إن أكثر ما أدهشني منذ أن بدأت وظيفتي في قيادة المساعدات الخارجية للصحة العالمية بالوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) هو عدد حالات الطوارئ التي تضمنها عملي. ويركز المكتب الذي أُشرف عليه على تقليل العبء العالمي للوفيات ومعدل انتشار الأمراض وحماية الولايات المتحدة من التهديدات الصحية المقبلة من الخارج، ومن المفترض أن يخدم عملنا أهدافاً بعيدة المدى في المقام الأول، على سبيل المثال، القضاء على شلل الأطفال (بعد 35 عاماً من الجهد، لم يعد هناك سوى عدد قليل من الحالات الشديدة في العالم) وإنهاء التهديد الذي يشكله فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) والملاريا والسل على الصحة العامة بحلول عام 2030، ولكن منذ اللحظة التي بدأت فيها عملي، أدت المشاكل الأكثر إلحاحاً إلى تحويل الوقت والاهتمام والموارد بعيداً عن هذه الأهداف. ففي يناير (كانون الثاني) من عام 2022، عندما بدأت في العمل بهذا المنصب، كان وباء «كوفيد – 19» بطبيعة الحال هو الأولوية القصوى، ثم في أواخر فبراير (شباط) من العام نفسه، فجأة باتت هناك حرب أوكرانيا، إذ أدى الغزو الروسي لكييف إلى قطع الإمدادات الصيدلانية، والهجوم على المستشفيات والأنظمة التي يتم الاعتماد عليها هناك، فضلاً عن تفشي الأمراض بين النازحين، وهو ما عرّض حياة الناس للخطر أكثر مما تفعله الأسلحة الروسية، فعلى سبيل المثال، تعرض أكثر من 100 ألف أوكراني مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) للتهديد بفقدان القدرة على الوصول إلى الأدوية المضادة للفيروسات المنقذة للحياة التي يحتاجون إليها، ولذا كان علينا أن نتحرك بسرعة لمساعدة كييف في حل مشكلة كيفية الحفاظ على عمل الصيدليات والعيادات والمستشفيات وقدرات الصحة العامة.
وفي الشهر نفسه، ظهرت حالة شلل أطفال من النوع الشديد في ملاوي، وهي ما كانت انتكاسة كبيرة بعد أكثر من خمس سنوات من عدم وجود حالة موثقة مصابة بهذا المرض في أفريقيا، وعلى مدى الأشهر التالية، واجهنا تفشي وباء الكوليرا القاتل في أكثر من عشرين دولة، وكذلك انتشار مرض الجدري (المعروف سابقاً باسم جدري القرود) على مستوى العالم، وتفشي مرض فيروس ماربورغ في غانا، وهو مرض مميت شبيه بـ«إيبولا».
وبحلول منتصف عام 2022، أدت موجات العنف السياسي والكوارث المناخية إلى نزوح أكثر من 100 مليون شخص قسراً، وهو أكبر عدد في التاريخ المسجل، مما أدى إلى زيادة معدلات الإصابة بالأمراض والوفاة بسبب الازدحام، وظروف الحياة غير الصحية، وسوء التغذية، وفقدان الخدمات الصحية الأساسية.
وفي شهر مايو (أيار) الماضي، أبلغت منظمة الصحة العالمية عن ما مجموعه 56 حالة طوارئ صحية عالمية نشطة، وهو الوضع الذي وصفه رئيس برنامج الطوارئ الصحية التابع لمنظمة الصحة العالمية مايك رايان، بأنه «غير مسبوق».
وقد أصبح النمط السائد الآن يتمثل في ظهور حالة طوارئ تلو الأخرى، وغالباً ما تكون هذه الحالات متداخلة، مما يحول التركيز بعيداً عن أهداف الصحة العامة الأطول أجلاً، وليس هناك ما يشير إلى حدوث تراجع في عدد حالات الطوارئ هذه، كما أدى النزوح وأنشطة مثل إزالة الغابات إلى زيادة الاتصال بين البشر والحياة البرية، وبالتالي انتقال الأمراض الحيوانية إلى البشر (على سبيل المثال، تم ربط فيروس الإيبولا بالخفافيش كمصدر محتمل للانتشار).
كما يشكل خطر وقوع حوادث داخل المختبرات تتسبب في تفشي الأمراض مصدر قلق كبيراً في ظل انتشار المعامل وتراجع تدابير السلامة فيها، فقد تم الإبلاغ عن أكثر من 80 حالة عدوى مكتسبة من المعامل سنوياً في المتوسط بالفترة بين عامي 1979 و2015، وكثير منها ينطوي على انتقال العدوى إلى عدة أشخاص بعيداً عن هؤلاء الذين يصابون بالمرض في البداية، كما أن هناك نقصاً في معدل الإبلاغ عن هذه الحالات.
