يمكن اعتبار تكنولوجيا الصواريخ، سواء التي تُصنع بإمكانيات كبيرة، وتتسم بقدرات عالية؛ أو التي تُنتج في ورشات بدائية، رغم ضعف الموارد والإمكانيات، شاغلاً كبيراً للمخيّلة السياسية في منطقتنا، بل بات من الممكن اعتبارها أحد أهم الترميزات الثقافية، التي تكثّف كثيراً من مآلات الصراعات الاجتماعية، وتجارب التحديث المحليّة. وبعيداً عن المقولات المتسمة ببعض السطحية، ويظن مرددوها أنها نوع من «التحليل النفسي»، والتي تعتبر الصاروخ فيتشاً، يعبّر عن الانتصاب والقوة والقدرة على الاختراق والوصول، فإن المسألة لا تتعلّق غالباً بشكل السلاح أو نوعيته، وإنما بقابلتيه الكبيرة على التجريد، فتكنولوجيا الصواريخ بحد ذاتها، تشير إلى قدرة علمية واجتماعية وعقائدية، على الإنجاز، وتجاوز فارق القوة مع العدو، الذي يقدّم بوصفه فارقاً «تاريخياً»، بمعنى أنه نتيجة تاريخ غير عادل، مَركَزَ القوة والنفوذ لدى مَنْ لا يستحق، ولا يتمتع بأي أفضلية حضارية أو أخلاقية أو دينية، ولكنه فقط امتلك التكنولوجيا المتفوقة، المنفصلة عن القيمة، التي عرّضتنا لسلسلة هزائم لا تنتهي.
الصاروخ الذي ننتجه ليس عابراً للحدود والتحصينات فقط، بل عابرٌ للتاريخ نفسه، فهو يؤكد من جهة على تجاوزنا للهوّة مع العدو، في وقت وجيز، وبإمكانيات بسيطة، وتحت الحصار؛ ومن جهة أخرى على قدرة مجتمعاتنا على ذلك، دون التخلّي عن خصوصيتها وعقائدها ورغبتها في المقاومة، ومن غير التحاقها ثقافياً واجتماعياً بالآخر من موقع التابع. إنه انتصارٌ لتاريخنا الخاص، وتصحيحٌ لمسيرة التاريخ العالمي، الذي أوصلنا إلى وضعنا الحالي، ولذلك فإن رموزاً أخرى، ليست «منتصبة» جداً، مثل الطائرات المسيّرة، أخذت مكانها إلى جانب الصواريخ، في المخيّلة السياسية ذاتها.
لا يقتصر هذا النوع من الترميز والتجريد على منطقتنا، بل ربما كان تأسيسياً في كل ما يمكن تسميته «تجارب التحديث تحت صدمة الهزيمة»، على اختلافها، من ألمانيا واليابان في القرنين الماضيين، وصولاً إلى الصين وكوريا الشمالية، وهي تجارب استطاعت تحقيق كثير من التطور التكنولوجي، الصناعي والحربي، بل إن بعضها تفوّق على الدول الغربية الأقدم في التصنيع والتحديث. وأنتج الكثير من الصواريخ، في فترات زمنية قصيرة، وتحت ضغط هائل، بعد تحويل مجتمعاته إلى آلة حرب، شديدة التنظيم، كل ما فيها من موارد، بشرية وطبيعية، مكرّس للوصول إلى التجريد المثالي: الصاروخ وأشباهه. تحدّث بعض مؤرخي الأفكار كذلك عن البرج الشاهق، إلى جانب الصاروخ، بوصفه رمزاً للواحدية، ففي مدن غير فاسدة مثل مدن «الغرب»، أي لا يوجد فيها الانحلال الاجتماعي والأخلاقي، الذي يُربط عادة بالرأسمالية والفردانية والتعددية، يرتفع الصاروخ والبرج وكأنهما شاهد ميثولوجي على عالم متسق القيم والفئات والأهداف، واحدٌ في كل ما فيه، ولكنه شديد التطوّر والقوة، إذ لا تحتاج الأمم الأصيلة والعضوية إلى فساد «الغرب» كي تحقق ذلك. لا يشير كل هذا إلى تجاوز «الغرب» فعلاً، بقدر ما هو هوس شديد به وبتجربته، بأقسى عناصرها: التصنيع الشامل مهما كانت أثمانه باهظة؛ التجريد الأيديولوجي والبيروقراطي؛ العقل الأداتي في التعامل مع المجتمع والطبيعة، ولكن دون العناصر «التحررية»، التي اعُتبرت غير ضرورية، وأساساً للفساد، بل أحياناً مؤامرة للهيمنة الثقافية، ولتفتيت