
لطالما نزفتْ همسات تلك الرحلة:
ربما نصعد دراجة عبور
أتى الظمأ راكضاً على عقبيه
تجري العادة للعائدين الى سجن تدمر، بالقول: مُعاد؛ يعني لا استقبال ولا تشريفة.
كان معنا الأربعة الجدد. شملهم “العفو”، إلا بضعة “لكمات”، بضعة “كفوف”.
وهم يفتشون “بقجاتنا”. وجدوا بالصدفة مع (عماد) مائة ليرة، كتب عليها “خربشات” حروف:
قامت الدنيا وما “قعدتْ”، على ضرب وخبط، رغم أنه معاد. أتى المساعد والرقباء واجتمعوا، لم يصلوا إلى نتيجة؟
تركهم “المساعد” وذهب ل “المعلم”: سيدي في حدا من السجناء “المعَادين”، معه مئة ليرة وعليها “كتابة؟
عليكم “بجلده” حتى يقرْ ويعترف..استدرك “المعلم” هذا “اللغط”:
مساعد ارجع وجيبو لعندي..بدون “خبط” سيدي؟
أي ما في داعي.
أتى المساعد ومعه (عماد). الرقباء يترقبون “غبار الطلع”!!
شو قصتكَ ولك “فدان”؟
مافي كتابة ولا شي، يمكن بنت أختي الصغيرة “مخربشة” عليها بالقلم؛ أخته أتتْ في آخر زيارة قبل “الترحيل”.
مسكها بيده “المعلم” ودققها من كل كل الجهات، والعناوين والرسوم وبقايا “غدرات الزمن”؟
ما طلع معه شي..أمره للمساعد بارجاعه الينا..
خلي “الرقباء” ياخدوه. تعال لعندي، و “كف” من كعب الدست: بضلك “حمار” ما انتبهت انو ماعليها اي كلام..عملتلي “جرصة”.
روح “انقبر”..
علي وعادل أخذوهما إلى مهجع فتحوه جديد اسمه مهجع “الحمام”؛ قديما كان عبارة عن مجموعة “حمامات”، يفصل بينها جدار صغير: إذا حبيت “تتلصص” على عري زميلك فيك تشوفو، لكن “الشرطة” لكَ بالمرصاد، ويدوب تلحق تفرك راسك وجسمك بقليل من نترات الصابون و” بق مي”..خلاص ناعماً!!
نحن السبعة الباقون: إلى مهجع “المستوصف” حيث الأكثرية. ستين أصبحنا: لكل شخص 48 سنتيمتر..
المستوصف في زمن غابر، يروي الحكواتي أنه كان مركز صحي، ربما أيام الانتداب الفرنسي، وبهمة الازدحام حُوّل الى مهجع مستقل، ومعه باحة صغيرة.
-لم ألتقِ علي وعادل الا بالزيارة، ثم يوم نُقلنا بعد ستة أشهر إلى سجن صيدنايا “المدلل”-
دخلنا المستوصف على أهبة استقبال الرفاق لنا: سلامات حميمية وبوس من كعب الدست؛ كان لنا سنتين ونصف وحبة مسك على الفراق.
لجنة المهجع وزعتنا حسب المتاح من المكان: المستوصف فيه غرفة الشراقة “فتحة الله على الأرض”.
يليها ممر صغير فيه عصام أبو حمدان: تفرغَ عصام لرياضة العضلات، يشرب كل يوم ماتبقى من “مربّى الفطور” شي سطل، يضيف من ماء “زمزم تدمر”، يحركها حتى تصبح سائلا بلون ورائحة..طاقة يكرر لمن يراه..
لا أحد يقترب منه، ما بيحب المزح بنوب. هو حر؛ كان هناك إجماع من المهجع بكل تلاوينه، أن يستوعبوا حالته. عليكَ أن تتجنبه بالحق والباطل.
