في 10 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، اعتلى مائير حبيب منبر الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان الفرنسي) واصفاً ما شهدته “الدولة اليهودية” قبلها بثلاثة أيام بـ “11 أيلول/ سبتمبر”، مضيفاً: “منذ المحرقة، لم يُقتل هذا العدد من اليهود في يوم واحد”. قبل أن يبدأ كلمته،
مائير حبيب، نائب فرنسي ورجل أعمال، ويحمل الجنسية الإسرائيلية أيضاً، انتُخب عن الدائرة الاغترابية الثامنة، أي الفرنسيين المقيمين في ثمانية بلدان، من ضمنهم إسرائيل.
مشهد التصفيق له قد يوحي بأنه يحظى بصورة إيجابية وسمعة طيبة ويقيم أفضل العلاقات مع أقرانه. لكن عملية بحث معمقة في الصحافة الفرنسية لا تظهر أي ثناء بحقه: كل ما نشر عنه إما انتقادات أو مجرد بورتريه يستعرض شخصيته المثيرة للجدل. حتى في المقابلات التي أُجريت مع زملائه النواب، لم يُعثر على تصريح واحد يكيل له المديح.
هاتان الصورتان تدفعان الى التكهن بأن النواب، بخاصة مؤيدي الموقف الإسرائيلي، مضطرون للتعايش معه، ما يطرح سؤالاً ما إذا كانت موجة التصفيق تعكس موقفاً سياسياً أكثر منه تأييداً لشخص حبيب الذي يوصف بـ “صوت إسرائيل داخل فرنسا”. صفة غير رسمية لم تكن ممكنة لولا علاقته الوطيدة ببنيامين نتانياهو.
في أيلول 2015 وفي إطار زيارة رسمية إلى إسرائيل، كان إيمانويل ماكرون (وزير الاقتصاد آنذاك) على موعد مع نتانياهو. لكن حبيب تدخل لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي لإلغاء اللقاء، وكان له ما أراد.
منذ عودة نتانياهو إلى رئاسة الوزراء في العام 2009، أصبح مائير حبيب صلة الوصل بين اليمين الفرنسي واليمين المتطرف الإسرائيلي ليصفه موقع Radio France بـ يتحكم بجدول أعمال نتانياهو خلال زياراته الرسمية إلى فرنسا، ويتدخل أيضاً لاستبعاد شخصية فرنسية مناصرة للفلسطينيين من الوفد المرافق لفرنسوا هولاند إلى إسرائيل، يتصل مباشرة بنتانياهو ليملي عليه مواقفه حيال فرنسا. نفوذه يتعدى صفته النيابية ليطغى على الديبلوماسيين الإسرائيليين:حضر مائير حبيب اجتماعاً ثنائياً جمع نيكولا ساركوزي ونتانياهو، فيما استبعد الأخير السفير شيك من الاجتماع المذكور. موقف تكرر في كانون الثاني/ يناير 2020 خلال زيارة ماكرون إلى إسرائيل.
العلاقة بين الرجلين تعود إلى مطلع التسعينات، حين كان حبيب يتفرغ لمرافقة نتانياهو خلال زياراته إلى فرنسا. كما أشارت مصادر إعلامية فرنسية عدة إلى ليس مستغرباً إذاً أن عند كل انتخابات نيابية فرنسية منذ العام 2013.
غايته السياسية واضحة: دفع فرنسا إلى تبني توجهات جديدة في ما يخص الصراع في الشرق الأوسط، مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. خيارات لا تلقى قبولاً حتى داخل حزب اتحاد الديمقراطيين والمستقلين، الذي ينتمي إليه حبيب، حزب يدعم حل الدولتين. خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، امتنعت فاليري بيكريس، مرشحة حزب الجمهوريين، عن تبني طروحاته التي تشكل قطيعة مع الأسس التي قامت عليها الديبلوماسية الفرنسية.
قربه من نتانياهو ومواقفه الداعمة للسياسة الإسرائيلية من جهة، وحيازته الجنسية الإسرائيلية من جهة أخرى، يدفعان الى التساؤل ما إذا كان ؟ وهل هو ممثل فرنسا لدى إسرائيل أم ممثل إسرائيل لدى فرنسا؟ .
مؤشرات عدة تدفع “الى التشكيك بولائه لفرنسا”: خلال زيارة فرنسوا هولاند إلى إسرائيل في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، سعى حبيب إلى فرض نفسه على الوفد الفرنسي، ملوّحاً بالالتحاق بالوفد الإسرائيلي في حال الامتناع عن تلبية مطلبه، وعندما أبطل المجلس الدستوري الفرنسي نيابته مطلع شباط/ فبراير 2023 ، تم التداول باسمه، قبل أن يقرر الترشح مجدداً ويفوز بمقعده النيابي.
