توقف موظفو شركات الاتصالات في سوريا عن العمل أياماً عدة بعد سقوط النظام، ثم عادوا إلى مكاتبهم في سيريا تيل وأم تي أن سيريا، الشركات التي كانت ملكاً لواجهات بشار الأسد والقصر الجمهوري، تُصارع إدارتها بعد سقوط النظام شركات “جديدة” تحاول الاستحواذ عليها، كـ”شركة المجتهد التقنيّة” ذات الاختصاصات الواسعة من تركيب أبراج المراقبة حتى تجارة الأثاث والموبيليا، فهل يتكرر سيناريو الاستحواذ في عهد النظام السابق؟ وما هي “شركة المجتهد التقنية”؟
“الجو مكركب هاه البسي شي”، يقول شاب من سكان حي أسد الدين في دمشق، لترد عليه فتاة على الجانب الآخر من الهاتف: “لابسة كنزة رقيقة بدو جاكيت سميك؟”، قبل أن يوصيها بضرورة ارتداء الجاكيت لاحتمالية هطول الأمطار ليلاً.
تبدو المحادثة جزءاً من حديث عابر بين شريكين/ صديقين، لا يوجد أي ما يثير الشكوك فيها، إلا أنّها، ولسببٍ نجهله، كانت تحت رادار “قسم المراقبة” في إدارة المخابرات الجوية بدمشق، إلى جانب المئات من سجلات المحادثات “التافهة” عثر عليها “درج” بين ما تبقى من أكوام الأوراق الناجية من النيران التي التهمت الفرع صباح 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024.
لم يكن مُمكناً لدولة الأسد، مملكة الصمت، الإمعان في توحشها من دون سندٍ من قطاع الاتصالات بشقّيه العام و”الخاص”، وتَباهٍ في تسخيره كما المثال أعلاه، وعلى رغم ضعف البنية التحتية حتى ما قبل الحرب، وتهالكها في ما بعد، وظفت كجزء من سردية/ سياسة النظام الذي يسمع ويرى كل همسة، والقادر على عقد التحالفات والالتفاف على العقوبات الاقتصادية!
أسَّس الأسد لقطاع اتصالات يتجاوز بكثير “الاتصالات”، وأياً كانت الجهة الوريثة للقطاع المسؤول عن توليد ما لا يقل عن 12 في المئة من عائدات الدولة، فهي أمام مملكة من التعقيد والتحالفات وأموال الظل يصعب فهمها بدايةً قبل الحديث عن التخلّي عنها.
من “مخلوف” إلى القصر
بعد الصدام الشهير الذي بدأ عام 2018 وامتدَّ حتى منتصف عام 2019 بين القصر الجمهوري ورامي مخلوف، والذي انتهى بحصول “القصر” على شركتي سيريا تيل وإم تي إن سيريا، وتحول مخلوف إلى ناسكٍ يحذر من “النزائل” ويلقي النبوءات، وجد مستشارو القصر، ممثلين بمنصور عزام ويسار إبراهيم (المدرج على قائمة العقوبات منذ عام 2021) حاجة الى أسماءٍ جديدة تهيمن على القطاع بعد الصيت السيئ الذي اكتسبه المشغلان الأساسيان.
تأسست في الوقت ذاته تباعاً مجموعة من الشركات الأصغر –كجزء من كوكبة شركات يسار إبراهيم التي تدعى “الجروب”– لامتصاص قطاع الاتصالات، فولدت شركات مثل البرج للاستثمار، البرج الذهبي، أوبال بلانيت، وسبيس تيل. والتي أصبحت المورّد الحصري لمُشغّلي الاتصالات سيريا تيل وإم تي إن في ما يتعلق بأبراج الاتصالات وصيانتها، وقطع الغيار، والمعدات التقنية، والدعم الفني والتطوير، من خلال عقود إذعانٍ لا يمكن للمشغلَّين توقيع غيرها، ويحرمهما من أداء تلك المهام داخلياً.