على اليمين غرفة صغيرة وكنت هنا. تمشي خطوة نحو اليسار، يستقبلكَ المطبخ بطناجره وبوابيره: يتعانقان في المساء، بعد أن يكون قد أرخى النهار “فجوره”!
الى الصدر قبل المنتهى “صالون ” مربع ويميل “للمعين”.
المنتهى غرفة صغيرة تنأى بالضجيج عن نفسها.
وعند أعالي المطبخ “سقيفة” أبو شادي خليفة وأبو شريف، ثم “حلب” ثالثهما.
وضعوني بالغرفة الصغيرة، كنا ستة؛ لايمكنها أن تتسع أكثر من عددنا: جفان، أبو صالح، إحسان، أيمن، قيس، أنا.
وضعتُ “بقجتي” كي أستريح: يأتيني أصلان (أبو سامر) مستعجل -كما طبيعته- حابب أحكي معك، تعال نمشي بالباحة.
مشينا بضعة خطوات: شو صار معكم بالفرع؛ يقصد خلافاتنا بين بعضنا، كمجموعة تاركين؟
-كان المقصود من سؤاله أحمد وأنا وعلي، إنما علي الآن بمهجع الحمام، و أحمد ع بضبضب عازله-
ماصار شي، تركنا المجموعة، ونحن الآن مستقلون. “على باب الله”.
ضحكَ. ثم تابع:
يعني ما فكرتوا ترجعوا للحزب؟
“تسرحْ وتمرحْ عيني” -شخص بذكائه فهمَ الرسالة– احكِ جد؟
الحقيقة يا أبو سامر، المسألة أعقد من العودة أو اللا. نحن نسير بمنحى آخر يبتعد عن السياسة، خاصة الايديولوجيا، تحصيل حاصل، لن نعود لاي عمل حزبي، فسحة الحرية أوسع بكثير من المساطر المسبقة.
حَسنٌ بالفصحى المعتقة..
سلام، سلام..
“وكفى الله المؤمنين القتال”!
عدتُ الى “مخدعي”، أحكي وأحكي مع إحسان وجفان وأبو صالح.
إحسان تعرفت عليه في مؤتمر الحزب آب 81. ثم التقينا بفرع التحقيق بضعة أشهر. عام 84.
إحسان سيكشل حالة خاصة للجميع: يموت في زنزانته وحيدا في سجن صيدنايا بعد أقل من شهرين من وصولنا الى هناك..
يأتي غياث صديقي العتيق ايام “سفر تدمر” من 83- 84 قبل الترحيل إلى الفرع .
ألمحُ طلال يوزع المهام؛ أحد الناشطين من لجنة المهجع.
اقترب مني وبضعة كلمات مقتضبة بين “الهمز واللمز”؛ كنت على انتظار أن يكون اللقاء معه الأكثر حميمية، حيث المهجع الرابع والرابع عشر في فرع التحقيق، مليئة بالأحاديث بما فيها “الوجدانيات”.
غاب عني الشعور بالزمن؛ أفترض أننا لن نتغير بين سنتين وضحاها؟!
// ذهبت ريم لزيارة نصار في تشرين الثاني 83. لم تخبره عنها وعني، قالت له: بضعة إيحاءات. خذ ساعتي بدلا من ساعتك الضائعة..
خليها ذكرى؛ يبدو أنها “فلتتْ” الكلمة؟ هفوة لسان.
سألها عني: هشام قلق، لديه إحساس أن عبير تبتعد، ربما تصل لمكان آخر؟
غمغمتْ تقول ريم: بتعرف الظروف صعبة علينا كلنا، الحياة لاترحم، معها العمر يمضي..
-وصلتْ الرسالة لنصار-
كان هشام ينتظرني، يراقب حركات جفوني، يعرفني أكثر مما أعرف نفسي:
يا هشام قلت له: دعنا نفكر بحالنا هنا بين هذه “البطون والصدور” من الكتب، لعلها تجعل “فتحات الشبابيك”، على مرمى من الانتظار.
