منذ اللحظة الأولى لهذه الحرب، التي لا تشبه أي حربٍ سابقة على قطاع غزّة، سعت إسرائيل والعالم المتحضر الداعم لها لتقديم قصفها المنفلت بأنه حربٌ على حماس، لأنها طبعاً حربٌ بدأتها حماس من الصفر، مجرّدة من أي سياق سياسي ومن أي خلفية تاريخية.

باتت حماس هي العنوان: وسائل الإعلام تُعنون أخبارها بأن ما يجري هو حرب بين إسرائيل وحماس؛ وكلّ متحدث فلسطيني يتعرض لسيل من المطالبات بإدانة حماس، حتى في سياق حديثه عن مقتل أفراد من عائلته على يد العدوان الإسرائيلي (كما جرى. السفير

ولكن وفي الوقت نفسه كان ينفجر غضب المسؤولين الإسرائيليين عند سؤالهم عن حال الفلسطينيين من المدنيين في غزة. نفتالي بينيت ينفجر على مذيع سكاي نيوز «». ، تصرخ ميرال بن آري، عضوة في الكنيست الإسرائيلي رداً على مداخلة للنائبة العربية عايدة توما سليمان؛ والرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ -ذو المنصب البروتوكولي-  عن مدنيي غزة ويبرر موتهم بأنهم «كان يمكن أن يثوروا على حماس وأن يقاتلوها» ولم يفعلوا.

نجحت إسرائيل فعلاً في تصدير أنها ليست إلّا في حرب مع حماس، وفي الوقت عينه أدغمت، هي وكل داعميها، كل فلسطين تحت راية حماس. باتت مُناصَرة الحقوق الفلسطينية المشروعة حماس؛ إدانة الاحتلال العسكري ونظام الفصل العنصري وحرمان الشعب الفلسطيني من أبسط حقوقه السياسية انتقاصٌ من حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد حماس، وبالتالي تأييدٌ لحماس؛ علَمُ فلسطين حماس؛ الكوفية حماس، كُتّاب فلسطينيون مدعوون لنشاطات ثقافية حماس.

والآن، ماذا يجب أن تقول مجزرة المستشفى الأهلي المروّعة للعالم؟ لا تقول المجازر شيئاً، بل إن وظيفتها هي تكبيل الكلام، كما تعلّمنا كسوريين خلال اثني عشر عاماً ونيف. لكن إسرائيل تَمكَّنتْ على الفور من النطق بعد المجزرة، وماذا قالت؟ حماس! لا بل الجهاد! لأنه إن لم يكن بالإمكان تعليب المجزرة في الكلمة المكونة من أربع أحرف نفسها، من الممكن على الأقل بثُّ الشك وإخفاء الحقيقة وراء الروايات المتناقضة. وبعدها ستجهدُ مراكزُ القرار في الولايات المتحدة وأوروبا للتحقق والتأكد والتمهُّل، بعد أن كانت مستعدة جداً لتصديق وتكرار أي رواية تؤكد وحشية وبربرية الطرف المقابل. بين هذا البُطء في تصديق فلسطين والسرعة في تصديق إسرائيل تكمن كل المشكلة، كل العنف والعنصرية المؤسِّسَين لهذا الصراع الممتد منذ النصف الأول للقرن العشرين.

تحتاج الحربُ الإباديةُ التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني للالتصاق بكلمة حماس لتسويق نفسها لجمهورٍ يطلب ويحتاج التصاقاً كهذا، في المجتمع الإسرائيلي نفسه، وفي الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والهند، وحتى في بعض الأوساط العربية. ولكن ولحسن الحظ، الكلمات أكثر من قنابل إسرائيل، والعالم أوسع من عوالم إسرائيل، والمجزرة مهما بلغت فظاعتها فإنها لا ينبغي أن تنجح في تعطيل كّل كلام.

على عكس فريق المجزرة، لسنا حَبيسي كلمة واحدة. وجود كثيرين منا في الشتات العالمي، وقدرتنا على التواصل مع أناس كثر، تجعل من واجبنا أن نخبرهم، بلغات عديدة ولكن أيضاً بكلمات كثيرة، أنهم ليسوا بحاجة لأن يحبوا حماس لكي يطالبوا بوقف هذه الحرب الإجرامية، لا بل ليسوا بحاجة لأن يرتدوا كوفية، ولا أن يحملوا علم فلسطين، ولا أن يهتفوا «فلسطين حرّة». ليس عليهم حتى أن يكونوا إنسانويين ولا أن ينحازوا للقانون الدولي الإنساني. من واجبنا أن نخبرهم أن من مصلحتهم ومصلحتنا جميعاً أن يهرعوا غداً لطلب وقف هذه الحرب. إن هذا النَسَقَ من الإجرام سيرتدُّ حتماً تردياً في سلام وحقوق وحريات ورفاه العالم كله، وليس في منطقتنا فقط. وحتى هذا الذي لا تهمه فلسطين ولا يكترث لغزة يجب أن يقتنع أننا بعد اليوم بتنا في القاع جميعاً، وأنه من مصلحته هو بالذات أن تتوقف هذه الحرب.

ليست هذه أول فظاعة تُرتكَب، ولا حتى هي أكبر فظاعة، لكنها مجزرة تنتمي لمتتالية ونَسَقٍ من الإجرام فريد من نوعه فعلاً، بغروره وحصانته الدولية. إنها مجزرة كانت تُعلِنُ عن نفسها ببطء ورويّة منذ أيام، ارتُكِبَت على يد قوّة غاشمة نزعت الأنسنة بكل بساطة عن خصومها، وتحدَّثَ وزراء في حكومتها بكل سلاسة عن «حيوانات بشرية»، وارتكبت كل انتهاك ممكن للقانون الإنساني الدولي بكل بساطة، وتود اقتراف جريمة تهجير قسري من مليوني إنسان وتغضب ممن لا يتطوّع فوراً لتنفيذها بدلاً عنها. إنها مجزرة سمح بها العالم ومهَّدَ لها عندما أنكر على الفلسطينيين أبسط حقوقهم، وتعامى عن جذر الصراع السياسي وفضَّلَ تكرار كلمات قصيرة جوفاء مثل «حماس»!

عالمٌ تُهدِّدُ فيه دولةٌ علناً بقصف مستشفى ثم تقصفه فعلاً بمن فيه، وتُبرّر لنفسها أنها هددت قبل القصف؛ هذا هو العالم الذي تتم مأسسته بالسماح لإسرائيل باستئناف حربها في غزة.