فيما يشبه الصَعقة وقعَ علينا خبر سقوط النظام بكل أركانه، وهروب رأسه إلى روسيا بعد 54 عاماً من الحكم الجائر توَزَّعت على فترتي الأب والابن. كدنا لا نصدق ما نحن فيه، وانشرخَ زمننا إلى اثنين: ما قبل السقوط وما بعده.
في لحظة واحدة تكثّفَ الزمن، وطغى فرحُ الانعتاق على كل ما عداه. احتفلنا بتلك اللحظة العظيمة، التي لا يستوعبها مفهوم ولا تؤطرها رؤيا، حتى أن أحد أصدقائنا غير المتدينين وجدَ نفسه متراصاً في أحد صفوف المصلين في جامع الحي، الذي انخرط أبناؤه في صلاة الشكر. لم يكن يعرف الصلاة، لكنه وجد فيها التعبير الأعلى عن فرحه وامتنانه، دون أن يفكر كثيراً بما يريد أو لا يريد من الحُكام الجُدد. كان حاله، في تلك اللحظة، حال أغلب السوريين الذين تسُيرهم طاقة الفرح بلا هوادة ولا ريب.
لكن مع بداية خفوت اندفاعة فرح الانعتاق، بدأنا نشهد تحولاً من الاستجابة التلقائية إلى الإدراك الواعي؛ من الانفعال الغريزي الذي فجرته الصدمة إلى وعيٍ مضطربٍ يُسائل اللحظة: من القادم؟ ماذا نريد؟ كيف نؤسس لما بعد الزوال؟ كانت الهوية السياسية الانتقالية تتشكل بيننا، لا بوصفها مشروعاً واضح المعالم بل كتيارٍ هاربٍ من الماضي نحو مستقبلٍ لا نعرف ملامحه. في هذا المناخ، لم يكن الأمل مجرد طموح، بل صار آلية دفاعية نحتمي بها من رعب الاحتمالات. نتمسكُ به كي لا ننزلق إلى هوة القلق أو الفراغ السياسي.
صبيحة يوم السقوط، هرعنا كعائلة صغيرة، أنا وزوجتي وابني، فور سماعنا الخبر العظيم إلى مركز المدينة. لم يعد البيت يتسع لفرحنا، فذهبنا نبحث عن فضاء أوسع نشارك فيه الناس هذه اللحظة المهيبة.
سلكنا الطريق البحري الطويل، الكورنيش الغربي لمدينة اللاذقية، الذي له هو الآخر قصته مع إجرام النظام، حيث قامت مافيات الفساد بخنقه وإغلاق نافذته البحرية بذريعة توسيع المرفأ. أردنا أن نرى أكبر قدر ممكن من المدينة وهي تستيقظ لأول مرة بلا أسد.
استغرق المرور على الواجهة البحرية طويلاً؛ إنها المسافة الخرسانية والأحجار التي حجبت عنا البحر، وجعلت أبناء المدينة محرومين من جزء كبير من بحرهم. لم تكن الواجهة مجرد حجر، بل تجسيداً مادياً لتحصين سيادي فرضه النظام على أهم الموارد الجمالية للمدينة. رفعتُ رأسي قليلاً، لا من أجل أحد، بل لأرى البحر، لأراه أكثر. كان علينا أن نرفع رؤوسنا، لا فرحاً فقط، بل لنرتفع فوق الخرسانة الرمادية، لنتجاوز السور العالي الذي أقامه النظام أمام البحر، أمام المدينة، أمامنا جميعاً. لم يكن رفعُ الرأس هنا فعلَ نَظَرٍ فقط، بل فعلَ مقاومة بصرية ضد القمع المعماري، وضد الإبعاد الرمزي عن الجمال.
على الكورنيش كانت هناك أعداد قليلة من الناس، متوجسين يحملون ملامح فرح يخالطه القلق، كأنهم لا يعرفون ما يجري، أو يخشون أن يتحول هذا الانهيار إلى فوضى أو صدام. تقطع الصمت رشقات رصاص احتفالي ليس فيها تبادلٌ لإطلاق النار، إذ إن عناصر الأمن والشرطة اختفوا كلياً، تاركين أسلحتهم وعتادهم خلفهم.