يسألني: هل أعطيتها هدايانا من “عرايا الزيتون”؟
عدتُ بها، هي معي، انظر؛ عندما “غمغمتْ” عنك وعني، نسيتُ لساني يتكلم. تخيل أنها لم تنتبه أنّ معي “كومة” هدايا؛ ربما انتبهت لكنها تريد القول حاولا النسيان.
بعد زيارة ريم، قررتُ رفع دعوى طلاق -بالاتفاق مع بلال- حكى المحامي الذي كلفته:
سيتم تبليغه في السجن ثلاث مرات وعند عدم الرد، يتم تبليغ أهله. ثم الإجراءات الروتينية بنشرها في الجريدة الرسمية، بعد خمسة عشر يوما يصدر القاضي الحكم بالطلاق، كونه في جهة مجهولة و “لا يصد ولايرد”.
علينا انتظار “العدة” وهكذا بعد ثلاثة شهور، تزوجنا، أقمنا حفلة صغيرة جدا، حضرت ريم، قالت: سأتبع نفس الروتين.!
تمشي الحياة على خطاها، نتخرج ونعمل ونفتح مكتب هندسي مشترك، إنما سيبقى مكتباً احتياطياً؛ حتى ننتهي من الخدمة “الالزامية بصيغتها الخمس سنوات”، في إحدى دوائر الدولة.
وأنتِ يا ريم ماذا تفكرين؟
أسافر بعد أن تستقر أحوالي الى بلد خليجي..أنسى هذا الفقر والتعتير..تبقى علاقتي بالماضي ذكرى جميلة وغالية، لكنها انتهت. ويكفي الحنين لظلالها..//
جلستُ وغياث، بدأ “الفضفضة” عن تلك المرحلة؛ غياث ذاكرة تحتفظ التفاصيل، ترويها بمتعه خاصة، مع النكهة “الحمصية”.
يسألني هل بعدها ريم ترافقكَ في الليل والنهار؟
بعد الطلاق كما تعرف، نقلنا الى ذاك الفرع، هناك كان الحداد يستعصي على الاسترخاء؟
حملة اعتقالات شملت عائلتي: أحلام أختي وعلي وعادل أبناء أختي الكبيرة.
المكان يزداد “تحجراً”..إنما بعد أشهر، حيث الملتقى مع الحملة الجديدة 84. خيّم “الفرج”.
ثم لم يتأخر الكتاب، فكان ليلي يطوف بين الصفحات بحثا عن “اللقيا”.
حاسك وكأنك “صوفي” الهوى يا نصار؟
أتعّلم أن لا أقف خلف “إمام” مهما علت أفكاره. البعض قد يقول أنكَ أغرقتَ نفسكَ مع فرويد..
ماعلينا غياث احكيلي عن هشام؟
مين هشام؟
هشام صديقنا عندما كنا ثلاثة نسهر هنا في تدمر في المهجع رقم 1.
هشام الذي تركته زوجته عبير؟
أول مرة بسمع باسمه، صار لي هنا أربع سنوات. مابعرف نصار حاسس اختلط عليك الأمر. كأنك بتحكي عن قصتك ومو عن حدا آخر!!
معقول يا غياث تكون أوهام، أو شي بيشبه تركيب حكاية: مثل من يكلم نفسه ويختلق شخصية ثانية ترافقه؟
ماني كتير ضليع بالتحليل النفسي وتسمياته مثل “الاستيهامات”، أو أن أحدنا يهرب من تسمية الأشياء الحميمية كي تبقى جميلة، ينسج خطوط متشابهة لكنها تختلف باسمائها.
نعم يا غياث، تقول مانك ضليع لكنكَ “تشخّص” الحالة بكل ثقة!!
