احتفل أنصار الإدارة الذاتية في شمال وشمال شرق سوريا يوم الأحد بالذكرى العاشرة لتأسيسها، وبالتزامن مع احتفالهم عقد “مجلس سوريا الديمقراطية-مسد” أول اجتماعاته برئاسته المشتركة الجديدة، وخلال الاجتماع صادق المجلس العام على الأسماء المقترحة كنوّاب للرئاسةِ المشتركة وهم كلّ من الرفيقات والرفاق…
الإدارة الذاتية هي في الواقع واحدة من أربع إدارات ذاتية منفصلة ومتباينة من حيث التسميات، ومن حيث طرائق الحكم والوضعيات القانونية أو شبه القانونية. فهناك “حكومة الإنقاذ”، وهي الذراع الإداري لهيئة تحرير الشام-جبهة النصرة المسيطرة بشكل رئيسي على إدلب. في الجوار هناك “الحكومة المؤقتة” وهي نظرياً أداة إدارية تنفيذية لائتلاف المعارضة تحت المظلة التركية، لكن الحكم في الأماكن الذي يُفترض أن تسيطر عليها ليس له ناظم مؤسساتي واضح. وأخيراً هناك سلطة الأسد، ولحسن حظ محكوميه أنه ورث الهياكل المؤسساتية للدولة السورية الضرورية لهم، رغم إفراغها من مضمونها في الكثير من الحالات لصالح هيمنة الشبيحة والمخابرات وتجارة الكبتاغون.. إلخ.
نعود للتأكيد على كون سلطة الأسد واحدة من أربع إدارات ذاتية، وإن كانت تنفرد عن شقيقاتها بوراثتها الاعتراف القانوني بالدولة السورية واحتلال مقعد في الأمم المتحدة بوصفها دولة مستقلة ذات سيادة. وهذا التوصيف ليس على سبيل الهجاء، أو السخرية التي اعتاد عليها السوريون مع كل حادث يطعن في السيادة التي كانت مزعومة. والحق أن الآلة الإعلامية للأسد كفّت عن تكرار ذلك الإنشاء المتعلق بالسيادة، ولم يعد التشدّق بالسيادة جائزاً، مثلما لم تعد السخرية مضحكة من اختراقها، فالأسابيع الأخيرة فقط حفلت بالأعمال العسكرية التالية: القصف الإسرائيلي المتكرر، والذي وصل إلى حي مأهول ضمن العاصمة دمشق، القصف التركي المتكرر على الأراضي السورية ضد قسد، قصف الميليشيات العراقية مواقع للقوات الأمريكية في سوريا، رغم وجود قواعد أمريكية يمكن استهدافها في العراق، وأخيراً القصف الأردني الذي أودى بقتلى في محافظة السويداء على خلفية ملاحقة تجار الكبتاغون.
يغيب لبنان فقط عن دول الجوار التي تنتهك السيادة التي لم تعد مزعومة. وفي الواقع لا داعي إطلاقاً كي يقصف الحزبُ البلدَ-الممر للأسلحة التي تأتيه من طهران، والحديث عن الحزب هو عن الجهة اللبنانية الحصرية التي تستطيع قصف مقرات للأسد إذا لزم الأمر، بما أنه يهدد إسرائيل باستخدام مخازن قوته إذا اضطر لذلك.
لكن، اقتداءً بالجوار السوري، يمكن الحديث عن إدارة لبنانية مشابهة لإدارة الأسد من حيث أنها تحظى باعتراف دولي بالسيادة والاستقلال، بينما هي معطّلة فعلياً وأقصى نشاط لها في الظروف الحالية أن تجيد لعب دور الوسيط بين المسؤولين الدوليين والحزب من أجل الإبقاء على الوضع في الجنوب ضمن حدود السيطرة. أيضاً، في الجهة اللبنانية، لا تمتلك الحكومة قراراً سيادياً مثل قرار السلم والحرب، ولا تحتكر مصادر العنف التي تمثّل اللبنانيين جميعاً والقانون الناظم لاجتماعهم، هذا إذا لم نأخذ في الحسبان تعطيل انتخاب الرئيس الذي يُعتبر ولو شكلياً من رموز الدولة.