وعلى الرغم من أن تنامي مجال علم الفيروسات الاصطناعية قد أدى إلى إنتاج علاجات جديدة منقذة للحياة (لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال، على سبيل المثال)، فإنه في الوقت نفسه جعل من الأسهل على الجهات الفاعلة السيئة تحويل الأمراض المعدية إلى أسلحة دمار شامل.
ولكن يمكننا إيقاف هذا النمط، فالاستثمار الأطول مدى في الاستعدادات المحلية لمثل هذه الأحداث، والمتمثل في بناء ما يمكن وصفه بـ«نظام مناعة عالمي»، من الممكن أن يقلل من التهديد الذي تشكله هذه الأزمات، بل وحتى يقلل من الاعتماد على المساعدات الخارجية اللازمة للتغلب عليها.
فمع ارتفاع مستويات المخاطر، تزداد قدرتنا على تجاوزها، وبالاستعانة بالاستراتيجيات الصحيحة، يمكننا استخدام هذه الحوادث المؤسفة والصدمات التي نواجهها لتعزيز قدرتنا على التكيف مع هذه الأزمات، والأمر لا يتعلق بتطوير المرونة (القدرة على التعافي من الأزمات) أو القوة (القدرة على مقاومة الأزمات)، بل يتعلق بتطوير ما سماه الكاتب نسيم نيكولاس طالب «مكافحة الضعف» أو القدرة على أن نصبح أقوى بعد الأزمة.
ويقدم جهاز المناعة في أجسامنا مثالاً على ذلك: فهو يكتشف مسببات الأمراض ويبطل مفعولها بسرعة قبل أن تسبب أضراراً كارثية، في حين يصبح أقوى مع كل مرة يتعرض لها، وعلى نحو مماثل، سيتمكن نظام المناعة العالمي هذا من اكتشاف التهديدات الصحية وتحييدها بسرعة قبل أن تلحق أضراراً كارثية بالعالم، في حين أنه سيتطور ويتعزز مع كل مرة يمر بها بأزمة.
ومن المؤكد أن خط الدفاع الأول ضد الخطر هو الوقاية، وقد تم تكليف الكثيرين في الحكومة الأميركية بالفعل بهذه المهمة، فنحن نعمل مع منظمة الصحة العالمية والدول الشريكة لرفع مستوى معايير سلامة وأمن المختبرات، وكذلك دعم البحوث لتطوير لقاحات ضد الأمراض الوبائية المحتملة، والعمل على منع الجهات الفاعلة السيئة من تطوير أو نشر الأسلحة البيولوجية.
ولكن الوقاية ليست كافية أبداً، بل يجب بناء نظام مناعة عالمي من أجل السرعة؛ السرعة في اكتشاف أن نمط المرض قد يكون غير عادي وخطيراً، والسرعة في التشخيص والسرعة في تنبيه مسؤولي الصحة العامة وتتبع مسار الإصابة، والسرعة في إيصال العلاج إلى المرضى والإجراءات الوقائية إلى منبع التهديد.
إن بناء مثل هذا النظام سيكون أمراً صعباً، إذ يواجه كثير من المجتمعات عوائق هائلة أمام الوصول إلى هذه السرعة، وذلك بسبب بُعد المسافات أو الفقر أو الحروب الأهلية أو عدم كفاية قدرات الرعاية الصحية، وقد كانت كل هذه العوائق حاضرة في ديسمبر (كانون الأول) 2013، عندما ظهر مرض غامض يتميز بإصابة المرضى بارتفاع درجة الحرارة والإسهال الشديد والقيء وارتفاع معدل الوفيات في دولة غينيا الواقعة بغرب أفريقيا، إذ انتشر المرض لمدة ثلاثة أشهر قبل إجراء التشخيص الصحيح والإعلان رسمياً عن تفشي فيروس «إيبولا»، وفي ذلك الوقت، تم تسجيل 49 حالة فقط، ولكن الأمر استغرق عدة أشهر لحشد الرد المناسب.
