لطالما قيل عن حقّ إنّ تشتت عناصر القوة بين أكبر عدد من الدول التي يُحتمل أن تكون “سيئة” أفضل من تركّزها في دولة واحدة لا شك في مدى سوئها. يصحّ هذا على منطقة الشرق الأوسط هذه الأيام أكثر من أيّ وقت مضى، فبعد الدمار السياسي ــ الاقتصادي ــ الاجتماعي الذي حلّ في كل الأوطان العربية التي كان يمكن أن تكون قوى إقليمية وازنة، كمصر والعراق وسورية، وإثر الضربة شبه القاضية لإيران وأتباعها وحلفائها، وظهور الحجم الحقيقي لتركيا متفرّجة على زلازل المنطقة، ومكتفية بإطلاق القنابل الصوتية ضد إسرائيل، يقف الشرق الأوسط أمام مشهد احتكار الدولة العبرية عناصر القوة كلّها، بأعلى درجات الإجرام والعنجهية والمشاريع التوسعية المنبثقة من وعود دينية عمرها آلاف السنين، والتي تُنفذ بأحدث الأساليب، فيمتزج في مشهدنا المعاصر الذكاء الاصطناعي مع خرافات ما قبل التاريخ لرسم معالم مستقبل يبشّر باستحضار أسوأ ما في الماضي. في الطرف الآخر من المشهد، لا شيء، أوطان أشبه بصحراء قاحلة، شعوبها مجرّدة من ثقافة ديمقراطية وعاجزة عن اقتراح أي مشروع سياسي لشدّة ما هي منهكة ومقموعة، وحكامها تعجز اللغة عن وصف تهافتهم.
أغلب الظن أنّ التحذير من أنّ بلداننا تتجه إلى أن تصبح منطقة نفوذ إسرائيلية كاملة، قد أصبح بدوره منتهي الصلاحية، لأنها أمست بالفعل كذلك. ولم تفعل معظم المشاريع المعادية لإسرائيل، بتنويعاتها القومية واليسارية والإسلامية، إلّا تعميق الخسارة منذ تأسيس الدولة اليهودية، فجردة بسيطة لأحداث ما بعد 1948 تُظهر أن تاريخنا الحديث ليس سوى تراكم هزائم تفنّنت بعض نخبنا في التخفيف من حدّتها عبر حيل لغوية كان رمزها محمد حسنين هيكل في اختراعه مصطلح النكسة لوصف كارثة 1967، ومن خلال المبالغة في تعظيم جولةٍ حربية في معركة الكرامة 1968، ومكسبٍ في حرب أكتوبر 1973. أمّا في العقود الثلاثة الماضية، فقد بلغ خداع النفس مرتبة مَرَضية مع تصوير كوارث حرب لبنان 2006 وما سبقها في انتفاضة الضفة الغربية وما تلاها مع “طوفان الأقصى” وما أنتجه، انتصارات، بينما هي أم الهزائم وأبوها معاً. لكن التاريخ لا تنطلي عليه مناورات الكلام ولا يراعي المشاعر، ويُخبرنا أن تحوّل بلدان المشرق العربي إلى منطقة نفوذ إسرائيلية كان سيرورة لا حدثاً مفاجئاً، ولحكّامنا وشعوبنا في أسبابه حصة وازنة باحترافهم إساءة قراءة الأحداث وموازين القوى وعقد التحالفات وشراء العداوات، وقبول ديكتاتوريات وطنية باسم نصرة فلسطين ومحاربة إسرائيل والإمبريالية، وبتمسّكهم بأساليب عسكرية مجرّبة عند كل مرة تنزل بنا هزيمة، وبتجريم أي مسعى لمفاوضات تحدّ من الخسارة، وبتخوين كل من ينطق بكلمة سلام في زمن لم يكن ذلك المصطلح يرمز إلى الاستسلام المطلق لإسرائيل ولشروطها.
أصبحنا إذاً منطقة نفوذ إسرائيلية. فلسطين تندثر. أقصى طموح سوريّ لم يعد استرداد الجولان، بل توقف الاحتلال الإسرائيلي حيث وصلت آلته الحربية في البر والجوّ. حلم العراقيّ ألّا تدمّر إسرائيل بغداد وبقية حواضر بلاد الرافدين. الأردنيون يخشون ضياع أجزاء من وطنهم في مسلسل تهجير فلسطينيي الضفة. اللبنانيون حين يتصارحون، يساورهم الشك في احتمال عودة الحياة إلى عشرات القرى الحدودية في المدى المنظور. المعروض على البلدان العربية التي لم توقّع اتفاقات سلام واستسلام مع إسرائيل، أن تنضمّ إلى النادي الإبراهيمي ببند وحيد ينصّ على تثبيت الستاتيكو، الوضع القائم حالياً، أتعلّق الأمر بلبنان أو بسورية على الأقل. البديل المعروض، أميركياً وإسرائيلياً، هو المزيد من القتل وقضم الأرض وسرقة الثروات الطبيعية والمياه في هذين البلدَين، بمعادلة “اكتفوا بحجم خسارتكم كما ترونها اليوم، وإلّا فستقبلون بما هو أسوأ بالنسبة إليكم غداً”.
ما العمل إزاء ذلك كلّه؟ جواب سهل ينتمي إلى عالم الغيبيات: أن تحصل معجزة تُحيي معسكر سلام إسرائيلي باتت نسبته المئوية في المجتمع اليهودي لا تتجاوز العشرة في المئة في أحسن الأحوال. أمّا التصوّر الواقعي لما يمكن أن نفعله نحن، فوحدهم حكماء من زمن آخر يستطيعون اقتراحه، وكاتب هذه السطور ليس منهم.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News