عند منعطف نقابة المهندسين، رأيتُ مجموعة من الصبية يتقافزون نحو مقر قيادة الشرطة، ينهبون ما تبقى، وقد سبقهم آخرون بإضرام النار في المبنى. كان أحد رجال الدين يصرخ بهم بلا طائل: «هذا ملكٌ عام! هذا مالٌ عام!» لكن لا أحد أصغى. الغرائز كانت سيدة الموقف. حاولت التدخل، بلا جدوى. وبدأ الخوف يتسلل إلي، فالصبيةُ يحملونَ بنادق أطولَ منهم .
تابعنا السير نحو ساحة الشيخ ضاهر، حيث يتمركز تمثال الأسد الأب مقابل ثانوية جول جمال. الأصوات تعلو: زغاريد، صرخات، تكبير. الساحة كانت مكتظة، لا يمكن الاقتراب منها. وهنا داهمني الحظ العاثر: كان التمثال قد سقط للتو. لم أشارك، لم أشهد لحظة سقوطه. كنت أريد أن أراه وهو يهوي، كرمز أخير يشفي شيئاً من قهرنا نحن الذين كسرتنا هذه السلطة عقوداً. لكنه، مرة أخرى ودائماً، الفرح المنقوص.
دلفنا من هناك إلى شارع أنطاكية، الذي استعاد دوره خلال سنوات الحرب، بعد أن خفتت حركة أسواق منطقة الصليبة. كان الناس هناك يصرخون: «مبروك!» بعضهم يرقص، بعضهم يبكي، آخرون يعانقون بعضهم بعضاً. أحدهم صاح: «سنحضر مكبرات الصوت!» لكن فجأة، دوى صوت الرصاص مجدداً من البنادق المنهوبة ذاتها. عادت المخاوف. الناس يفرون، وبعضهم يختبئ. قرَّرنا الانسحاب .
في الطريق، طاردتني صور رفاق وأصدقاء غابوا قبل أن يشهدوا هذه اللحظة: عبد الله هوشة، بسام يونس، عادل دواي. مررنا قرب مكتبة بسام، ذاك المكان الذي كان يوماً منتدىً غير مُعلن لمعارضي النظام. نظرتُ إليها وتحسرت: أين أنتم؟ كم تمنيتُ أن تكونوا معنا الآن. كان الفرح ناقصاً، فرح السقوط لا يكتمل دون حضور من ماتوا ودون أن يتجه نحو من لم يلحقوا به: نحو الرفاق، والأصدقاء، والأقارب؛ نحو أولئك الذين ماتوا بحسرة وقهر، وهم ينتظرون سقوط الطغيان.
لقد رحلوا قبل أن تكتمل الرواية، قبل أن يسقط الجدار. وموتهم لم يمنحنا الحداد الكامل، بل علقَ مشاعرنا بين فرحٍ ننتظره وحدنا وخسارة لم يُعترَف بها علناً. كان الحِداد مؤجلاً، مُشوَّشاً، كأننا كنا نعيش لحظة النصر في غياب من يستحقها أكثر.
الفرح الجريح: تأسيس «سوريون»
إثرَ ذلك، تداعى مجموعة من الناشطين والناشطات والمهتمين والمهتمات بالشأن العام، من مشارب مختلفة تُمثل الطيف السياسي والتنوع الطائفي، واجتمعوا بعد ثلاثة أيام من سقوط النظام في منزل أحد أصدقائنا المتحمسين لإنشاء كيانٍ يواكب هذه التحولات. أغلقَ صاحب المنزل الباب، وأقسمَ ألا يُفتحَ قبل إنجاز المهمة. وهذا ما كان.