المجتمعات العضوية المهزومة. إنها محاولة لإعادة سيرة التحديث الغربي بشكل مُخطط ومجرّد، ولكن بعد تخليصه مما هو «سيئ» فيه، تقاسمتها كثير من الأيديولوجيات، على اختلاف حال المجتمعات وبناها، من النازية والفاشية، وحتى الإسلام السياسي. لحسن الحظ، تخلّت ألمانيا واليابان عن هذا النوع من الأيديولوجيات بعد الحرب العالمية الثانية؛ فيما سلكت دول مثل الصين وفيتنام طريقها الخاص، شديد التعقيد؛ ودفع عراق صدام حسين وإيران، والميليشيات التي دارت في فلك الأخيرة، أثماناً باهظة؛ أما سوريا حافظ الأسد فقد ظلّ أفقها بعيداً عن عقلية أو رغبة التصنيع الاجتماعي الشامل، رغم أنها امتلكت في فترة ما عدداً لا بأس به من الصواريخ المستوردة. ولكن لماذا يفشل هذا النوع من الصواريخ، رغم تطورها الشديد أحياناً، لدرجة كونها «فرط صوتية»، أو «بالستية»، أو حتى «عابرة للقارات»؟ ألا يوجد طريق آخر لتجاوز «الهيمنة» أو «الإمبريالية»، أو أي عدو آخر، سوى بالصواريخ؟
ميثولوجيا تكنولوجية
لا يشترط أن تُعبّر التكنولوجيا الفائقة للصواريخ عن تحسّن في مستوى حياة البشر في البلدان المنتجة لها، فقد يكونون فقراء ومضطهدين، بل ربما يكونون جائعين وضحايا مجاز جماعية، ولكنَّ الفخر الأساسي لدولهم، أو قواهم المتغلّبة، هو إنتاج الصواريخ. وبعكس ما قد يكون دارجاً من أفكار، فإن التكنولوجيا ليست محايدة أيديولوجياً على الإطلاق، فهي تعبّر عن منظور للعالم والمصلحة والذات، كما تمتلك منطقها الخاص. في حالة «الأيديولوجيات الصاروخية» إن صح التعبير، فإننا أمام عالم ميثولوجي متكامل، مكوّن من سلسلة معقدة من الرموز الدينية، أو القومية، ومُمَثلة بنمط معين من التكنولوجيا، يجب على المجتمعات التماهي معه وخدمته، ولكن بعد انتزاع الرموز من سياقاتها وتجسّداتها التاريخية والاجتماعية، المعقدة والمتعيّنة، وتجريدها وتبسيطها لتصبح عقائد لدول وأنظمة، أو أمم حديثة وقوية مقبلة في مستقبل قريب. وهذا سبب «تفوقها» على «الغرب»: إنها تكتسب القيمة والشرعية من أساطيرها وعقائدها، وليست مجرّد أدوات استغلالية لا قيم لها، مثل الرأسمالية الغربية.
إلا أن البشر في تلك الأمم الميثولوجية قد يتعرّضون لاستغلال وإفقار أبشع بمراحل مما يتعرّضون له في الرأسمالية الغربية، بل ربما حتى تحت الحكم الاستعماري، فالمجتمعات يتمّ اعتصارها، ثم امتصاصها، لأجل الغاية الأكبر، المٌجرّدة في صاروخ يؤلم الأعداء. ويكون التعويل دوماً على وطنية أو عقيدة البشر، التي يُفترض أنها تكثّف عوامل احتجاجهم على الهيمنة الغربية أو الإمبريالية، لتحمّل كل هذا الاستغلال، والاصطفاف وراء دولهم، مهما ظلمتهم وقتلتهم. ربما لا يمكن لهذا أن يعمل، فرغم أهمية الأيديولوجيا والأسطورة والعقيدة في بناء الذات الجماعية، إلا أنها لا تختصر لوحدها تعقيد العالم الاجتماعي، وستفلت منها كثير من العناصر، كلما ازدادت صلابة وانغلاقاً، فيتحوّل البشر حينها إلى بيئة مغايرة للنظام الميثولوجي الدارج، لا يستطيع ترميزها، وإدخالها في أنساقه، ما يعرّضه للانهيار والتبدّد. وإذا أضفنا لهذا المسألة القومية والإثنية والطائفية، التي لا يمكن حلّها في هذا النوع من الأمم الأحادية، مهما بلغت قوتها في القمع والإبادة، فسندرك مدى هشاشة تلك الصلابة الواحدية، بكل صواريخها وأبراجها وأوابدها الضخمة.