ما بعرف انسى غرامكَ؛ من عادة غياث الغناء المتقطع عند كل حديث!
دعنا نغيّير دفة الحوار كما يقول المثقفون؟
هو اسلوبك غياث كما عهدتك. اطمئن أنه محبب الي، يجعلني أضحك وأخرج من هنا.
عدتُ ل “مطرحي” وفكرت بكلام غياث: هل كانت من استيهاماتي تلك الحكاية وبأسماء محددة. عبير وهشام وعمر وخالد وعلام، وعامر وفادي..وأيضاً بلال؟!
لطالما كان مهجع “الشفاط” في الفرع، يخرجني من السور إلى أماكن وحارات وبشر وأصدقاء؛ كم كان البوح يروي نسجَ خيالاته!!
/بعد سنتين أو أكثر وفي سجن صيدنايا، سنتذكر هذه “النهفات” غياث وأنا.
أعلق: يعني كان “الزمبلك” تبعي ع بيروح يمين وشمال.. تعلو ضحكاتنا وجيراننا من “العوازل” الأخرى: استحبسو الشباب عادي، كلنا ع هالطريق../
بعد الاستقرار في المهجع، بحثتُ عن “صمام أمان”، أتوازن وأجد نفسي من خلاله؟
هناك زاوية صغيرة وضعت عليها رفوف كمكتبة؛ الخدمة ذاتية ليس هناك من داعٍ لتوزيع الأدوار كما حالنا في اول التجربة بهذا السجن؟
كانت الرغبة حثيثة للقراءة، حلقات القراءة تشمل الكل إلى حد ما. لذلك من الطبيعي تنظيم دور للكتاب.
الآن تراجعت نسبة “القراء” بفعل آلية “الاستحباس”: (عرفوها السجناء أنها حالة من الانسجام الكامل مع السجن ومفرداته).
باتت هناك رغبة حثيثة، في التنقيب على تنمية المواهب من النحت والحفر على حبات اللوز، و”عظمة صغيرة من فروج”، مرمية.
لكن الاهم من ذلك وجود باحة مستقلة، يُفتح الباب عليها على مصراعيه، مما يجعل من النهار نشاط حكي وحف وحفر ونحت، حرق على الخشب، ومحاولة “صنع” أعواد من بقايا “سحاحير” الخشب المتوفرة. سيأتي ذلك على حساب “القراءة”.
قد يستثنى متابعي تعلم اللغات الانكليزية والفرنسية، وقرّاء المقال السياسي المتوفر عبر بعض المجلات.
في المهجع ثلاث كتل سياسية: الكتلة الحزبية الأكثر عدداً وحضوراً، يليها بقايا التاركين؛ قسم كبير الآن بقي بفرع التحقيق.
أما الأخيرة فهي كتلة الحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي.
لدى الكتلة الحزبية اجتماعاتها الخاصة كل عشرة أيام، كذلك مجموعة المكتب السياسي.
أما التاركون فقد ابتعدوا عن ضجيج الحوار الجماعي السياسي. تجد بينهم من يسترسل بحديث ثنائي.
في هذا “التكوين” كنتُ وأحمد نبتعد ونقترب. إنما بقينا خارج الجمع كله؟
أقصد السياسي منه.
أتاني طلال على غفلة صباح بعد اسبوع أو أكثر:
تغيرت كثيراً، لا أحب الكلام العقلي المخطط.
مع “الرفاق” بعدني ملتزم، قلة قليلة منهم تتفهم حالتي “الجنونية”..أحب عمل اللجنة لتنظيم أوضاع المهجع؛ ممكن هي تساعدني على تفريغ شحناتي.
أقرأ لكن بهدوء وليس ساعات طوال.
توقعت غير هيك، أنك شغوف بالقراءة؛ هيك أوحيت لي يا طلال وقت كنا بالفرع.
