كلما رأيت دعوات أو منشورات أو صورًا عن ندوة تُنظَّم داخل سوريا أو خارجها، بعناوين من قبيل “آفاق الحل في سوريا” أو “مستقبل الانتقال السياسي” أو “الهوية الوطنية السورية” أو “إعادة الإعمار”، أجد نفس الأسماء تتكرّر تحت عنوان “المناضل الفلاني” أو “المفكر الكبير”.
وحين أرى الصالات ممتلئة، أشعر دومًا بالمفارقة بين الحاجة الحقيقية للحوار، والتعطش الشعبي للبحث عن حلول، وبين نوعية الشخصيات التي تُدعى لتقديم الإجابات.
شخصيًا، أحب أن أطلق على هذه الشخصيات اسم “فلول المعارضة”، وهو مصطلح يصف مجموعة من المثقفين النخبويين المعارضين، الذين احترفوا فن المحاضرة السياسية والحوارات التلفزيونية، دون أي ممارسة فعلية تتصل بالواقع.
من وقت إلى آخر، يتحفنا بعضهم بمقال جديد، غير مفهوم شكلاً، وفارغ مضمونًا، لكنه مليء بالمصطلحات والتحليلات التي توحي بأن لديهم مفاتيح لحل كل المشكلات.
ومن سوء حظي أنني أعرف بعضًا منهم على المستوى الشخصي، وتابعت نشاطهم التطبيقي في العمل السياسي، بالمقارنة مع التحاليل الكبرى التي ينتجونها.
ولم أرَ لدى أي منهم أدنى مستوى كفاءة يسمح بنقل أفكاره “العظيمة” من التنظير إلى الواقع. ورغم ذلك، لم أسمع أحدهم يومًا يراجع أفكاره أو يعترف بإخفاق. بل على العكس، الاستعراض مستمر.
يحتلون المنصات، ويأخذون لأنفسهم موقع “العارف المدرك”، يحلّلون الواقع من علٍ، دون حدود معرفية أو إدراكية، ويسقطون عليه بعض النظريات الكبرى، ثم يتحدثون عن “الأفق” و”الحلول”.
لكن طبيعة مهنتهم الحقيقية ليست الفهم ولا التحليل، بل النرجسية.
لأن موضوعية أي شخص أمام الإشكالات البنيوية في المجتمع السوري، وأمام أسئلة كبرى مثل الهوية، الاستعصاء السياسي، أو إعادة الإعمار، تتطلب حدًا أدنى من التواضع، والقدرة على قول: “لا نعلم”، إن كان مدركًا فعلًا لتعقيد هذه الأسئلة.
أما هم، فلديهم دائمًا منظومات جاهزة من الإجابات الشاملة. ومهما بدت تلك الإجابات مريحة للأذن لحظيًا، فإنها – بعد ساعة أو ساعتين – تتبدى شعاراتية، ولا تضيف شيئًا سوى المزيد من الحيرة.
تجربتهم السياسية كمعارضة، عبر عقود، قد تكون لها قيمة رمزية، لكنها لا تعطيهم أي شرعية حقيقية. فهي لم تحصد نتائج، ولم تقدم حلولًا فعلية، ولا بدائل ممكنة.
تجربتهم كانت فاشلة سياسيًا، وضحلة فكريًا، في سنوات المقاومة والثورة، وما زالت اليوم تسير على نفس المسار، حتى في علاقتها مع “السلطة الجديدة”.
لا يملكون أدوات فهم بنيتها، ولا شجاعة وصف حقيقتها، ولا حلولًا لبناء البدائل، ومع ذلك، ما زالوا يحتلون المنصات، ويواصلون “اللعي”.
مع أنني لا أحب استخدام المصطلح الفرويدي “قتل الأب” – الذي يعني رمزيًا تحرير الذات من سطوة السلطة الرمزية للأب، بما يسمح للفرد بتأسيس استقلاله المعرفي والنفسي – إلا أنني أعتقد أن الجيل الجديد من المثقفين السوريين أمام هذا التحدي تحديدًا.
فبما أن هذه النخب الرثّة لا تملك ما يكفي من عزة النفس للانسحاب من ذاتها، لأنها لا ترى ربما ما قد يشغلها عن الملل، فإنها تستمر في احتلال مكانة لا تستحقها، ويجب دفعها خارجًا، لا بحقد، بل بوضوح.
محاسبة “فلول النخب المعارضة” على أدائها الكارثي، دون أي مراعاة رمزية، ومواجهتها بخواء خطابها السابق والحالي، ووضعها جانبًا ببساطة، هو مهمة النخب الجديدة.
لن يتمكن المجتمع السوري من النهوض بالاعتماد على النخب القديمة، ولا على سلطةٍ تُشكّل، بتكوينها، نقيضًا للنخبة.
ولن ينجو المجتمع من المواجهة المباشرة مع جيل يدّعي الحكمة في وسطية مائعة، تمنع المواجهة الفكرية والسياسية بين من يتبنون خطاب السلطة، ومن يرفضونه بوضوح وشجاعة ومبدئية.
إنتاج نخب ثقافية وفكرية ووطنية جديدة هو من أهم تحديات المرحلة القادمة. فالمواجهة ضرورية، وحتمية، ودور النخب الجديدة فيها محوري وأساسي.
وإزاحة النخب القديمة من المنصات، ووضعها جانبًا، هو جزء من عملية التجدد الطبيعية، ومن منطق الاستبدال البنيوي الذي لا بد أن يحصل.
فكما تشير الأدبيات السياسية والاجتماعية، فإن تجدّد النخب شرط صحي وأساسي لأي تحوّل ديمقراطي حقيقي. و النخبة حين تعجز عن تجديد نفسها، تتحوّل من أداة تغيير إلى عقبة يجب تجاوزها.