وانتشر فيروس «إيبولا» في جميع أنحاء المنطقة، وذلك من خلال التعرض البسيط لسوائل جسم المرضى (بما في ذلك العرق)، ومع استنفاد المرض للقدرات المحلية ووفاة العاملين الصحيين، توقفت الخدمات الصحية الروتينية عن العمل وأُغلقت الشركات والمدارس وتوقفت عجلة الاقتصاد تماماً. وسرعان ما وصل المرض إلى إيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، إذ أصاب مسافر إلى دالاس، بالولايات المتحدة، ممرضتين وتوفي بعد ذلك، واستغرق إنهاء حالة الطوارئ هذه أكثر من عامين وتطلب استجابة إنسانية عالمية ضخمة، وبحلول ذلك الوقت، تم تسجيل 28652 حالة إصابة و11325 حالة وفاة. وقد دفعت تلك الكارثة المؤلمة إلى اتخاذ إجراءات أفضل، حيث أطلقت الولايات المتحدة شراكة مع دول غرب ووسط أفريقيا لبناء استعداد أكبر لتفشي الأمراض، وانضمت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ومراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها إلى منظمة الصحة العالمية وآخرين لتحديث المعدات في المختبرات المحلية، وتدريب العاملين الصحيين في الخطوط الأمامية على التعرف على العدوى المحتملة، فقد عملنا مع المسؤولين الحكوميين لإنشاء مراكز للاستجابة للطوارئ وزيادة خبراتهم في مجال الصحة العامة، ودعمنا تثقيف قادة المجتمع والقادة الدينيين حول المخاطر المعدية وكيفية السيطرة عليها، وتم بناء الأساس لنظام المناعة الإقليمي الأسرع. في البداية، كان من الصعب رؤية مدى تأثير ما قمنا به، ففي تفشي عام 2018 بجمهورية الكونغو الديمقراطية، انتشر فيروس «إيبولا» لمدة ثلاثة أشهر قبل أن يتم التعرف عليه، وصحيح أن رد فعل الكونغو وجيرانها كان أفضل تنظيماً، لكنهم ظلوا يعانون من فجوات وتأخيرات كبيرة، وصحيح أنه تم احتواء المرض إلى حد كبير في بلد المنشأ، ولكن الأمر استغرق عامين وجهود مساعدة عالمية ضخمة لإنهاء تفشي المرض، كما كانت حالات الإصابة (3470) والوفيات (2287) أقل مما كانت عليه في تفشي المرض الذي بدأ بغينيا في عام 2013، لكن الأعداد كانت لا تزال مرتفعة.
ومع نمو القدرات والخبرات، تغير الوضع، ففي عام 2020، عانت جمهورية الكونغو الديمقراطية تفشياً آخر لـ«إيبولا»، ولكن هذه المرة استغرق الأمر من الأطباء المحليين 15 يوماً فقط للتعرف على الفيروس، واستجابت السلطات الحكومية بسرعة وفاعلية، مما حال دون انتشار المرض خارج المنطقة الشرقية من البلاد، وبدلاً من آلاف القتلى، كانت هناك 55 حالة وفاة.
وتشير تجربة «إيبولا» في أفريقيا إلى أن إنشاء نظام مناعة عالمي فعال أمر ممكن، ولكن بناءه يتطلب التزاماً جماعياً مستداماً بالاستثمار في البشر والقدرات اللازمة في الخطوط الأمامية للرعاية بجميع أنحاء العالم.
وعلى الرغم من انقساماتنا السياسية والجغرافية، فإن الجنس البشري استطاع تحقيق بداية قوية بالفعل، ففي العام الماضي، التزمت مجموعة الدول الصناعية السبع بدعم 100 دولة لم تكن تستوفي المعايير الدولية للاستعداد لمواجهة التهديدات البيولوجية، وفي ظل استراتيجية الدفاع البيولوجي، تتابع حكومة الولايات المتحدة تنفيذ هذا الالتزام من خلال دعم أكثر من 50 دولة من هذه الدول، ومنذ اليوم الأول لتوليه السلطة، عملت إدارة بايدن مع قادة آخرين، والبنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية لإنشاء صندوق الأوبئة، الذي جمع ما يقرب من ملياري دولار من 25 دولة ومؤسسة خيرية، وفي الصيف الماضي، قدم الصندوق منحه الأولى إلى 37 دولة للتأهب لمواجهة الأوبئة، واستمر هذا الدعم بعد تراجع حالة الطوارئ الناجمة عن فيروس كورونا.
ولكن ما زالت أمامنا طريق طويلة بلا شك، إذ تستمر الكوارث الصحية في الظهور، وقد بدأنا نرى ما يمكن أن تفعله سرعة نظام المناعة العالمي هذا، ففي أبريل (نيسان) من عام 2022، تم إخطاري بتفشٍ جديد لـ«إيبولا» بجمهورية الكونغو الديمقراطية، في مدينة يبلغ عدد سكانها مليون نسمة وتقع على نهر الكونغو، إذ وصل رجل يبلغ من العمر 31 عاماً يعاني من الحمى لمدة أسبوع، إلى العيادة وتوفي بعد فترة وجيزة، ولكن المسؤول الطبي المناوب حينها كان قد حصل على التدريبات الكافية للتعرف على العلامات المحتملة لـ«إيبولا»، كما بات لدى الفريق الطبي المعدات اللازمة لحماية أنفسهم، بالإضافة إلى معدات الاختبار المناسبة، ولذا فقد قاموا بالتشخيص وأبلغوا سلطات الصحة العامة الوطنية بالأمر بعد ظهر ذلك اليوم. إن الاستجابة التي كانت تستغرق في السابق سنوات وتكلف مئات الملايين من الدولارات، أصبحت الآن تستغرق مجرد أيام وبتكلفة بسيطة، وهذا هو ما تبدو عليه فكرة «مكافحة الضعف»، ففريقي لم يكن لديه أي شيء للقيام به في حالة الكونغو الأخيرة هذه، كما لم تكن البلاد بحاجة إلى أي مساعدة طارئة على الإطلاق.
* خدمة «نيويورك تايمز»