الحياة هنا بتختلف كثير عن الفرع..تابع:
بعرفك يا نصار وسمعت من ياسر ومنيف، أنك ازددت “هوساً” بالكتاب والقراءة؟
نعم. ربما حالة هروب من اللاجدوى التي تحكي عنها يا طلال.
توازن نفسي، يجعلني أتمرد على “الجموع” كلها، والأهم القدرة على ادارة هذه “الحبسة”.
كيف الأخيرة مافهمتها؟
بعيداً عن الشعارات الجوفاء، وعن الكلام الكبير عن السجن و “الصمود”، اكيد ليس المقصود بمواجهة المحقق؛ نحن الان انتهينا من تلك المرحلة..تحتاج بالسجن -عندما تترك الحزب وشتى الأفكار اليقينية- الى مهدئ من نوع آخر، إلى مفاعيل التوازن الداخلي حتى “لايشيع فيك الذكر”؟
حلوه الاخيرة..يرافقها بضحكة عالية.
فهمت علي؟
أمممم
شو رايك بشي حلقة قراءة؟
مافي مشكلة. لكن يا نصار أريدها فقط ثنائية. نجرب؟
اتفقنا على قراءة كتاب علم ماوراء النفس (سيكولوجيا الأعماق) فرويد.
-صغير الحجم، لكنه من أصعب كتب فرويد-
نقرأ كل صباح قرابة الساعة والنصف بعد استراحة الفطور.
نقف عند كل فقرة نناقشها، نفهمها ثم نبدي رأينا:
طلال بذكاء حاد جداً، يعترض هنا، يسترسل هناك، وهكذا؛ من أجمل القراءات التي مرت علي!
أنهينا الكتاب خلال فترة أسبوع.
مابدنا نكمل سألته؟
اتركها للظروف. مافيني التزم كل يوم بوقت محدد وساعة معينة، تُذكرني بأيام الدراسة.
ماشي. استمرت هذه “الماشي” ماتبقى من سجنتنا. بنهاية نيسان 91. مع إطلاق سراحنا، مضى كل إلى سبيله.
نتيجة لتحسين العلاقات بين النظامين العراقي والسوري، نالنا نحن السجناء من الطيب نصيب:
كان التمر هو الطبق الرئيسي من تحلاية بعد الأكل “الدوسير”: سابقا كان تفاحة أو برتقالة..
عندما كنا صغار، كانوا الاهل يشترون “قفة تمر” ناشفة، لسد الرمق مع الفطور، أو أثناء النهار بين الوجبات.
كانت “قفة التمر” هي الارخص، يقابلها الأغلى ثمناً “تنكة تمر العجوة” للعائلات الميسورة.
وعلى الأغلب سعودية المنشأ، البعض يسميها عراقية.
أما “القفة”، لم نكن نعرف “من وين الله حاطها”..سورية المنشأ، تدمرية الهوى، ترقص على موائد الفقراء وعابري السبيل.
هنا في سجن تدمر وفي مهجع المستوصف، حيث نسكن..بات التمر متخماً؟
كل يوم دوسير تمر، والله المستعان.
على قارعة وحوافي الطناجر، تراه للتمر حزين:
لمَ هذه المعاملة منكم؟
أنا لم أختْر طريقي إليكم..
انتبهنا “لحزنه”، طلال -عضو لجنة الاكل المبدع- وأنا كنا نجلس قريبين من هذه “الصرخات”.
شو رأيك يا نصار نخمر التمر المتكدس؟
فكرة ظريفة، نعيد أمجاد أجدادنا “الجاهليين” في الجزيرة العربية؛ لم يكن لديهم العنب كما سواحل المتوسط: قالت لهم كرومهم:
لا تتركوني وحيدة على أغصان الشجر، أعاني من “عضات الدبابير الشاردة”.
ضعوني في مكان دافئ وأمين، ثم أُخرجوني بعد أربعين يوماً، ستجدون “ماء عصيراً” من فلذات كبدي.
