الاستنفار المصري ضد “الحلم” الإسرائيلي بتهجير سكان غزة وتوطينهم في سيناء، قابله أيضاً تحذير أردني شديد اللهجة بأن تهجير إسرائيل لسكان الضفة الغربية (نحو الأردن) هو بمثابة إعلان حرب.

يبدو أن مصر والأردن أيقنا أن إسرائيل استعادت خطتها القديمة: سيناء الواسعة قادرة على استيعاب أهل غزة، والأردن هو “الوطن البديل” لباقي الفلسطينيين. وعلى هذا النحو، تتخلص إسرائيل من كابوس “حل الدولتين”. تصفية نهائية مريحة لقضية فلسطين وشعبها.

الرأي السائد في إسرائيل الآن انتقل من مرحلة الانتقام إلى مرحلة “الحل النهائي”: فلسطين التاريخية خالية من الفلسطينيين. تهجيرهم بالقوة واقتلاع وجودهم.

والرأي العام الغربي أيضاً يميل إلى الاعتقاد حالياً بأن ضمان وجود إسرائيل لا يتماشى مع بقاء الفلسطينيين في الضفة والقدس وغزة، وأن أي دولة فلسطينية مفترضة ستظل تشكل خطراً وتهديداً على نحو ما حدث يوم 7 تشرين الأول.

على الدوام، كانت هذه عقيدة اليمين الإسرائيلي خصوصاً: التعايش مستحيل بين الدولة اليهودية والوجود الفلسطيني. ما حدث طوال العقود الثلاثة المنصرمة هو التوسع الاستيطاني الهائل في كل الضفة الغربية بموازاة الاستشراس في تهويد القدس على نحو لا رجعة فيه، وإلى حد التفكير الجدي بيوم إعادة بناء “الهيكل” في الأقصى. بمعنى آخر، جعل حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية المقطعة الأوصال، لا تطاق ولا تحتمل. حياة بلا مستقبل. وهي سياسة أشبه ما تكون بـ”التطهير الصبور” الممنهج والطويل الأمد. فمنذ اتفاق أوسلو إلى اليوم، كانت “عملية السلام” المأمولة والتي من المفترض أن تؤدي إلى دولة فلسطين، تجري بموازاة تغيير واسع النطاق للوقائع الجغرافية والسكانية والعمرانية على نحو تتبدد معها كل مقومات وجود هكذا دولة.

رفضت إسرائيل منح الحد الأدنى من الكرامة والسيادة للسلطة الفلسطينية. لم تتوقف يوماً عن التنكيل والنهب والمصادرة والاستيلاء على البيوت والأراضي والاعتقالات التعسفية والقتل والاستباحة والإذلال اليومي. كانت تقدم للفلسطينيين أمراً واحداً: اليأس.

في غزة كان الوضع أسوأ على الدوام. وهي اليوم تضع القضية الفلسطينية عند منعطف مصيري مخيف. إنقاذ غزة سيحدد مستقبل هذا الشعب. إنقاذها أولاً من التهجير، عبر وقف الحرب بأسرع وقت ممكن ولو بثمن كبير. فهو ثمن أقل بكثير من خطر دفن الحلم الفلسطيني.

التمنيات بالعودة على الأقل إلى يوم 6 تشرين، أي وقف إطلاق النار والركون مجدداً إلى السياج.. لا علاقة لها بالواقع والحقائق. كل الحملات الرهيبة التي عاشتها غزة منذ أواخر العام 2008، لا توازي الأهداف التي تريدها إسرائيل الآن من هذه الحرب، المسنودة إلى أقصى حد بالدعم الأميركي والغربي: لا تصفية حماس وحسب، بل غزة نفسها.

هذه الحرب التي تُشن على غزة، يغطي دخانها مجريات دموية في الضفة: عشرات القتلى الفلسطينيين خلال أيام برصاص جنود ومستوطنين. الحرب على كل الفلسطينيين، لاغتيال مشروعهم الوطني.

مقابل مشروع “التصفية” الواضح المعالم، المدعوم كالعادة بـ”المساعدات الإنسانية”، لا نجد ما يواجهه.

في أواخر آب 1982، واجه ياسر عرفات تحدياً مصيرياً. لقد انتهت حقبة حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد المنطلقة من لبنان. قرار الخروج من بيروت إلى الشتات بدا كأنه النهاية التراجيدية لمنظمة التحرير الفلسطينية وللقضية. بل بدا أن آرييل شارون يحقق حلمه بـ”التصفية”. رغم ذلك، رفض حينها عرفات المشروع “العدمي” الذي ألحت عليه بعض المنظمات: القتال حتى الموت.

أدرك عرفات وهو متوجه مع مقاتليه بالسفن نحو المنافي الجديدة، فداحة خطأ اختزال القضية والمنظمة بالبندقية وحدها. هذا ما سيمهد لإعادة الاعتبار لحقيقة وجود شعب وأرض وهوية، وسيكون ذلك بـ”عبقرية” الانتفاضة الأولى.

إنقاذ غزة (وفلسطين) من التصفية لا يكون بالتمنيات الخيالية.. ولا بالعدمية.

هذه هي مسؤولية حماس الكبرى. ما جوابها على مشروع التصفية؟