شهادات زملائه النواب تصب بدورها في هذا الاتجاه: في 5 حزيران/ يونيو 2019، احتدم النقاش خلال اجتماع لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية، ما دفع بالنائبة عن حزب النهضة (الموالي لإيمانويل ماكرون) سونيا كريمي، إلى توجيه كلامها الى حبيب قائلة: . من جهته، أشار النائب اليساري هوغو برناليسي ذات مرة:
ارتباطاته بإسرائيل ليست المأخذ الوحيد عليه، فالدائرة الانتخابية التي يمثلها حبيب تشمل نحو 130 ألف فرنسي موزعين على ثمانية بلدان. بالتالي، نشاطه المنصب على إسرائيل، يدفع الى التساؤل عن مدى تمثيل حبيب الفرنسيين المقيمين في اليونان وتركيا وقبرص وإيطاليا ومالطا وجمهورية سان مارينو، من دون الحديث عن الفرنسيين المقيمين في الأراضي الفلسطينية.
من جانب آخر، يُطرح سؤال عن تماهي هذا النائب مع قيم فرنسا العلمانية. خلال حملته الانتخابية عام 2017، قطع حبيب وعداً لحاخامات بممارسة عمله البرلماني ، وفقاً لصحيفة Le Monde. واحتفالاً بإعادة انتخابه في نيسان/ إبريل 2023، شكر فيه من اقترع له، مصلياً لفرنسا وإسرائيل و”باقي دول دائرته الانتخابية”.
شخصيته الصدامية تثير بدورها الكثير من الجدل. وفقاً لمنصة حزب فرنسا الأبية، أبرز الأحزاب اليسارية في فرنسا، يتبنى حبيب استراتيجية بسيطة لإسكات كل من يخالفه الرأي، بخاصة مؤيدي الموقف الفلسطيني أو منتقدي السياسة الإسرائيلية: الاتهام بمعاداة السامية على نحو عشوائي في تسييس لتلك التهمة.
سلوكه أتى ببعض الثمار، إذ إن تجنّبهم الاصطدام معه لما يمارسه من إرهاب فكري. بدورها، نقلت صحيفة Le Monde عن أحد كبار الموظفين الفرنسيين قوله: ، عبارة وردت في إطار حديثه عن العلاقة التي تجمع ماكرون بحبيب.
لم يكن حبيب ليقدم على تلك الممارسات الصدامية وعلى تحدّي الأعراف السياسية والدبلوماسية الفرنسية لولا إدراكه امتلاك حصانة تجنّبه بعضاً من المحاسبة أو الضجيج. على سبيل المثال، لو أقدم نائب فرنسي مسلم على الاحتفال بانتخابه على نحو ديني، لم يكن ليمر الأمر مرور الكرام كما حصل مع حبيب، بل كان سيشعل جدلاً حاداً يبدأ بعلمانية الدولة ولا ينتهي بالتساؤل عن مدى اندماج المسلمين. ذكر هذا المثال ليس دفاعاً عن الفعل المفترض الذي يحتمل وجهات نظر متعددة، بل للإشارة إلى وجود نوع من الكيل بمكيالين يصب لصالح حبيب.
بعد 7 تشرين الأول، لم يكن مستغرباً استنفاره على كل الجبهات لتسويق الرواية الإسرائيلية، عبر وصفه الجيش الاسرائيلي بـ “الأكثر أخلاقية في العالم” أو إعلامياً، هو أحد الوجوه التي يحلو للصحافيين استضافتها. سياسياً، رافق جميع الوفود الرسمية الفرنسية التي زارت إسرائيل، وشكّل حلقة وصل بين عائلات الرهائن الفرنسيين وإيمانويل ماكرون. وصل به الأمر إلى منح صكوك براءة، كتصريحه أن ، متجاهلاً كل المعطيات التي تشير الى أن حزب التجمع الوطني لا يزال على حاله، وإدانته “حماس” ليست إلا استراتيجية إعلامية لتلميع صورته من دون أيه مراجعة نقدية لتاريخ الحزب.
مع الحديث عن اقتراب نهاية نتانياهو السياسية، يجوز التساؤل عما إذا كان نفوذ حبيب آخذاً في الانحسار؟ هل سيتمكن من الاستمرار بفرض نفسه في ملف العلاقات الفرنسية – الإسرائيلية على رغم غياب صديقه نتانياهو عن المشهد؟.