تقوم تركيا، وهي دولة عضو في منظّمة التعاون الإسلامي، بوساطة بين موسكو وكييف لوقف الحرب بينهما وترميم العلاقات المنهارة بين الدولتين المسيحيّتين الأرثوذكسيّتين، اللتين ارتبط انشقاقهما بانشقاق الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن الكنيسة الأمّ في موسكو الذي كان بدايةً لانشقاق أوكرانيا الدولة عن روسيا. من هنا لا بدّ من العودة إلى الجذور الدينية للخلاف.
عام 988 اعتنق الأمير الروسي فلاديمير المسيحية الأرثوذكسية. وكما كان سائداً في ذلك الوقت، كان على جميع رعيّته أن يحذوا حذوه. وهكذا تحوّل المسيحيون في روسيا وأوكرانيا إلى الأرثوذكسية وجرى تعميدهم جميعاً في نهر “الدنيبر” القريب (بدلاً من نهر الأردن البعيد جدّاً). وهكذا اعتُمدت كييف “القدس الثانية”، وقامت على قاعدة هذا الاعتقاد الدولة الأرثوذكسية الكبرى، وعلى رأس كنيستها اليوم البطريرك كيريل الأوّل.
عام 2009 قام كيريل بزيارة رعويّة لأوكرانيا. لم تكن أوضاعها الداخلية جيّدة. كانت هناك انقسامات وصراعات سياسية. وكان هناك تقاتل داخليّ. ولكنّ الكنيسة بقيت واحدة وموحّدة، على الأقلّ حتّى ذلك التاريخ. فقد جرى تكريم البطريرك الروسي (أبي الكنيسة الأرثوذكسية) وعُرضت عليه الجنسيّة الأوكرانية تكريماً واحتراماً.
يومها ردّد العبارة الشهيرة: “نحن أمّة واحدة في دولتين، تجمعنا الأرثوذكسية ويوحّدنا الولاء للقدّيس فلاديمير أبي الكنيسة”. طبعاً لم يكن يقصد الرئيس فلاديمير بوتين، الذي تربّى في حضن الشيوعية، وبعد سقوطها أعاد للكنيسة الروسيّة الأرثوذكسية دورها الوطني الذي تمارسه اليوم. وكان من تجلّيات هذا الدور زيارة البطريرك كيريل (كيرولوس) لأوكرانيا. كان على رأس الدولة الروسيّة حينها الرئيس ديمتري مدفيديف (صنيعة بوتين).
تقوم تركيا، وهي دولة عضو في منظّمة التعاون الإسلامي، بوساطة بين موسكو وكييف لوقف الحرب بينهما وترميم العلاقات المنهارة بين الدولتين المسيحيّتين الأرثوذكسيّتين
المشاعر القوميّة أقوى من اللّغة
كانت اللغة الروسيّة هي لغة الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية (والروسيّة طبعاً)، إلّا أنّ المشاعر القومية كانت في مكان آخر. يذكر الأوكرانيون مثلاً بألم شديد قصص المجاعة الكبرى التي حلّت بهم في عهد الرئيس السوفيتي الأسبق جوزف ستالين. ولكنّ البطريرك الروسي فلاديمير ذكّرهم بأنّ المجاعة أصابت روسيا أيضاً.
يذكر الأوكرانيون أيضاً كيف أنّ روسيا انتزعت بالقوّة العسكرية شبه جزيرة القرم، إلّا أنّ البطريرك كيرولوس حرص على تذكيرهم بأنّ القرم كانت روسيّة حتّى عام 1954 عندما منحها الرئيس نيكيتا خروتشوف لأوكرانيا، التي كانت في ذلك الوقت جزءاً من الاتّحاد السوفيتي، وذلك لفترة زمنية تنتهي في عام 2017.
لكن عندما قامت حركة الانفصال الأوكرانية عن روسيا وجد الأسطول الروسي في البحر الأسود نفسه بقواعده وبكلّ معدّاته، في ميناء دولة أخرى… ولذلك كان لا بدّ لروسيا من استرجاع القرم.
