بعد أيّام على المواجهة بين إيران وإسرائيل، تبدو الأمور معقّدة ومفتوحة على احتمالات متعدّدة. النقاش في عدد من الصحف الإسرائيلية يراوح بين الدعوة إلى عدم الانجرار إلى تصعيد غير مخطّط له، وبين انتظار ما سيقدم عليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بعدما قام رئيس الحكومة الإسرائيلي بعمله في استهداف البرنامج النووي الإسرائيلي.
تركّز صحف أخرى على أنّ الهدف الأساسي من هذه المواجهة إزالة التهديد النووي لا الإطاحة بالنظام. يجزم ترامب عدم إمكان فوز طهران في هذه الحرب، ويدعو الإيرانيين إلى عقد الصفقة، ونتنياهو من جهته يقول إنّ إسرائيل في الطريق إلى إزالة التهديدين النوويّ والصاروخي. في حين صرّح رفائيل غروسي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرّية في مجلس الأمن أنّ موقع فوردو الأساسيّ لم يتضرّر وأنّ موقع نطنز النوويّ دمّرت فيه فقط الطوابق العلويّة وضربت محطّات الكهرباء. وعليه من الممكن اختصار المشهد الحالي في المواجهة الإسرائيلية -الإيرانية في المعادلة التالية: إسرائيل تستبيح أجواء إيران بشكل غير مسبوق، لكنّها غير قادرة على تفكيك البرنامج النووي الإيراني وبرنامج الصواريخ البالستية بمفردها، وتنتظر ترامب أن يقرّر الانخراط في المواجهة، وإيران عاجزة حتّى الآن عن تغيير قواعد الاشتباك أو استعادة جزء من قوّة الردع التي هدّدت بها لسنوات، لكن يمكن أن تجرّ إسرائيل إلى حرب استنزاف تؤدّي إلى تآكل الإنجازات التي حقّقتها.
بعد أيّام على المواجهة بين إيران وإسرائيل، تبدو الأمور معقّدة ومفتوحة على احتمالات متعدّدة
كيف يمكن الخروج من هذه المواجهة بعد إصرار كلّ من ترامب ونتنياهو على شرط عودة الإيرانيين إلى المفاوضات مع قرار موافقتهم على تفكيك البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي؟ من الصعب التكهّن حاليّاً بإمكان أن يقبل خامنئي بهذه الشروط، فهل تملك إسرائيل استراتيجية للخروج أم تنتظر دخول ترامب المواجهة لتدمير موقع فوردو وجلب الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات بشروطه؟
إيران فقدت السّيطرة السّياديّة
القناة العبرية 12 المعروفة بعدائها لنتنياهو وسياساته تقف حاليّاً على يمينه في المواجهة مع إيران. إذ نشرت مقالاً ليسرائيل زيف بعنوان: “نتنياهو قام بخطوة جريئة، والآن ينتظر ترامب”. اعتبر الكاتب في المقال أنّ “الهجوم على البرنامج النووي الإيراني فيه مصلحة وطنية كبرى، والتوقيت كان مناسباً على الرغم من وجود اعتبارات سياسية فيه” لأنّ إيران كانت على عتبة إنتاج قنبلة نووية بسبب شعورها بالخطر بعد فقدان محور المقاومة قدرته على الدفاع عنها. أضاف أنّ عنصر المفاجأة الذي نجحت فيه إسرائيل قد حسم نتيجة الهجوم بدرجة كبيرة، وأنّ الإنجاز الذي تحقّق لا ينحصر فقط بتصفية القيادة العسكرية في صفوف الجيش والحرس الثوري واغتيال 13 من علماء الذرّة، بل يشمل أيضاً “سلب قيادة إيران السيطرة السيادية العليا على أراضي الدولة فعليّاً. إنّها ضربة حاسمة للقيادة لا تنطوي فقط على إذلال بالغ، بل جعلت حياة القادة الإيرانيين مشروطة، وأصبح أداؤهم وحياتهم مرهونَين بظلّ ثقيل تتحكّم فيه إسرائيل، وهو أمر لم تتخيّله القيادة الإيرانية حتّى في أسوأ كوابيسها، لكنّه حدث. على غرار “الحزب” والتنظيمات التي أنشأتها، أصبحت القيادة الأمّ نفسها مطارَدة داخل بلدها”.
إسرائيل واستراتيجية الخروج
لم يرَ الكاتب أنّ الإنجازات التي تحقّقت تشكّل مخرجاً لإسرائيل من المواجهة ويمكن الركون إليها. إذ اعتبر أنّ قدرة إسرائيل على الصمود محدودة، وإيران ليست منظّمة “إرهابية”، بل دولة كبيرة. ورأى أيضاً أنّ على إسرائيل أن تقرّر الهدف من هذا “النجاح”، والاستراتيجية المثلى للخروج. وأشار إلى أنّ مفتاح مواصلة المعركة في إيران هو الولايات المتّحدة، وأنّ الإنجازات التي تحقّقت تبقى محدودة زمنيّاً، وأنّه في حال لم يتمّ التوصّل إلى اتّفاق مع إيران فإنّ هذه الأخيرة “ستضاعف جهودها، وستصل إلى امتلاك سلاح نووي في وقت أقرب ممّا توقّعه الجميع”.