تطلقون عليه اسم الخمر.
المسيح بجلالة رسالته. قال للناس عني: “قليل من الخمر ينعشُ قلب الانسان”. وضٌربتْ مثلا!
وعودٌ حميدٌ إلى تمرنا:
طلال قام باستمزاج هيئة المهجع العامة؛ للمحافظة على العلاقة المنسجمة بين الدال والمدلول -هكذا تجري العادة الديمقراطية في المهجع-
وافقت الأغلبية. وكان السؤال: هل يمكن تخمير التمر؟
سألوا من يخمر؟
أجابهم طلال: نصار تطوع وأنا راح اساعده. مباشرة عدنان زهرة، “شّمر عن يديه”: يالله مابدها تأخير.
اجتمعنا نحن الثلاثة، لملمنا حبات التمر، أخرجنا منها “النوى”.
تكدستْ فوق بعضها، في بدون بلاستيكي و للصدفة كان أحمر اللون.
أُغلق البيدون بإحكام “العجين” المجفف. تم إيداعه في سقيفة المهجع فوق المطبخ وضجيج البوابير.
كان الصيف قد عاد بثقله التدمري. نحن الآن في نهاية شهر حزيران؛ يصادف أربعين اغتيال المفكر اللبناني الشيوعي مهدي عامل (اغتيل 18 أيار 87).
همس عدنان لي: بتعرف بهيك جو حار، والبدون بالسقيفة يعني استوت “الطبخة”
أي. قصدك بيكونوا جاهزين للشرب؟
اسبوعان يا عدنان، معقول؟
تعال نجرب.
أنزلَ البدون من السقيفة. فتحه و “قجتْ” رائحة النبيذ التمري.
أتى طلال بسرعة. شوف الوضع جاهز.
جلب عدنان قطعة قماش بيضاء صغيرة. وبدأ “النشيد” تنقية السائل من الرواسب، وكانت كثيرة، تشبه طحل القهوة؛ سائل لزج.
نبهنا طلال: نحتاج لرأي المهجع كي نشربهم اليوم أو نؤجل ليوم آخر.
سألته ليش هالتعقيد يا “رسول الله” أقصد رسول المهجع.
انت ما كنت هون. صار في “نص عرفي” مهجعي: لا يمكن الشرب إلا بمناسبة ما، تهمنا كشيوعيين. أو رأس السنة وهكذا..
معقدينها كتير عمي طلال. قلت له.
طيب شو رأيك اليوم؟
يصادف أربعين مهدي عامل..تابعت:
“رفاقنا السوفييت” دائما يحتفلون بهيك مناسبات، يشربون الفودكا، مو شرب القهوة العربية.
ضحك وانتبه بعض الحاضرين.
بدها موافقة ودعوة هيئة عامة..
أوووف.. طيب مافيك تكتفي بـ استمزاج ما؟
نصار أنت بدك المشروب اليوم. وواضح من إصرارك.
راح وافقك وشوف الوضع.
-على عادته جرى مسرعاً طلال-
عَيْن خير مشي الحال.. بهذه الكلمات أعلن طلال افتتاح الخمر التدمري العظيم.
وشدينا الرحال إلى المساء لما بعد الغذاء (الوجبة الرئيسية).
وكانت الساعة التاسعة مساءً.
وقف أصلان: سوف نشرب نخب الرفيق الشهيد مهدي عامل، الذي اغتالته الفاشية الدينية الجديدة، التي تدعي أنها تقاوم إسرائيل. .فقط لأنه يفكر خارج امتدادات ولاية الفقيه الجالس على عرشه في إيران.
يتابع: تفاجأت مثلكم أنه بهكذا مناسبة -الاربعين على فقدانه- سنشرب خمر التمر؟
هكذا أرادوا: طلال، نصار وعدنان. صانعي الخمرةَ.
