أسعد عبود
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجمعة الماضي ترشّحه رسمياً لولاية رئاسية جديدة، في مسيرة حياته السياسية التي بدأت فعلياً مطلع القرن الجاري.
لم يكن إعلان الترشّح للانتخابات التي ستُجرى في آذار (مارس) المقبل، مفاجئاً. ومن المؤكّد أنّ بوتين كان فقط يتحيّن الظروف الملائمة لمثل هذه الخطوة. ومما لا شك فيه، أنّ الأنباء المطمئنة الواردة من الجبهة الأوكرانية، قد لعبت دوراً رئيسياً في خلق مثل هذه الظروف.
شكّلت الحرب التي تُطلق عليها روسيا “العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا”، أكبر تحدٍ في الحياة السياسية لبوتين. وأوجدت نوعاً من التخبّط على مستوى النخب والشعب، بين من أيّدها ومن تحفّظ على طريقة إدارتها، خصوصاً بعد الهزائم التي مُنيت بها روسيا منذ أيار (مايو) 2022، والتراجعات الكبيرة من ضواحي كييف إلى خاركيف وخيرسون في خريف العام الماضي.
أوجد ذلك حالة استياء في بعض الأوساط الروسية، ووجدت تعبيرها في التمرّد الذي قاده رئيس مجموعة “فاغنر” الأمنية يفغيني بريغوجين، من ثم التسوية التي اضطر الكرملين إلى إبرامها للحؤول دون صدام مسلّح داخل روسيا، وصولاً إلى مقتل الرجل بعد أشهر في تحطّم طائرة خاصة.
تبديل القيادات العسكرية الروسية في أوكرانيا أكثر من مرّة، كان دليلاً على الإرباك الذي أحاط بالهجوم الروسي ككل، وسوء التقديرات لقوة الجيش الأوكراني وللمدى الذي يمكن أن يذهب إليه الغرب في مساندة كييف.
الحرب أدّت إلى قطيعة أوروبية مع روسيا، وأوجدت واقعاً جيوسياسياً جديداً لم يكن جلّه يصبّ في مصلحة روسيا، التي وقف الغرب ضدّها جبهة متراصة بقيادة الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أغدق المساعدات العسكرية والمالية على أوكرانيا، كما لم يحصل ذلك في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
يمكن القول إنّ روسيا عُزلت أوروبياً، سياسياً واقتصادياً. لم يكن التكيّف الروسي سهلاً في مواجهة الغرب الذي أعاد إحياء حلف شمال الأطلسي الذي كان على وشك التفتت بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان في صيف 2021. وثارت موجة عداء لروسيا ولكل ما يمتّ لروسيا وتاريخها بصلة في الدول الغربية، ولم تسلم منه حتى الموسيقى والشعر والأدب.
لقد شيطن المسؤولون والإعلام الغربي بوتين، وصوّروه خطراً وجودياً على أوروبا وعلى العالم.
ومنذ مطلع العام الماضي، بدأت أوكرانيا تستعد لهجوم مضاد آخر، على أمل استعادة كامل أراضيها بما فيها جزيرة القرم. وأرسل الغرب أحدث دباباته وعرباته القتالية من أجل المساعدة في الهجوم، فضلاً عن تدريب عشرات آلاف الجنود الأوكرانيين في قواعد بدول أوروبية استعداداً للهجوم.
في هذه الأثناء، كان بوتين يتكيّف بسرعة مع الظروف الجديدة التي أفضت إليها التراجعات الروسية على الجبهات، فأعلن تعبئة جزئية في البلاد لتعويض الخسائر البشرية الفادحة التي ألمّت بالجيش، وحصل على مسيّرات إيرانية لمشاغلة الدفاعات الجوية الأوكرانية، وبنى خطاً دفاعياً قوياً في زابوريجيا وخيرسون.
وانطلق الهجوم الأوكراني المضاد في حزيران (يونيو) الماضي، لكنه لم يحرز بعد أشهر سوى نتائج متواضعة جداً مع تكلفة بشرية هائلة ترتبت على الجيش الأوكراني. هذا الوضع أوجد توازناً على الجبهات، سمح للجيش الروسي بالانتقال إلى الهجوم مجدداً في كوبيانسك بمنطقة خاركيف وفي أفدييفكا بمنطقة دونيتسك. وأعاد بوتين الكثير من المعنويات للجيش الروسي، الذي استعاد تفوقه العددي والناري.
أُصيب الغرب بإحباط حيال فشل الهجوم الأوكراني، ومع الخلافات السياسية الحادة داخل الولايات المتحدة، بعدما رفض الجمهوريون في مجلس النواب الموافقة على حزمة مساعدة جديدة لأوكرانيا بـ61 مليار دولار.
كما بدت دول الاتحاد الأوروبي عاجزة عن تلبية طلب أوكرانيا من السلاح والمال في المواقيت المحدّدة. وقطعت سلوفاكيا، التي تبدّلت حكومتها، المساعدات العسكرية التي كانت تقدّمها لكييف. وسبق لبولندا أن اتخذت قراراً مماثلاً بسبب خلافات على الواردات الزراعية من أوكرانيا. وأصلاً تقف المجر موقفاً حيادياً.
كل ذلك أدّى إلى شعور بوتين بأنّ الغرب في مأزق، وبأنّ قرار التفاوض مع روسيا قد يصبح حتمياً في المرحلة المقبلة.
وليس أدلّ على الارتياح الروسي من الجولة الخليجية التي قام بها بوتين الأسبوع الماضي لدولة الإمارات العربية المتحدة والسعودية، للمرّة الأولى منذ اندلاع الحرب.