كان الناشطون والناشطات من خلفيات متعددة: من سياسيين وحزبيين سابقين خاضوا تجربة الاعتقال، إلى عاملين في الجمعيات الخيرية والمبادرات المدنية، إلى شبان يتوقون إلى التعبير والعمل والظهور، محملين بقيم جديدة يُريدون تجريبها وتأسيسها في إطار اجتماعي وسياسي جديد. كلٌّ جاء بما يحمله من تجربة وخوف ورغبة، ومن إيمان بضرورة ألا يذهب هذا الفراغ من دون محاولة مَلئه.
في هذا الحراك ظهرت «الذات السياسية الجديدة»، تلك الذات التي لم تُشكَّل في معسكرات السلطة، ولا في كهوف الخوف، بل ولدت من سؤال: كيف نعيش معاً وكيف نبني ما يُشبهنا؟ ظهر طيفٌ اجتماعي متعدد وشغوف، أقله بأن يقود أفراده خياراتهم ورغباتهم وانتماءاتهم لأول مرة في حياتهم، ويسأل كلٌّ منهم، على حدة وفي جماعة: كيف نعيش ونبني معاً؟
في تلك اللحظة، كان التماسك العاطفي اللحظي هو القاسم المشترك بين الجميع؛ لحظة توحدت فيها مشاعر الخوف والنجاة، الفرح والحيرة، التوجس والجرأة. فالحاضرون، الناجون من عَهدَي الأسد، حملوا في ذاكرتهم عطشاً عميقاً للعمل العام، الذي بدا، ولأول مرة منذ عقود، ممكناً ومتاحاً. وبعد نقاش طويل، اتُّفق على اسم هذا المولود الجديد: «سوريون».
جاء بيان الإعلان كإجابة عن تساؤلات عدة: من نحن؟ وكيف نفكر؟ وماذا علينا أن نفعل؟
ما إن سقط النظام السوري، حتى بدأنا نطرح على أنفسنا سؤالاً تقليدياً، يتكرر كلما شعرنا بأن علينا أن نفعل شيئاً: هل يمكننا أن نبحث عن الآخر؟ هل نستطيع أن ننظر إلى بعضنا البعض ونحلم بوطن يُبنى على إرادة مشتركة وخيار مجتمعي؟ كان علينا أن نصدق هذا الحلم. لقد سقط النظام بعد أربع عشرة سنة من معاندةٍ إبادية، ومن قسوةٍ يصعب الخروج من غلوائها وآثارها. لكن اللحظات الأولى كانت لحظات احتفال، ثم تلتها الحيرة: ماذا نفعل الآن؟
كان علينا أن نبدأ من سؤال السياسة الأول، لا بالمعنى السائد عربياً حيث السياسة تعني السيطرة والحكم والتدبير السلطوي، بل بالمعنى الإنساني، الفردي، الذي يستند إلى فهم آخرَ للسياسة بوصفها شأناً عاماً يُبنى على التشاركية، والنقاش، والاعتراف بالآخر. ففي التقليد الإغريقي مثلاً، كانت السياسة تعني القدرة على العيش معاً في المدينة (Polis)، لا بوصفها منظومة حكم فقط بل كفضاء للتداول العام، للتعبير وخلق معنىً مشترك.
وقد واجهنا – نحن الجيل الأكبر سناً – ما يمكن تسميته بـ«القلق من الحرية»، وهو ليس قلقاً من القمع بل من التحرر نفسه، بوصفه مسؤولية لم نُدرَّب على حملها. فالحرية، بعد عقود من الاستبداد، بدت لنا مكشوفة، بلا دليل. ولهذا لم يكن بوسعنا أن نبدأ بالجواب، بل كان علينا أن نبدأ بالتأسيس عبر السؤال: كيف نعيش معاً؟ ماذا يعني أن نكون أحراراً بعد أن كنّا محكومين؟ من نحن، في غياب السلطة التي لطالما عرفتنا ضدها؟
كان سؤالنا هذا ليس فقط فعلاً سياسياً بل فعلاً وجودياً، لأن الجيل الذي خرج من الاستبداد لم يكن يملك أجوبة جاهزة، بل كان يسعى إلى إنتاجها. وهنا نشأت بذور السيادة القاعدية، حيث بدأ الناس العاديون، من الأحياء والقرى، من المثقفين والناشطين، يتشاركون إرادة التنظيم الذاتي، كأنهم يقولون: لا نريد حاكماً جديداً، بل نريد أن نكون نحن مصدر السيادة، ولو بشكل أولي، عبر الكلام والاجتماع والمحاولة.