ونحن نلبي النداء مع ضحكة: ألا هِبْ بخمركَ يا تمرُ.. على خطى”ألا هبي بصحنك فاصبحينا..ولا تبقي خمور الأندرينا”.
تحلقنا مجموعات حول “أكواب البلاستيك”، التي امتلأت بهذا “الخمر الوفير”؟
لا يشبه النبيذ بشي. تخيل أنكَ تشربه في تدمر وحزيران يعلن الوداع، كي يستقبل تموز.
بعد ساعتين قضينا عليه قضاءا مبرماً؛ “فتلَ” الرأس وبقيتْ العين ساهرة،. تحدقْ في فضاء شبابيك المهجع.
كانَ صمتٌ.. أتى أبو شريف بصوته الطروب؛ كُسِر حاجز الشرود:
الشيخ إمام يحضر بيننا، ربما بصوت مختلف -حالة من النشوة- يشدو “الحبيب”:
“أنا توب عن حبكَ
أنا لي ف بعدكَ هنا
دنا بترجاك..”
يردد كثيراً ويعيد: “وإن غبت سنة
أنا برضه أنا..”
ونحن أصبحنا نردد وراءه (كورال جماعي)..وخود على نشاز الصوت وهسيس بعضه.
كانت ليلة من ليالي العمر التدمري.
-“سيذكرنا قومنا إذا جد جدهم”- بالاذن منكَ، عمنا أبو فراس الحمداني..
واقع الحال: عندما لاح الصباح بتشريفه، عادت الحياة إلى صخبها اليومي. ذهبت “الخمرة” إلى الفراغات بين الكلام..
هكذا هو السجن، يعلق جمال (أبو صالح)..!
سألته عن مواضيع أخرى:
كنا بالفرع نتابع “أنباء موسكو”، التي ترصد حركة البيروسترويكا، يومياتها. تُفاجئْكَ بحجم الوجع، وهشاشة الصورة المتخيلة عن المسار.
أعتقد أننا في الحزب كان لنا ملاحظات شديدة عن التجربة السوفييتية. هكذا ظهرت “حزبيته” لجمال؟
لم تعدْ المسألة بيروقراطية متأصلة تحكم العباد، إنما تعدى “النبش” الأساس الذي بنيت عليه التجربة السوفييتية..فقط مرحلة لينين بسنواته الاربع لم تتكلم عنها البروسترويكا؟؟
نحن هنا لم تصلنا انباء موسكو، نسمع ببعض “الفضائح” عبر الراديو (إذاعة مونت كارلو).
يشغلنا أيضاً، عامل أهم:
نسمع بحملة اعتقالات شرسة، تطال الحزب ومحيطه. (حملة 87).
معك حق، قلت له. لكن كشف الغطاء هناك، سوف يزعزع الكثير من اليقينيات، التي باتت من البديهيات المسلم بها.
أردفت:
سؤال يخطر بالبال، هل يمكن للحتمية التاريخية -كما كنا نتصورها مثل الإله عند المؤمنين- القيام بإنقاذ ما تبقى؟
جمال يعود للتفكير: سؤالك صعب و ملغوز. وين بدك توصل يا نصار؟
فقط لشيء اسمه الإمكان والاحتمال. يضع السؤال الحقيقي أمام هذه الحتمية الجبرية، وانتهاء صلاحيتها.
اترك الامور لحالتها الطبيعية، أنهى جمال الكلام:
تعال نفكر بحالنا هنا. أنا مابحب القراءة بحلقة، كما ترغب، مع ذلك حابب اقرأ معك، كتاب هكذا تكلم زرادشت/ نيتشه؟
تمام.
وبدأنا “بتلاوته: كما لو أنه “كتاب مقدس”..!
وقفنا عند عبارة: “ليس الانسان إلا كائناً وجب عليه أن يتفوق على نفسه”.
