ضحك الشاب. الساعة الحادية عشرة ظهرًا. ابتسمتُ ببلاهة. لم يناقش. يجب أن أنتظر ربع ساعة. جلستُ، وتذكرت أنني ربما لم آكل كنافة جيدة منذ خروجي من سوريا. في كل مكان، شعار المطعم مكتوب بالأحرف اللاتينية، ولكن بخط كوفي هندسي. وهذه مغامرة عظيمة، بدأتْ في تركيا عقب تغيير الأحرف، ولطالما رأيت فيها محاولة موفقة لفهم الهوية، للقبض على ما لا يمكن القبض عليه، في عالم يتغير باستمرار: أليس هذا ما نُحاوله جميعًا، حتى في أحلك الأوقات؟ التهمتُها بشهية، وسرعة. ولكنني لم أقدر على إنهاء الصحن. فوجئتُ. هل هو العمر؟ هل فقدتُ قدرتي على إرضاء الذات، عن طريق الطعام؟ أيام الشباب، كان من السهولة أن أنهي وجبة كهذه. دفعتُ، وخرجتُ مكسور الخاطر.
عدتُ إلى الفندق. درجة الحرارة 35 درجة مئوية. صعدتُ إلى الغرفة. معدتي بدأت تبقبق. أسبوع من الأكل في الخارج، وهي تتذمر.
بعد استراحة الظهيرة، وقراءة فصلين من كتاب أمارتيا صن عن الهوية، ذهبتُ إلى نقطة الحدود. كأنني أمشي لا-إراديًّا. وصلتُ. التقطت بضع صور. كنتُ الوحيد الذي يفعل ذلك. الحديقة ملاصقة لمعبر الحدود. لا يوجد منطق أو معنى لذلك. ولكن الناس يجلسون، ويتحدثون، ويلعبون الورق. وأمامهم، القامشلي: المعادل التاريخي لنصيبين. لا أعلم ما الذي دفعني إلى ذلك. ربما، لسخافة الفكرة: صور قليلة، لذلك البلد، الذي لن أراه قريبًا. بنى الفرنسيون مدينة القامشلي لتستقبل السريان الهاربين من نصيبين، والحسكة للهاربين من ماردين، وتوزع البقية في القرى والبلدات الأخرى. لاحقًا، انضم الأكراد الهاربين من فشل ثورة الشيخ سعيد وما تبعها من الانتفاضات إلى السريان في الجزيرة السورية.
عدتُ أدراجي، مطمئنًا، هادئًا، بين الناس في السوق المزدحم. بازار مغطى صغير. مئات الأعلام التركية ترفرف، فوق المحال الكردية، لتتحدى مشاعرهم وآمالهم. أحاول أن أواسي نفسي. كنتُ شجاعًا، عندما كتبتُ ما أريد كتابته. لم أتبع يومًا الموضة والسائد وما يريده مديرو التحرير والجمهور والنقاد. أميل إلى التنوير المنفتح، ولا أحتمل ما بعد الحداثة ونسبوية ما بعد الاستعمار. لا أميل إلى فالتر بنيامين، أو سيلفيا بلاث، أو المتنبي. شاعري المفضل المعري. وأحب الهايكو، والرسم الصيني لأزهار الخوخ وأغصان البامبو من العصور الوسطى، وواقعية ديغا وتولوز-لوتريك، وبساطة جلال آل أحمد العميقة الصادقة. أليست هذه شجاعة؟ ربما! أخبرني إبراهيم، وهو فتى في العشرين من العمر، يعمل في مقهى «أرتوقي بيه»، بأن الأوضاع المادية سيئة جدًّا. أعمامه في القامشلي، على بعد عشر دقائق، ولم يروهم لأكثر من عقد. ولكنها شجاعة المنعزلين، التائهين، الوحيدين. ليست الشجاعة التي تساعدك على النجاح في هذا العالم، ليست شجاعة الفرسان، والمحاربين، والعسكر، والواثقين بأنفسهم؛ بل شجاعة رامي، يسائل الوابور: «يا وابور قولي، رايح على فين؟». في قلب المدينة، برج ساعة قديم. لا أعرف زمن بنائه. ربما، مع أبراج الساعات التي بنيت في القرن التاسع عشر على امتداد الإمبراطورية العثمانية. على قمته، أربع ساعات في أربعة اتجاهات: كلها متوقفة عن الحركة، وكل منها، يشير إلى وقتٍ مختلفٍ عن الآخر…
مقالات مشابهة