المعية السياسية، في شكلها الأولي، هي أن نجتمع ونفكر:
لماذا نريد أن نعيش معاً؟
لماذا نرغب في خلق حياة جيدة؟
والأهم، هل نمتلك القدرة على أن نكون فاعلين فيها؟
أن نضع سؤالنا في حضن الآخر، كما نضعه في حضننا، لنفكر سوياً: كيف نريد أن نعيش معاً؟ وكيف نؤسس لبذور عقدٍ جديد لهذا العيش؟
من هنا، انطلق السوريون في مقاومة الاستلاب الذي فرضه النظام عليهم، محاولين الانخراط من جديد في ساحة سياسية، دون قمعٍ أو ترويع أو خوفٍ من مذبحة تتربص بهم. أرادوا أن يمدوا أيديهم وأقدامهم بثقة نحو الشارع، وكأنهم يملكون المكان، يملكون الكلمة، عبر هواتفهم وصفحاتهم الاجتماعية. قالوا: «هيا بنا نعمل، نفكر، ونحاول أن نبني…»؛ جمعية صغيرة، نواة أولى، تسأل الأسئلة الكبيرة عن العيش المأمول وشكله، كي ننخرط جميعاً، بإرادتنا، في مشروع لم يُفرَض علينا، بل اخترناه بأنفسنا، لأننا نبحث عن معنى يجمعنا، لا عن سلطة توحدنا بالقوة. وهنا، تتجسد أولى ملامح الديمقراطية التأسيسية؛ لا بوصفها نظام حكم جاهز، بل باعتبارها عملية بحث جماعي عن شكل الحياة المشتركة.
وفي هذه اللحظة، لا تمُارَس السيادة كحق احتكاري، بل كفعل جماعي نابع من الإرادة الشعبية، من تلك النواة التي تسأل وتُؤسِّسُ وتعيد تعريف السياسة باعتبارها المجال الذي نصنع فيه العالم معاً.
وهنا برز سؤال بسيط ومعقد في آن: من نحن؟
«سوريون»؛ جمعية وطنية تأسست بعد سقوط النظام مباشرة، اجتمع مؤسسوها ليضعوا لبنة أولى لتنظيم مدني سلمي، يعبر عن إرادة السوريين في صنع مستقبلهم. وجاء في بيان الإعلان، في إجابة على سؤال: «من نحن؟».
نحن «سوريون»، وطنيون، مدنيون.
مجموعة من المواطنين الأحرار المتعددي المشارب والأطياف كما سوريتهم وكما شعبهم يعتزون بأنهم جزء من النضال التراكمي للشعب السوري الذي تُوِّجَ بالانتصار التاريخي العظيم.
لم نكن ننظر إلى سقوط النظام كنهاية، بل كبداية لتحول جذري في بنية المجتمع والسياسة والفكر. نحن نؤمن بالتحول من الطائفة إلى المواطن، ومن بُنى الجماعة العضوية المغلقة إلى بُنى أكثر حرية وانفتاحاً، حيث لا يكون الانتماء قيداً، بل خياراً، ولا تكون الهوية سجناً، بل أفقاً مشتركاً.
وفي رسالتنا إلى الشعب السوري، دعونا كل من يمتلك الرغبة والطاقة والإمكانية للعمل معنا في سبيل تعزيز مجتمع حقوقي يبُنى على الحرية والكرامة والمساواة، لا على الامتيازات والعصبيات. وقلنا إننا نطمح إلى مجتمع ديمقراطي، عادل، متنوع ومزدهر، ينتفي فيه الاستبداد بكل أشكاله، وتعلو فيه الكرامة على الإخضاع، والمشاركة على الإقصاء.