تمتم جمال: في السجن هناك معوقات كثيرة: أهمها أنك مراقب من الآخرين، تفتقد حتى للتعبير عن أبسط إيماءات الجسد.
تقصد أنه لا يمكنك أن تعمل على البذرة الاولى، استقلاليتك الشخصية، عداك عن التفوق على الذات؟
ما بعرف. يمكنني أن أفرّغ بعض طاقاتي الكامنة عبر نحت لوحة على حبة لوز صغيرة، أتخيل أنها ستصل لحبيبة ما؛ هي الآن غير موجودة. مع ذلك اعطيها اسماً وشكلا، أتكلم معها في كثير من أوقات الضيق والضجر.
جميل هذا الكلام!
انتهينا من الكتاب..ومضى كل إلى “روتينه” اليومي..
باتَ الصيف يودع لياليه الأخيرة. خرج أيلول من “أوراقه” الأخيرة.
لم نكن على توقع: أنهم سيفتتحوا سجن صيدنايا، ونكون نحن أول “العابرين”..!
في السادس والعشرين من مساء أيلول، قالوا لنا ضبضبوا حوائجكم:
نقلنا الى مهجع آخر كبير، جلبوا بقية الشباب من مهجع الحمام ..
كانت سهرة “عامرة” و عرمرمية، تشبه التهيؤ لإخلاء السبيل..
عُمنا صباحاً إلى “سيارات اللحمة”:
جنزروننا من أقدامنا وأيادينا، داخل السيارات وقوفاً؛ هناك نوافذ صغيرة مسوّرة بشبك معدني، يمكننا رؤية الطريق؛ لا “طميشات”؟
في عرف الشرطة العسكرية وتقاليدها: لا داعي لهذه القطع الجلدية، خاصة أنها صنع “الفروع الامنية”؛ بطبيعة الحال هناك عداوة الكار.
الشرطة العسكرية تعتمد “الخدمة الذاتية” عندما تكون في ضيافتهم داخل السجن: رأسكَ منحني، عيونكَ مغلقة بإحكام.
هنا في السيارات، بعد “الجنزرة”، تحصل العينان على حريتهما.
كان الطريق طويل، دخلنا من مفترق يذهب الى مدينة التل في ريف دمشق، وكان لابد من الدخول في برزة البلد؛ آخر غرفة سكنتها هناك في هذا الحي.
تكتمل المصادفة أن السيارات تمر من نفس الشارع، علماً أنه شارع فرعي..
أترقب مدخل البيت: تخرج منه أم خليل صاحبة البيت -ستينية العمر- أرملة وعاملة قديمة بأحد معامل النسيج..
يوم اعتقالي في 1 آذار 82، أغلقوا عليها باب غرفتها؛ هم أتوا في منتصف الليل، لم أكن هناك.. خافوا منها: ربما ستنتظرني بالشارع!!
الآن بعد خمس سنوات وأكثر من النصف، أراها: تتكلم مع بقالية بمدخل البيت..
لا أعرف ماذا حصل معي..نسيتُ الاستحباس.. عادت بي الذكريات لتلك السنة التي سكنتها في هذا البيت..
هل تعلمين يا أم خليل، أنني بإحدى سيارات “اللحمة” التي تمر أمامكم ؟
-كنت أخالجُ نفسي الغياب-
وصلنا إلى المقر (سجن صيدنايا)، جمهرة غفيرة من أصحاب القبعات الحمر:
بتلك الأيام لم تكن “التشريفة” التدمرية قد وصلت إليهم!
بعد طول تفتيش للأغراض والأسماء. وزعونا إلى الألف يمين: الجناح فيه عشرة مهاجع، كان عددنا 93 (حزب عمل، مكتب سياسي. وأبو خالد الوحيد من الاتحاد الاشتراكي).
نودع تدمر إلى غير رجعة، وصار مسكننا الجديد “منتجع” صيدنايا.
الجزء القادم ستختفي منه تدمر.