مع ذلك لم ينجح البطريرك في استخدام البُعد الديني الأرثوذكسي لإعادة أوكرانيا إلى بيت الطاعة الروسيّ. كانت دول حلف شمال الأطلسي تدرك جيّداً أنّ أوكرانيا يمكن أن تشكّل مدخلاً لضرب الكرملين من الداخل، وبالتالي لإضعاف موسكو والتخلّص من خطر التهديد الروسي المتصاعد.
من أجل ذلك حرّضت دول الحلف الدولة الأوكرانية، وبالتالي الكنيسة الأوكرانية، على الانفصال عن الكنيسة الروسية. وحصل الانفصال بالفعل. ولكنّه ظلّ فاقداً الشرعية إلى أن تمكّنت الدول الأوروبية ومعها الولايات المتّحدة من إقناع البطريرك الأرثوذكسي باثالوميو من منح الشرعية للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية على أساس أنّها كنيسة حرّة ومستقلّة عن الكنيسة الروسيّة.
يتمتّع البطريرك باثالوميو بهذه الصلاحيّة لاعتباره البطريرك المتقدّم على سائر بطاركة الأرثوذكس في العالم لأنّه يمثّل إسطنبول التي كانت عاصمة الإمبراطوريّة البيزنطية الأرثوذكسية. وقد مُنح جرّاء ذلك لقب “الأوّل بين متساويَين”. أي البطريرك الأوّل بين البطاركة الأرثوذكس في الشرق والغرب. وهو مستمرّ في هذا الموقع وبهذه الصلاحيّات المتقدّمة على الآخرين من البطاركة.
كان انشقاق الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية بداية لانشقاق أوكرانيا الدولة عن روسيا
انشقاق الكنيسة أوّلاً
من أجل ذلك يعتبر انشقاق الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الأمّ في موسكو بداية لحركة انشقاق أشمل وأخطر… وهو الخروج من حضن المواطنة الواحدة مع روسيا إلى عضويّة حلف شمال الأطلسي.
تشاء الصدف (؟) أن يحدث ذلك وعلى رأس الدولة الأوكرانية رئيس (فولوديمير زيلينسكي) لا يدين بالأرثوذكسية ولا بالمسيحية بصورة أعمّ. فهو أوكرانيّ يهوديّ كان يعمل ممثّلاً فكاهيّاً. مكّنته شعبيّته بفضل نجاحه في التمثيل من الفوز بالانتخابات الرئاسية متقدّماً على بقيّة المرشّحين التقليديين من الذين ملّ الشعب الأوكراني فسادهم الذي اتُّهموا به. كانت أوكرانيا تُصنّف على أنّها من أكثر دول العالم فساداً لأنّها تقع على طريق التهريب بين الشرق والغرب.
إقرأ أيضاً: مأساة مسلمي الهند: هندوسي مجرم حرب رئيساً للدولة..
كان انشقاق الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية بداية لانشقاق أوكرانيا الدولة عن روسيا. وهو الانشقاق السياسي – الديني الذي احتضنته الدول الأوروبية من بولندا الكاثوليكية المجاورة، إلى بريطانيا الأنغليكانية، حتّى الدول الإسكندينافية الإنجيليّة. وفي مقدَّم هؤلاء جميعاً الولايات المتّحدة.
حاول البابا الراحل فرنسيس احتواء الانقسام الكنسيّ الأرثوذكسي لاحتواء تداعياته السياسية الخطيرة. وقرّر أن يقوم بزيارة موسكو للاجتماع إلى البطريرك الروسيّ كيريل، أو كيرولوس، لكن عندما عُرضت عليه صور للبطريرك وهو يبارك الجنود الروس المتوجّهين إلى الجبهة الأوكرانية، ويبارك أسلحتهم ومعدّاتهم القتالية، قرّر صرف النظر عن الزيارة، وقضى مهموماً لأنّه لم يستطع أن يفعل شيئاً لوقف الحرب الأوكرانية.