نحن نؤمن أن البناء يبدأ من القاعدة، لا من السلطة في الأعلى، وأن التغيير المُستدام لا يصنعه القادة وحدهم، بل الجماعات القاعدية التي تنخرط بوعي في رسم مستقبلها. نحن نؤمن بالتحالف لا السيطرة، وبالعمل مع كل من يلتقي معنا حول هذه الأهداف، من قوى مُجتمعية ومنظمات مدنية وأفراد، لنواجه التحديات الراهنة والمحتملة، ونؤسس معاً لعقد جديد، حر، مدني، تعَدُّدي، يليق بسوريا ويعُيد لها شعبها.
الانتقال من الأقوال إلى الأفعال
في إطار ترجمة الأقوال إلى واقع فعلي، وانسجاماً مع التزامنا بتكريس السلم الأهلي التشاركي، عملت مجموعة «سوريون» على التواصل مع غرفة العمليات العسكرية، ووجهاء ومؤثرين محليين في قرى وأحياء شهدت توتراً وخوفاً بعد سقوط النظام.
جاء هذا التحرك كمحاولة لاختراق المجتمع المُثقل بالبُنى التسليحية المحلية، ولاستعادة المبادرة الأهلية من خلال لقاءات ميدانية هدفت إلى كسر الحواجز النفسية، وتعزيز خطاب عقلاني مباشر بين السكان وممثلي السلطة الجديدة. شكلت هذه اللقاءات مبادرات مدنية محمية سياسياً، تهدف إلى احتواء التوتر وتفادي الانزلاق نحو الانتقام أو الفوضى.
كانت اللقاءات الأولى في قرى قريبة من المدينة، تلتها لقاءات في أحياء ذات أغلبية طائفية حساسة، وشهدت كلها مشاركة واسعة، وحوارات مفتوحة حول الهواجس الأمنية والأوضاع الاقتصادية والخدمات الأساسية.
كان الهدف الأساسي بناء الثقة، واستعادة الإحساس بقدرة المجتمع على التفاوض بديلاً عن القتال. وقد أظهرت هذه اللقاءات بداية فعلية لتمكين بُنى الوساطة المحلية، عبر الاعتراف بأدوار وجهاء ومؤثرين اجتماعيين، كجزء من حوكمة انتقالية غير رسمية تُعيد تشكيل العلاقة بين المجتمع والدولة على أساس المشاركة لا الخضوع.
ورغم الارتياح اللحظي الذي نتج عن هذه اللقاءات، ظل القلق حاضراً، فقد كانت الثقة هشة نتيجة غياب قدرة السلطة الأمنية على الإيفاء بالتزاماتها، وعجزها عن ضمان الحد الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
تفاقمت الأزمات اليومية: تراجعت الكهرباء إلى حدود دنيا، غابت الرقابة، وانتشر الاقتصاد العشوائي في الفضاء العام في ظل غياب التنظيم والإدارة. وبدا المشهد المديني في حالة تفَكُّك تنعكسُ في شكل اضطراب يومي، يغُذيه انهيار الدولة وظهور بدائل عشوائية لإدارة الحياة. كانت بعض القوى تسعى إلى توظيف هذا الاضطراب الاجتماعي لفرض أمر واقع جديد يخدم مصالحها، فيما لم يكن غياب الدولة فراغاً إدارياً فحسب، بل دعوة مفتوحة للفوضى لمن يعرف كيف يديرها.
في السادس من آذار كانت شرارة ما بات يُعرف بـ «مجازر الساحل»، أو «أحداث الساحل» كتسمية مخففة يستخدمها من يريد أن يتجنب الحكم القيمي الذي تضمنته التسمية الأولى. تحركت مجموعات مسلحة منظمة، كان يُهمَس بشأنها في السر قبل الحدث، لكنها لم تُؤخَذ بجدية حتى من قبل الأجهزة الأمنية التي أصابها غرور النصر السهل بعد دخول أربع مدن في يوم واحد.