استُخدمت هذه الشركات لسنوات كبوابة لتوقيع عقود تسمح بدخول مستثمرين من دول خليجية شكّلوا لاحقاً شريان حياة للنظام، الذي جفَّت الكثير من مواره المالية، بحسب بيانات واجتماعات اطَّلع “درج” على محاضرها.
توزعت ملكيات تلك الشركات بين يسار إبراهيم، ويده اليمنى أحمد خليل، وباسل منصور، وجميعهم شخصيات تدور في فلك الأسد وتخضع للعقوبات الأميركية والأوروبية، كما أنَّ أحمد خليل كان المفوض القانوني الوحيد بتحريك الأموال من تلك الحسابات وإليها بحسب ما صرح لـ”درج” معاوِناه الاثنان اللذان رفضا الكشف عن هويتهما.
بعد عمليات الاستحواذ هذه، أُعلن عن المشغل الثالث لشركات الخليوي في سوريا عام 2021، وتمثل بشركة “وفاتيل” التي يمتلك حصة وازنة منها يسار ابراهيم، إذ أعلنت أنها ستعمل في سوريا، وتبين لاحقاً أنها على علاقة وثيقة مع الحرس الثوري الإيراني، وتأخر تشغيلها مراراً.
وبحسب وثائق اطلع عليها “درج” من إدارة المخابرات العامة تعود إلى تاريخ 2023، تبين وجود شركة روسية (Portel)، ستزود وفاتيل بمعدات وتجهيزات فنيّة، وسيتم توقيع العقود في سانت بطرسبورغ في روسيا.
جاء في التقرير بصورة غير واضحة أنها “تورّد بعض المعدات إلى إيران من دون إعلان ذلك”، وأكد التقرير : “لم ترد معلومات حول شبهات أمنيّة تحيط بمجال عملها أو نشاط القائمين عليها”، لكن اللافت أن مصدر المعلومات هو “مدير تنفيذي عامل ضمن شركة وفاتيل”.
بعد سقوط النظام وفرار بشار الأسد، لم يبق من وفاتيل سوى واجهة البناء في دمشق التي تحمل شعار الشركة وألوانها، أما بالنسبة الى الموظفين فيها، فقد حصلوا على رواتب شهرين (كانون الأول/ ديسمبر وكانون الثاني/ يناير) حسب أحد الموظفين، الذي أكد أن الشركة “انتهت”.
هرب الأسد ورجاله…لكن ماذا عن شركات الاتصالات؟
خيّم شبح النجاة الفردية على أسياد المال في سوريا مع انطلاق عملية ردع العدوان، فهرب الأسد إلى حميميم ومنها إلى موسكو، فيما اختفى منصور عزام، وساعد الإماراتيون أحمد خليل على الخروج بما يستطيع حمله من وثائق وأجهزة حاسوب ونصف مليون دولار نقداً، ولم يصل يسار إبراهيم إلى أبو ظبي حتى 11 كانون الأول/ ديسمبر، وبقيت الإمبراطورية.
لم يكن من الواضح حينها ما الذي ستفعله هيئة تحرير الشام (قبل حلّها) بمئات الشركات التي تركها الأسد وعُصبته وراءهم، لكن اتضح بعد وقت قصير أنه سيتم تغليب التسامح ومحاولة الحصول على أكبر حصة ممكنة على المحاسبة، اتضح ذلك عندما كشف “درج” أن رجل الأعمال الشهير محمد حمشو بقي في منزله بدمشق ثم بدأ محادثاته مع الإدارة الجديدة.
تسلَّمت إدارة أحمد الشرع البلاد بخزينة شبه فارغة واقتصادٍ متعفن وعلاقات تجارية متهالكة. أضيفت إلى ذلك بيروقراطية نظام الأسد المفرطة التي صعَّبت مهام تحريك الأموال ونقل الأصول.