في سوريا لم تعد سلطة الأسد تحتكر أجهزة العنف، فلدى كل إدارة من الإدارات الأخرى جيشها، إن لم يكن جيوشها. الأهم قبل ذلك هو أن جيش الأسد لم يعد من رموز السيادة، فهو جيش حرب أهلية بوصف لا ينطبق عليه فحسب منذ اندلاع الثورة على الأسد. إذ من المعلوم أن الجيش بعد انقلاب الأسد الأب تحوّل مركز ثقله إلى الميليشيات التي تهدف حصراً إلى حماية احتكار السلطة، في الوقت الذي كانت فيه الأخيرة لا تتوانى عن إيصال هذه الفكرة إلى إسرائيل. يُذكر أن إسرائيل في العديد من المناسبات، قبل عقود، قابلت رسائل الأسد الودية بقصف مواقع عسكرية سورية، وباغتيال شخصيات سورية وغير سورية على الأراضي السورية، وهي عمليات بقيت بلا ردّ وراء يافطة “الاحتفاظ بحق الرد في الوقت والزمان المناسبين”.
الكليشيه الأخيرة انتقلت إلى صاحب السيادة الجديد، ففي العشرين من الشهر الحالي نقلت وكالة أنباء سانا “السورية” الرسمية إدانةَ وزارة الخارجية الإيرانية “العدوانَ الإسرائيلي الإجرامي على منطقة المزة في دمشق، الذي أسفر عن ارتقاء عدد من الشهداء، بينهم عدد من المستشارين الإيرانيين”. ونقلت سانا عن الناطق باسم الوزارة قوله: “الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالإضافة إلى الملاحقة السياسية والقانونية والدولية لهذه الأعمال العدوانية والإجرامية، من حقها الرد على الإرهاب المنظم للكيان الصهيوني في الوقت والمكان المناسبين”. والوكالة نفسها نقلت أخبار تلك الإدانات التي لا نطالعها في وسائل الإعلام الأخرى، مثل الإدانة الكوبية وإدانة رئيس المركز الوطني في شمال لبنان.
تعكس تصريحات الخارجية الإيرانية استقالة “وإقالة” الأسد علناً من موقع السيادة، وهذا مختلف عن عدم قدرته على مجابهة إسرائيل التي تقصف متى تشاء. الأمر هنا يتعلق بارتضاء دور الإدارة الذاتية المتخلّية بحكم هذا الموقع عن دعامتين تُعتبران أساسيتين في مسألة السيادة، هما الدفاع والخارجية. فقوات الأسد ومخابراته وشبيحته غير معنية جميعاً بالدفاع عن سوريا، وهي تقوم بدو الشرطي المحلي لا أكثر سوى لجهة منسوب العنف والشر، بينما تتولى موسكو وطهران ملفّ السياسة الخارجية. ومن المعلوم أن اقتصاد الأسد صار رهينة الديون الإيرانية والروسية، ما يجعله نظرياً أقلّ استقلالية حتى من الإدارة الذاتية الكردية التي تسيطر على منابع المياه والنفط.
يصادف أن تشهد الأيام الأخيرة محاولات لإحياء حل الدولتين على أراضي فلسطين التاريخية، والحل المطروح في أحسن حالاته تختصره التصريحات الأمريكية التي تنص على إقامة دولة فلسطينية “قابلة للحياة” تستطيع إسرائيل أن تنعم بالأمن والسلام إلى جوارها. بالطبع، تلقى هذه المحاولات معارضة متدرجة الشدة من الأحزاب الإسرائيلية الكبرى، لكن إذا أفلحت المغريات والضغوط الدولية في الدفع إلى هذا الحل فإن النماذج التي سيسترشد بها الإسرائيليون يُرجَّح أن تكون مستلهمة من الجوار حيث تم تغييب المحتوى المعهود للدولة. وإذا كانت طهران قد تباهت مراراً بانتهاك سيادات أربع دول عربية والهيمنة عليها، فإن إسرائيل لن تقبل لكيان فلسطيني مستقبلي أقلّ من جمع سلبيات تلك الدول التي آلت إلى ما يشبه إدارات ذاتية فاشلة. تستحق نضال الفلسطينيين الوصول إلى مصير أفضل، تماماً مثلما تستحق شعوب الجوار ألا تبقى على هذا الحال.