حاولت المجموعات السيطرة على مقرات السلطة الجديدة في مناطق تحركها، وكان الهدف كما تَردَّدَ هو فرض أمر واقع ميداني خلال 48 ساعة، تمهيداً لتدخل دولي وفرض حماية على ما سُمي «المنطقة الآمنة». لكن ما حدث لم يكن سوى بداية لكارثة شاملة. اندفعت أرتال من المسلحين نحو الساحل استجابة لنداء «حي على الجهاد»، وبدا كأنَّ هذا النداء أيقظَ كل ما لم يُعالجَ من الذاكرة السورية: ثارات قديمة، جراح لم تُفتحَ يوماً للنقاش أو العدالة أو المكاشفة. كانت البلاد بلا إطار حقوقي، بلا سردية جامعة، بلا ضمانات، ففتحت ذاكرة العنف أبوابها على مصراعيها، ودخلنا مجدداً في نفق الدم بدل طريق العدل.
ارتُكبت أكثر من خمسٍ وعشرين مجزرة في ثلاثة أيام فقط. في حي القصور في بانياس، وفي ريفها من الحطانية إلى تعنيتا وبارمايا، وفي ريف اللاذقية من القبو والصنوبر والشير إلى الشلفاطية والمختارية. لم تكن الجرائم موجهة لأشخاص، بل ضد جماعات كاملة. القتل لم يكن خطأً عشوائياً، بل كان قراراً بإعادة تشكيل السيطرة، وردع البيئات الخارجة عن الاصطفاف.
زوجتي، التي مارست المحاماة أكثر من ثلاثين عاماً، باتت ترى بأم عينها نتائج ما جرى ويجري: كيف يتم استبعاد النساء من الشأن العام، كيف يتحول «النظام الجديد» إلى مُركَّب طائفي تُنصَح فيه المحاميات العلويات بتربية الدجاج في بيوتهن بدلاً من المطالبة بالعدالة. وكانت عائلتي، عائلة المعتقل السياسي الذي قضى أحد عشر عاماً في سجون الطاغية، تتناهبها الوساوس بأن ما جرى ويجري لا يبشر بخير، بل بات يبشر بأسوأ مما مضى. صارَ ابني يخاف الذهاب إلى الجامعة، يخاف مغادرة البيت، وكلما حاولتُ طمأنته بأن القادم أفضل، بأن الجيل الجديد سيتعلم من أخطاء من سبق، كانت الأخبار اليومية تفند ذلك، وتؤكد أن الهجرة لم تعد خياراً بل طريق نجاة.
لقد صار ابني صورة حية للحياة المُؤجَّلة، ليس لأنه لا يملك طموحاً، بل لأنه يخشى البدء من الأساس. صار يحمل في عينيه رُهاب البقاء، لا الرحيل، كأن النجاة نفسها صارت عبئاً لا يُحتمل. لم يعد يرى مستقبله في هذا المكان، ولم أعد أعرف ما الذي يمكنني نقله إليه سوى الحذر أو العزلة. وكم هو مؤلمٌ أن أرى رعبه اليوم مختلفاً عن رعبي أنا حين كنت في السجن: كنتُ أخاف من الموت كفعل مباشر واضح له وجه وسجان وجدران، أما هو فقد بات يخاف من الحياة بوصفها موتاً مُؤجَّلاً. أنا كنتُ أعرف عدوي، أما هو، فعدوه بلا وجه، متشظٍ، يتربص به في كل تفصيل: في الشارع، في الجامعة، في البيت، في اللغة.
مع كل يوم جديد، راحت تتآكل قدرتي على الإقناع. الزوجة بلا عمل ولا أفق، والابن غارقٌ في صمت كثيف، وأنا، في عقدي السابع، أستيقظ كل صباح على شعور الفقد. لم يعد مستقبلي مهماً، فقد بقي ورائي.