للتغلُّب على معضلة تحريك الأموال من حسابات تلك الشركات وتجفيفها، وفي ظل مكوث الشخص المخول بتحريكها في أبو ظبي، لم يُترك سوى خيار إرسال وزير اتصالات حكومة تسيير الأعمال في آذار/ مارس، كتاباً اطلعنا عليه في “درج”، طلبت فيه وزارة الاتصالات من البنك المركزي، السماح بتحريك الأموال من الحسابات البنكية التي تعود إلى “الجروب”، أي شركات يسار ابراهيم، الكتاب لم ينشر علناً، واطلعنا عليه ضمن مراسلات خاصة من أحد البنوك في دمشق التي تحوي عدداً من تلك الحسابات.
يقول عددٌ من موظفي البرج والبرج الذهبي وأوبال، الذين تحدث إليهم “درج”، إن الشركات توقفت لبضعة أيام بعد سقوط النظام ثم تابعت عملها كالمعتاد من مقرها في حيّ المزة، فيما تم الحفاظ على أصول الشركات وسياراتها وعقود موظفيها القديمة، لكنها باتت تعمل جميعاً تحت اسم كيانٍ جديد يدعى “شركة المجتهد التقنية”.
بحسب وثيقة التسجيل الخاصة بالشركة التي حصل عليها “درج”، “فإن الشركة المسجلة وفق الحد الأدنى من رأس المال المسموح به (50 مليون ليرة سورية)، ستعمل على “إنشاء وصيانة محطات الاتصالات السلكية واللاسلكية والرادارات، وتركيب وتمديد شبكات الحاسوب والاتصالات، بما في ذلك الألياف الضوئية وكابلات الاتصالات”.
كما أنها مسجلّة بأسماء شخصيات غير معروفة، ولا أثر لها عند البحث في المصادر المفتوحة، ناهيك بالاختصاصات الواسعة لهذه الشركة، كـ”أعمال وديكورات الجبصين والدهان والطلاء” و”البيع بالجملة للأثاث المنزلي والموبيليا”!
مسؤول كبير في شركة إم تي إن سيريا، رفض التصريح عن هويته، يقول لـ”درج” إنَّ الشركة اليوم “تحاول إظهار مقاومة أعلى ضد العقود مع شركة المجتهد”، آملاً بألا يتكرر سيناريو شركة البرج ويضطر لإبرامها تحت الضغوطات والتهديدات.
مصادر مُطلعة على الملف الاقتصادي في الإدارة الجديدةن الخاص بانتقال ملكية شركات الاتصالات في سوريا، أكدت لـ”درج” أنَّ جانباً من عائدات شركة المجتهد الجديدة استُخدم لدفع رواتب وزارة الداخلية، المُستثناة إلى جانب وزارة الدفاع من المنحة القطرية-السعودية لتمويل رواتب القطاع العام السوري لثلاثة أشهر.
حاولنا الاتصال بـ”شركة المجتهد التقنيّة” على الرقم الموجود على وثيقة التسجيل، لسؤالهم عن طبيعة أنشطتهم، لكن لم يرد أحد، وتواصلنا مع معاون وزير الاتصالات في دمشق، وأخبرنا أن الوزارة تعتذر حالياً عن الحديث مع الصحافة.
ما زالت السياسة الاقتصادية الخاصة بالإدارة الجديدة في سوريا غامضة، خصوصاً مع عودة أسماء مثل محمد حمشو وفادي صقر إلى الواجهة، في حين لم يُكشف البنك المركزي في سوريا إلى الآن عن حسابات الشركات العائدة الى النظام البائد والمقربين منه، والتي تم تجميدها في كانون الثاني/ يناير، ولم يعلن عن إجراء رسمي بحق أي من تلك الشركات، سواء على مستوى العدالة الانتقالية أو أسلوب التشغيل بعد سقوط النظام.