لعلّ أهم ما جاء في خطاب الشرع ـ كرئيس عربي ـ سواء في خطابه عقب رفع العقوبات أو في خطاب النصر في حلب أنه جاء فصيحاً ومختصراً وواضحاً.
في سابقة تُحسب له، ويُشكر عليها في عالم عربي اعتاد مواطنوه الخطاباتِ الإنشائيةَ المُطْنَبة والممتلئة بالوعود الفارغة أو التهديدات المبطّنة.
لم يتحدث عن انتصارات ولا عن مؤامرات، بل قدّم ما يمكن تسميته بأول “كشف حساب” حقيقي لرئيس سوري ـ ونقصد هنا طبعاً رئيس سوري عرفناه! ـ. اعترفَ، وشكرَ وقدّمَ وعوداً واضحة، وإن لم تكن قابلةً للقياس بعد.
ليس من الواضح بعد ما هو الثمن الذي قدّمه، ولكن حتى اللحظة لا يبدو أنه قدّم سوى أوراق اعتماده في شرعيته وقدرته على إدارة البلد وضبطها، مع ضمانات بعدم تصدير الثورة.
توجه الرئيس الشرع بخطاب إلى الشعب السوري بمناسبة رفع العقوبات الأميركية، وهو حدث لا يقلّ أهمية عن التحرير نفسه. فبعد إسقاط نظام الأسد، تمّ إسقاط الهوية الاقتصادية التي طبعت سوريا خلال الخمسين عاماً المنصرمة: دولة ممانعة، مصادِمة للمنظومة الدولية وخارجة عن القانون، وأعادتها إلى مصافِّ الدول الطبيعية. لم يكن هذا الحدث وليد المصادفة، بل من خلال رؤية الحكومة الجديدة، وعملها الدبلوماسي المكثف خلال الأشهر الستة الماضية.
شرح الرئيس الشرع رؤيته وما تحقّق منها على الصعيدين الداخلي والخارجي. ورغم الضجة التي أثيرت عن إهماله الوضع الداخلي، فإنَّ ما تمّ إنجازه، بإحصاء مُنصف، خلال الأشهر الستة الماضية يستحقّ التقدير.
عدّدَ الشرع ما تمّ إنجازه خلال ستة أشهر: منع الانزلاق إلى حرب أهلية، أولوية الأمن ووحدة الأراضي السورية، إنهاء الحالة الفصائلية والشروع في جمع السلاح. هذه الخطة تسير بخطى كبيرة نحو الأمام. ولنقدّر مدى قيمتها، من الممكن أن نقارن بدول أخرى، حيث تعثر بعضها وفشلت أخرى في الحفاظ على وحدة الأراضي، ناهيك عن جمع السلاح وإنهاء الفوضى والاحتراب.
في أهمية وسرعة التوجه للخارج منذ لحظة سقوط نظام الأسد، فقد أثبت الواقع صواب رؤيته. فلولا اطمئنان الخارج ودعمه، لكانت سوريا متوجهة نحو التقسيم لا محالة. ولكانت العربدة الإسرائيلية قد تمادت بلا ضابط إلى حد التحالف مع الأقليات، أو لنتوخى الحذر والدقة: مع من يَقبل منهم.
ليس من الواضح بعد ما هو الثمن الذي قدّمه، ولكن حتى اللحظة لا يبدو أنه قدّم سوى أوراق اعتماده في شرعيته وقدرته على إدارة البلد وضبطها، مع ضمانات بعدم تصدير الثورة.
فحتى الانخراط في المعسكر الغربي، قابله باتفاقيات صينية ضخمة، ومحادثات متأنّية مع الجانب الروسي. وقد أقرّت عدد من الصحف العالمية بأن أميركا والأوروبيين قد أصبحوا على قناعة بأن الأفضل عدم إرهاق الحكومة السورية بجميع الملفات دفعة واحدة. وهذا يعفي الشرع من البتّ المتسرّع في كثير من الملفات، مما يعطيه وقتاً لاجتراح الحلول وإبرام اتفاقيات متوازنة مع الأطراف الإقليمية من دون الاضطرار إلى الانضواء تحت واحد منها.
وأكثر ما ميّز الخطاب أن الشرع لم يحتكر النجاحات لنفسه، بل سعى للمشاركة وتقديم نفسه على أنه جزء من هذا العمل، وليس القائد الملهم الذي صنع المعجزات. فالشعب السوري بتضحياته والجاليات السورية التي عملت على تسهيل التواصل وتذليل العقبات القانونية، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية كان لها الأثر الأكبر، وليس الزعيم القائد بفرادته الإلهية!
لم يقدّم الشرع برامجَ قابلة للقياس كما في الدول المتقدمة، ولكنه قدّم وعداً واضحاً بيّناً لا لبسَ فيه، أن تكون سوريا بلداً مسالماً، لا تنخرط في صراعات مع أي من دول الجوار. فالأولوية لبناء الأرض والإنسان.
لقد مثّل الخطاب قطيعة واضحة مع الجهادية شكلاً ـ من خلال استخدام اللغة الدبلوماسية المعمول بها عالمياً ـ ومضموناً من خلال التوجه للسوريين بأن مرحلة جديدة قد بدأت، تتطلب عملاً وغاية واضحة هي النهضة الاقتصادية وبناء الدولة، وبعيداً عن الخطاب العسكري أو الديني المتشدد، واستخدم لغة مدنية تعكس رغبة حقيقية في النهضة والتغيير.
لم نعتد في العالم العربي أن نسمع من رؤسائنا خطاباً مدّته سبع دقائق فقط، وبلا تصفيق متواصل. يشتمل على اعتراف صريح بصعوبة الوضع ومواطن الضعف في الدولة. فعادةً ما تتجنب الأنظمة الحديث عن الرؤية الواقعية أو أخطائها أو فشلها في حلّ الأزمات.
لكن الرئيس الشرع خالف هذا التقليد، مقدّماً خطاباً فصيحاً صادقاً مختصراً، يعكس درجة كبيرة من الشفافية. لم يكن هناك تبرير أو إلقاء اللوم على الآخرين، بل إقرار واضح أنّ المسؤولية الآن ملقاة على عاتقه وفريقه في ترجمة قرار رفع العقوبات إلى حقيقة على الأرض من خلال سنّ التشريعات المناسبة، وتهيئة البيئة العملية والقانونية لاستقطاب الاستثمارات الدولية والخاصة.
كما كان لافتاً عدم ذكره لأعداء الوطن، وتحقيره للمخالفين أو وصفهم بالمندسين، أو الإطناب في تفسير نظرية المؤامرة ضدّ السوريين، على عادة حكامنا. بل توجّه إلى كل السوريين، وتعهّد أن يكون الجميع سواء. هناك خط أحمر واضح وهو وحدة الأراضي السورية، أي عدم الدعوة للانفصال، ما سوى ذلك، سنرى إلى أي مدى سيتحمّل الشرع مخالفيه!
لم يقدّم الشرع برامجَ قابلة للقياس كما في الدول المتقدمة، ولكنه قدّم وعداً واضحاً بيّناً لا لبسَ فيه، أن تكون سوريا بلداً مسالماً، لا تنخرط في صراعات مع أي من دول الجوار. فالأولوية لبناء الأرض والإنسان.