ختم الكاتب بالقول إنّ “هناك سبيلاً واحداً فقط لضمان الحفاظ على هذا الإنجاز: التوصّل إلى تنسيق مُحكم مع الولايات المتّحدة… وأن يكون هناك تناغُم كامل مع القيادة الأميركية من أجل التوصّل إلى اتّفاق. لا تملك إسرائيل أيّ استراتيجية خروج إلّا عبر الولايات المتّحدة، وإذا رفضت إيران، فإنّ الولايات المتّحدة ستدعم إسرائيل للمضيّ قدماً نحو توجيه ضربات محسوبة إضافية إلى البنية التحتية، حتّى إنّها قد تنضمّ إلى الهجمات، وبصورة خاصّة من أجل تدمير منشأة “فوردو”، التي تُعتبر مركز المشروع النووي، وربّما تكون الموقع الذي يُخزَّن فيه اليورانيوم المخصّب. والآن، تكمن الحكمة الأميركية في توجيه الاتّفاق بطريقة تعظِّم نتائج الهجوم الإسرائيلي، بل قد تفضي إلى اتّفاق أفضل ممّا طُرح سابقاً”.
صار واضحاً أنّ المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران هي عمليّة مركّبة على مسارين: الأوّل عسكري يقوده رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والثاني سياسي ودبلوماسي
ماذا عن نهاية الطّريق؟
على الرغم من الإنجازات التي لم يكن أحد في إسرائيل يتخيّل حصولها بهذه السرعة وهذا الحجم، يوجد اعتراف واضح بأنّ الجيش الإسرائيلي غير قادر بمفرده على تدمير البرنامج النووي الإيراني، وهناك أيضاً شبه إجماع على أهمّية إعطاء الأولوية لهذا الهدف. وفي هذا الإطار، تساءل الكاتب إيهود ياعري عن نهاية الطريق في مقالته على القناة 12 بعنوان “لنتذكّر الهدف الحقيقي الآن: تدمير النوويّ لا النظام”. وكتب: “من الضروريّ التركيز على تعطيل البرنامج النووي إلى أقصى حدّ، وعزل وقطع السلسلة التي يمكن أن تسمح بتصنيع قنبلة نووية، وعلينا الامتناع عن إرسال سلاح الجوّ للبحث عن مخبأ خامنئي إلّا إذا كانت أمامنا فرصة، ويجب أن لا نظهر، بأيّ شكل من الأشكال، كأنّنا نريد منع تصدير النفط الإيراني، أو وقف التصدير إلى الصين، لأنّ إيران هي المزوّد المركزيّ لها”.
أضاف: “بغضّ النظر عن الرغبة الكبيرة في تغيير النظام في طهران، يتطلّب ذلك تخصيص قوّات وجهوداً على حساب الهدف المركزي، وكلّ مَن يفكّر بشكل سليم يعرف أنّه لا يمكن “إبادة” الخطّة النووية برمّتها. في الإمكان إلحاق الضرر بجميع مركّباتها، وتعميق الضربة في نطنز واستهداف قاعات أجهزة الطرد المركزي في الطبقات السفليّة، ويمكن أن نعالج قضيّة مخازن اليورانيوم المخصّب لدرجة 60% في أصفهان.
إقرأ أيضاً: مؤتمر حلّ الدّولتين: تأجيلٌ لا إلغاء
اعترف الكاتب أنّ الحلّ الأفضل هو أن تحلّق طائرات الـ B52 الأميركية من جزيرة دييغو غارسيا لضرب المفاعل في فوردو، لكن رأى أنّ من دونها يمكن أيضاً إلحاق أضرار جدّية، وجلب الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات، وهم أضعف وأكثر انفتاحاً على مطالب مندوبي الرئيس ترامب. وأضاف: “آخر ما يريده خامنئي هو استفزاز ترامب ومشاركته في ضرب إيران… ولذلك يسود حذر كبير في طهران، على الرغم من إرث الإيرانيين الكبير في إطلاق الكلام المستفزّ للأميركيين، لكنّهم لا يشدّون الحبل أكثر ممّا يجب”. وبرأيه تبدو “إيران مضروبة، والنظام “فقد احترام مجتمعه”، وهناك منظومة جديدة كاملة من القيادة العسكرية في الحرس الثوري، وأيضاً في الجيش النظامي، وهي أمور تخلق وضعاً أكثر راحةً بالنسبة إلى المفاوضين الأميركيين”.
نتنياهو عاجز عن تحقيق أهداف الحرب بدون تدخّل ترامب، لكن تبقى أسئلة: ماذا لو رفض خامنئي العودة إلى طاولة المفاوضات، فهل يتدخّل ترامب عسكريّاً لحسم الموقف؟ وماذا لو أشعل المنطقة على قاعدة “عليّ وعلى أعدائي يا ربّ”؟ هل يعطي ترامب لنتنياهو الضوء الأخضر لاغتياله؟ ويبقى أيضاً مشروعاً أن نتساءل: ماذا ستكون عليه صورة المشهد السياسي في المنطقة، إذا تجرّع خامنئي السمّ وأقرّ بهزيمته وعقدَ الصفقة مع الولايات المتّحدة الأميركية وإسرائيل؟ إنّ غداً لناظره قريب.