قبل قرابة مئة يوم من إجراء الانتخابات المحلية في تركيا، تشبه الأجواء السياسية في البلاد ما كانت عليه قبيل الانتخابات التشريعية والرئاسية أواسط هذا العام؛ فالقوى السياسية مُستقطبة إلى تيارين متمايزين تماما؛ حزب العدالة والتنمية الحاكم المتحالف مع حزب الحركة القومية المتطرف، يناظرهما تجمع أحزاب المعارضة الستة، على رأسها حزب الشعب الجمهوري “الأتاتوركي”. وبين الطرفين ثمة حزب “المساواة والديمقراطية للشعوب” المؤيد للأكراد في تركيا، الذي لم يحسم موقفه حتى الآن.
في آخر انتخابات محلية جرت في البلاد، عام 2019، كان الحزب الكردي سببا في هزيمة استثنائية للرئيس أردوغان وحزبه في معاقله التقليدية، مما أفقده رئاسة البلديات الكبرى في البلاد، في مدن إسطنبول وأنقرة وأزمير. حدث ذلك، لأن الحزب الكردي دفع الملايين من أنصاره في تلك المدن للتصويت لصالح المعارضة، التي مثلها حزب الشعب الجمهوري.
نتائج الانتخابات وقتئذ، أحدثت شرخا سياسيا و”عداء” بين أردوغان والحزب الكردي، دفعه لاتباع سياسات مناهضة للحزب داخليا وخارجيا، رافعا يده عن كل البلديات التي فاز برئاستها في المناطق ذات الأغلبية الكردية، عبر إجراءات مركزية انتقامية، ومن بعدها اعتقل عشرات الآلاف من مناصريه وقادته، وخاض مواجهة سياسية وآيديولوجية عارمة ضده.
صحيح، لم يستسلم حزب “المساواة والديمقراطية للشعوب” للحملة الشعواء ضده، وبقي مصرا على موقفه المعارض لسياسات أردوغان، حتى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت العام الحالي، متطلعا لهزيمة مماثلة لما حدث أثناء الانتخابات المحلية. لكن ذلك لم يكن دون ثمنٍ باهظ.
جرت رياح الانتخابات البرلمانية والرئاسية بغير ما كانت تشتهي قيادة الحزب الكردي، وأثبت أردوغان حضورا شعبيا لافتا، فزاد من مناهضته السياسية والإدارية والأمنية للحزب الكردي ومؤيديه، متهما إياه بالولاء للخارج وتخريب السلام الوطني ومحاولة تقسيم البلاد، حتى وصلت الأمور بينهما إلى القطيعة النهائية؛ فرد عليه الحزب الكردي بمزيد من التمركز حول المعارضة، والمناهضة السياسية التي ترى في أردوغان سببا لكل المآزق السياسية والأمنية والاقتصادية في تركيا.
لا يبدو مسار الأحداث العامة، ولا الوضع الخاص بكلا الطرفين، قابلين للاستمرار بهذا الشكل. فأصوات شعبية كردية وازنة، بما في ذلك المثقفون ورجال الأعمال وقادة المجتمع الكردي، ترى في قرارات الحزب الكردي “المعادية لأردوغان”، الممتدة منذ عام 2015، خيارا راديكاليا، لا يعي طبيعة التوازن السياسي الداخلي في تركيا، وقوة أردوغان المتنامية رغم كل شيء، والقدرات الكردية البسيطة قبالة ذلك؛ فتأثيرات ضغوط السلطة على المناطق الكردية، وتراجع أردوغان عن مسيرة السلام مع حزب العمال الكردستاني، وحملات التضييق على الثقافة والمجتمع الكرديين، هشمت البنيان المجتمعي والاقتصادي في المناطق الكردية، وسمحت للطبقات الكردية المقربة من أردوغان بالصعود والهيمنة، على الرغم من كونها أقلية ضمن الفضاء الكردي.
أردوغان بدوره يعرف راهنا أهمية هذه الانتخابات المحلية، تحديدا في مدن البلاد الثلاث المركزية، إسطنبول وأنقرة وأزمير، واستحالة استعادتها دون الأصوات الكردية. فمناطق الأناضول الأوسط مؤمنة انتخابيا له، مناظرة لمدن وولايات السواحل الموالية للمعارضة، لذا فإن الصراع السياسي الحقيقي موجود في المُدن الكبرى الثلاث، حيث الصوت الكردي هو الحاسم في الأمر.
حسب الأوساط الإعلامية والسياسية المقربة من أردوغان، فإنه يعتبرها “معركة حاسمة”، قبل التفرغ لـ”مشروعه التاريخي” المتمثل في صياغة دستور جديد للبلاد، يكون على قياسه وحسب خياراته الآيديولوجية والسياسية للمرحلة القادمة، التي يريدها أن تكون مصبوغة بشخصه وتياره السياسي، الآيديولوجي على الأقل، والعائلي على الأكثر.
أردوغان يريد من الحزب الكردي قطيعة علنية واضحة مع قوى المعارضة، دون أي مسعى للعب على تناقضات القوى السياسية التركية، أو انتظار ما ستقدمه المعارضة خلال الأسابيع القادمة
لأجل تلاقي المسألتين، فإن تقدم كل منهما خطوة تجاه الآخر يبدو راهنا أكثر التحولات السياسية منطقية في الحياة العامة التركية. لا يملك الحزب الكردي طيفا واسعا من الطلبات، لكنه على الأقل يود تعهدا واضحا من أردوغان بعدم رفع يد الحزب الكردي عن البلديات والمجالس التي سيفوز بها في الانتخابات، بإجراءات مركزية وكيدية، ومعها إطلاق سراح أعضاء الحزب المعتقلين لأسباب سياسية، وتخفيف الضغوط الأمنية فحسب.
قبالة ذلك، فإن أردوغان يريد من الحزب الكردي قطيعة علنية واضحة مع قوى المعارضة، دون أي مسعى للعب على تناقضات القوى السياسية التركية، أو انتظار ما ستقدمه المعارضة خلال الأسابيع القادمة. فوق ذلك، فإنه يعتقد أن الحزب الكردي في موقع ضعف، وتاليا عليه أن يتفهم التحالف الذي بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية التركية المتطرفة، وتاليا أن لا يعرض الحزب الكردي أية دعوة أو خطاب سياسي ذي نزعة قومية كردية غير مقبولة بالنسبة للقوميين الأتراك.
المؤشرات الأولية تدل على وجود تواصل بينهما على مستوى قيادات الدرجة الثانية، وأن النقاشات تتناول الخطوات الأولية التي من المفترض أن يتخذها الطرفان قبل الدخول إلى المفاوضات المباشرة. لكن المؤثرين الخارجيين على كلا الطرفين، قد يقطعون الطريق عليهما في أية لحظة، كما حدث في مرات كثيرة خلال الأعوام الثمانية الماضية، الأكثر مرارة على الإطلاق.