يميل بعض المتداخلين في الشأن العام، ممن يصنّفون أنفسهم يساريين أو ديمقراطيين، إلى التأكيد على أنهم غير مؤيدين لذلك النوع من الأنظمة، إلا أنهم معادون لـ»الهجمة الإمبريالية» عليه، نظراً لأنها لا تستهدف النظام فحسب، بل الأمم والجيوش والصناعات والقوى الاجتماعية المنظّمة، ويناشدون السلطات لتحسين أوضاع الناس، كي يبقوا «صفّاً وطنياً واحداً» في المعركة ضد الغرب. عملياً، لم يخرج هؤلاء من الميثولوجيا الواحدية، إذ أن الفصل بين الأنظمة و»الجيوش والأمم» شديد التعسفيّة، ولا يتسم بأي منهجيّة. ما الأنظمة دون جيوشها وأممها؟ وهل يمكن لهذا النمط من التجييش والتصنيع أن ينتج أنظمة أخرى، أو أن يحترم التنوّع والحقوق؟ كما أن استغلال وقمع البشر ليس عارضاً، أو مجرد «خطأ» يرتكبه قادة، وطنيون وصالحون في جوهرهم، وإنما عامل بنيوي في تلك الأنظمة، ومنتج لنمطها الخاص من التراكم المادي. التجربة فاشلة، وأثمانها شديدة الدموية والألم، وسقوطها سيخلّف فوضى كارثية، ودماراً شاملاً للمدنيّة، قد لا يمكن تجنّبه، وإنما محاولة التخفيف من آثاره قدر الإمكان؛ أما تأييد «الأمم والجيوش» ونقد الأنظمة، فليس إلا احتيالاً خطابياً، من أنصار يمتلكون جذراً أيديولوجياً مشتركاً مع ذلك النمط من الدول، والميليشيات الموالية لها، ولكنهم لا يريدون أن يتحمّلوا المسؤولية السياسية والأخلاقية لتأييدهم، ويسعون للحفاظ على الرأسمال الرمزي للهالة «اليسارية» و»الديمقراطية»، التي يحيطون أنفسهم بها في الحيز العام.
إيران ليست سنغافورة؟
يظن كثيرون، من المعادين لأفكار قوميات التحرر الوطني، بصيغها اليسارية والإسلامية الكلاسيكية، أنهم قد خرجوا نهائياً من تجريد الصواريخ، التي تُشهِرها أنظمة مثل «الجمهورية الإسلامية» في إيران، ويحلمون اليوم بنماذج أخرى، مثل النهضة الاقتصادية في بلدان كسنغافورة. تقوم هذه الأيديولوجيا، التي تظن نفسها جديدة، على فكرة التنازل الشامل لمن كان يعتبر عدواً وجودياً حتى وقت قريب، بلا مقابل سوى نيل قبوله، وإقناعه بأنها لا تشكّل خطراً عليه، رغم ما تحويه من عناصر ميثولوجية عدوانية، وربما الاستفادة من بعض مساعداته واستثماراته. والنتيجة: ستنتصب أبراج، تشبه أبراج سنغافورة، في بلداننا الممزّقة، دون أي معرفة بتجربة ذلك البلد ومجتمعه ونظامه، أو أي تشابه فعلي معه.
يصبح العدو هنا داخلياً تماماً، أي الفئات والقوى التي تعرقل نشوء «الأمة»، بأكثريتها وعقيدتها وثقافتها، فيما العلاقة الناجحة مع الخارج هي انتصار على أعداء الداخل. لقد تخلّينا عن الصواريخ، ولو مؤقتاً، ولكن الأبراج ما تزال في المخيّلة، وهي أيضاً تجريد عن الواحدية، وانتصار قيم الأمة، التي لن تحوي إلا المتماهين مع هويتها، واعدةً إياهم بالرفاه والنصر، إن خضعوا للأنظمة الجديدة، وقبلوا قمعها، وقضوا على الأعداء الداخليين، تمهيداً لمواجهة أعداء الأمة الخارجيين. مجدداً، نحن أمام مخيّلة عن التحديث، المتفوّق بقيمه، والذي لا يأتي إلا بـ»أثمان» باهظة، بشرية غالباً.
المشكلة البنيوية في هذا النمط من التجريد السلطوي هي اعتداؤه العميق على المجتمعات، التي لا تُرى إلا من زاوية «تشخيص مصلحة النظام»، ولا يسمح لها ببناء قواها المستقلة نسبياً عن أجهزة السلطة؛ أو عيش ثقافاتها وأنماط حياتها بالحد الأدنى من الحرية؛ فضلاً عن عدم اعترافه جوهرياً بحق تقرير المصير الفردي، الذي يعدّ مناهضاً للأمة، وهذا لا يؤدي فقط إلى تمرّد المجموعات والأفراد، بل إلى فشل النظام نفسه على المدى الطويل، مهما حقق من نجاحات مؤقّتة، نظراً لعجزه عن دمج أكبر قدر ممكن من الفئات، متعددة المواقع والمصالح، في تجريداته. لا يعني هذا الموافقة على مقولات، تفتقر إلى الدّقة والبرهان، مثل «المجتمعات الديمقراطية تنتصر دائماً على المجتمعات الاستبدادية»، فاستبداد عن استبداد يختلف، وكذلك نظام ديمقراطي عن آخر، وليس «الاستبداد» أصلاً تعبيراً سياسياً دقيقاً، بقدر ما هو بلاغي، إلا أن نمط التحديث القائم على تجريد ميثولوجي من ذلك النوع، لم ينتج تاريخياً إلا كثيراً من الخراب، والأجدى التفكير بسرد آخر، يمكن أن ينتج مشتركات فعليّة للبشر المتعددين؛ ونمطاً مغايراً للوطنية والحقوق الاجتماعية، يرفض جذرياً إبادة الحياة وقمعها، تحت أي ذريعة أو أسطورة. هنالك حداثات، وليس نمطاً واحداً من التحديث، وربما ابتُليت منطقتنا تاريخياً بأحد أكثر أنماطه كارثية.
كاتب سوري