أطال جاسم الوقوف هذه المرة أمام محل الدراجات نهاية شارع البازار ، كان ينتقل بعينيه من دراجة الى اخرى
: هذه تناسبني، .. هذه بالضبط .. والدي لا يستطيع شراءها لي ، لكنها جميلة ، جميلة وجديدة والصيف طويل ، لو كانت لي لأضفت لها زينة .. أعلاما وزمورا وشرائط ملونه … وعلى مقعدها الخلفي سيجلس أخي الصغير سأقودها في ساحة العيد ، . لو كانت لي لنظفتها كل يوم …لو…
مع ألم وحسرة دفينين لم يعرف الفتى كم من الوقت مضى أمام المحل حين رأى صاحب المحل يسحبه من يده إلى الداخل :
تعال .. تعال اغسل وجهك بالماء .. إنك ترعف .. لقد امتلأ قميصك بالدم ، في اي صف انت ؟
قال جاسم : انا نجحت الى. الصف السادس ،
مسح جاسم انفه بقفا يده فتصبغت بالدم ، كانت كمية الدم كثيرة ، كان مرتبكا خائفا ، جلس على كرسي ورفع رأسه الى الخلف كما نصحه صاحب المحل ، وأغلق فتحتي أنفه بإصبعيه حتى انقطع نزيف الدم ، ثم قام قاصدا بيته البعيد في طرف المدينه ،
لم تكن هي المرة الوحيدة التي ينزف فيها جاسم
فحين شاهد إمرأة فظة غليظة القلب تسحب طفلا صغيرا بيده وتضربه بعنف على رأسه ووجهه والطفل يبكي بحرقة ولوعه ويقع على الارض فتجره من يده وتسحل جسمه على الاسفلت خلفها ولا تأبه لنظرات المارة وعطفهم على الصغير ، عندها تسمر جاسم في مكانه وحدق في منظر الطفل الذي بدأت امه تركله بقدمها ليقف ويمشي .عندها بدأ الدم يتدفق من انف جاسم كأن الدم نافورة حمراء اللون قانية تسيل على فم ورقبة جاسم ثم على قميصه ، وجاسم لا يعرف ما حل به الا حين حمله شاب الى جوار حائط وبدأ بالضغط على أنف جاسم ومسح بمنديل معه الدم عن وجه جاسم وفمه ورقبته الى ان انقطع النزيف حينها رجع الى البيت معتمدا على نفسه
……
تواترت حالات الرعاف عند جاسم ، إذا عاقبه والده احتقن ونزف … إذا وقع ولد عن دراجته وكسرت يده رعف جاسم ونزف … وأثناء سيره مرة في الصباح الى المدرسة رأى رجالا قرب حائط الجامع يشيرون الى كتلة صغيرة قرب الباب الخارجي ، أخذ الفضول جاسم الى الاقتراب من الشيء المشار اليه فرأى طفلة رضيعة ملفوفة وقد بات وجهها أصفراللون ، لقد كانت الطفلة ميتة ، كان الرجال يلغطون في الكلام ويتمتمون بكلام أغلبه غير مفهوم ، تركز نظر جاسم على وجه الموت الواضح فاحتقن وجهه ثم نزف غزيرا من انفه وعاد الى البيت ملطخا وجهه وثيابه بالمزيد من الدماء .
اخذوا جاسم الى المشفى ، هناك قال الطبيب : هذه رابع حالة رعاف شديدة هذا الشهر ، وتمتم :
إنها أوردة دقيقة وشعيرات دموية لا يمكن اغلاقها ، احد اسباب الرعاف هي عوامل نفسية .
لم تعد مجدية زيارة المشفى بعد كل رعاف يصيب جاسم ، صار يمشي وقد اغلق منخريه بالقطن المضغوط ١، بل إن المشفى أكد بأن الرعاف أصبح منتشرا بكثرة ولا معنى للجهود التي تعالج هذه الحالات وان انتشار الرعاف ليس بسبب خلل وظيفي للأنوف .
ضاق الناس ذرعا ، وانتاب القلق الجميع ، اصبح المرض هما ثقيلا وبات واضحا أن الرعاف يشمل أيضا مدنا وبلدات كثيرة وعلى من يهمه الامر إيجاد حل لما تظهره هذا الاوضاع .
بعد أخذ ورد وجدل واجتماعات وتأويل أمتد لسنوات صدر من الحاكم الفرمان التالي
: يتم وبالقوة جمع المصابين بالنزف الرعافي من كل البلدات والقرى واحتجازهم في بناء مخصص لهم شمال العاصمة .. شمال العاصمة بالضبط .
أما جاسم الذي أصبح شابا فقد هرب ولم يرضخ للفرمان ، لكنه مازال يرعف وما زال الحاكم يصدر بحق الراعفين الذين يتكاثرون فرمانات جديدة ، وبناء مخيمات تحتجزهم في كل بلدة ومدينة
…….
الفرمان* : هو القانون الذي يصدره السلطان