لكن مستقبل ولدي صار على المحك، وربما يحتاج مكاناً آخر غير هذا. لكني لا أريد مغادرة البلاد، لا أملك مكاناً أشتاق إليه سواها. أمكنتي هنا تتنفس، تتكلم، تفوح منها الأزمنة. الجدران هنا ليست حجارة بل ذاكرة، والشوارع ليست طرقاً بل بقايا خطوات أحبتي، وأنا لست في مدينة، بل في صدفةٍ زمنية تُحاول أن تصمد.
من أين لي أن أبدأ من جديد؟ كيف أعيدُ تكوين نفسي بعد كل هذا التأجيل؟ كيف أجد لنفسي بيتاً داخلياً وأنا من ظلَّ يكدس حياته المُؤجَّلة فوق بعضها، يأمل أن يُعوضَ عن سنوات القهر، فإذا بالزمن يصفعه مجدداً وهو يهم بالنهوض؟
عادت صور الرفاق الذين غابوا قبل هذا الانهيار، أولئك الذين حزنت على رحيلهم لأنهم لم يشهدوا «يوم السقوط»، بتُّ حائراً هل أحزن على غيابهم عن لحظة السقوط أم أغبطهم لأنهم لم يروا ما تلاها. لقد فُجِّرت الذاكرة بدل معالجتها، واستُخدمت المجازر لا كحدث عَرَضي بل كأداة لبناء توازن جديد عبر الألم، وكأنّ القوة وحدها هي ما يؤسس للسلطة؛ لا القانون ولا العقد ولا العدالة.
ورغم مرور الشهور، ما زال القلق هو سيد الموقف. لجان التحقيق والسلم الأهلي لا تُقنع أحداً، أعمال الخطف والاغتيالات مستمرة، والسلطة تكرر أخطاءها: من تصريحات غير مسؤولة إلى تعيين رجال دين في القضاء والتعليم والإعلام. لا يوجد انتقال، لا يوجد عقد اجتماعي، بل هناك تسلل ناعم لصورة جديدة من القمع، أقل صخباً لكنها أكثر نَخراً في المعنى.
لقد اكتشفنا أن الحرية لا تكفي وحدها. أن السقوط لا يعني الخلاص. بل هو في كثير من الأحيان بداية مرحلة أخرى، تتطلب وعياً أكبر، لا انتقاماً أعمى. سلطة اليوم تمنحنا حرية سلبية وفق ما يُعرِّفها إسحاق برلين: «افعل ما شئت ما دمت لا تغير شيئاً ولا تؤثر بشيء». هذا ليس انعتاقاً، بل خديعة. صرنا نكتشف أن جلادينا السابقين يُستنَسَخون، لا في أشكالهم بل في آلياتهم وممارساتهم وسكوتهم عن الجرائم.
لم يعد السؤال إذن: هل سقط النظام؟ بل: ما الذي بُني فوق هذا السقوط؟ وأي معنى للحرية إذا كانت تؤدي إلى عزلة، إلى خراب داخلي، إلى شتات، إلى رُهاب في أعين أبنائنا؟
لسنا ننشدُ انتصاراً، بل نبحثُ عن معنىً لا يقتُلنا تِردادُه، ونتلمّسُ جرحاً ما زال عاجزاً عن التحوّل إلى فمٍ أو ذاكرةٍ ترحمهُ، ولا يجد عدالةً تحملهُ إلى النور.
هذا المقال جزء من سلسلة نصوص يُراجع فيها كاتبون وكاتبات سوريون-ات تفاعلهم-ن الشخصي مع سقوط نظام بشار الأسد مع مرور ستة أشهر على الحدث الأكبر، وما يمكن أن يُروى عن بهجات وهواجس وغصّات وتطلّعات صاحبت التغيّر الكبير؛ وأفكارهم-ن عن سؤال الموقع إزاء القوى النافذة الجديدة؛ وكيف أثّر السقوط/التحرير على معتاد حياتهم-ن وخططهم-ن المستقبلية.
مقالات مشابهة