هذه الازدواجية بين الدولة والميليشيات المستقلة عمليا تُنتج عجائب متكررة في لبنان، لكن العجائب تصل إلى مستوى المهازل في العراق.. مهازل مضحكة لكنه ضحك كالبكاء كما قال المتنبي.
الحكومة اللبنانية تقف كما تعودت كـ”قوة مراقبة” وكساعي بريد في هذه الاشتباكات المستمرة بين حزب اللـه وإسرائيل. فمن يريد أن يخاطب حزب اللـه، عليه أن يخاطب الحكومة اللبنانية الرسمية، التي يعتبر حزب اللـه مشاركا فيها، لكي تتولى بدورها مخاطبة نصر اللـه وتضيف إلى الرسالة رجاءها بألا يتسبب في تدمير لبنان مرة أخرى، فيعدها نصر اللـه خيرا، ثم يرسل الرد من خلالها، أو يتجاهلها ببساطة ويرد إعلاميا على الرسائل.
أما في العراق فقد وصل الحال إلى مستوى المسخرة. أدانت حكومة العراق بشدة هجمة إيرانية على أربيل الكردية العراقية بالصواريخ استهدفت من اعتبرتهم جواسيس إسرائيليين، وقدمت شكوى في مجلس الأمن بهذا الصدد، بينما “تقاعست” عن فعل الشيء نفسه بالنسبة لضربات الولايات المتحدة لمواقع لميليشيات الحشد الشعبي العراقية، ردا على قصف قامت به لمواقع أمريكية موجودة في العراق بناء على اتفاقية بين البلدين.
المفارقة ضخمة لأن “الحشد الشعبي” هو من الناحية الرسمية جزء من القوات المسلحة العراقية، وبالتالي تابع شكليا لوزارة الدفاع العراقية. وبالتالي من المفترض ألا تقوم بهذه الهجمات على المواقع الأمريكية المذكورة إلا بأوامر من الدولة. لكن الجميع يعرف أن الحال ليس كذلك، وأن هذه القوات عبارة عن ميليشيات شيعية تابعة لإيران وتتخذ قراراتها بمعزل عن قيادتها “الرسمية” في وزارة الدفاع. تشبه هذه الحالة حالة حزب اللـه في لبنان، من ناحية أن الحشد ميليشيا تابعة لإيران. لكن الوضع أعجب لأنه رسميا جزء من الجيش العراقي.
أنتج هذا الوضع الفريد مفارقات عديدة، أهمها أن الولايات المتحدة لا تريد أن تدين القوات المسلحة العراقية أو تواجهها عسكريا رغم أنها “مسئولة رسميا” عن هجمات الحشد، وفي الوقت نفسه لا تستطيع حكومة العراق أن تشكو لمجلس الأمن من قصف الولايات المتحدة المضاد “لقواتها”، لأنها من الأساس لا تسيطر على هذه القوات (أي الحشد) ولا تريد أن تتحمل مسئولية الضربات التي وجهتها للمواقع الأمريكية، لأن هذا يعني إعلانا رسميا للحرب على الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه لا تريد أن تقول أنها لا شأن لها بهذه الميليشيات، لأنها ستُعتبر في هذه الحالة جماعات مسلحة معادية لاستقرار العراق (زي مثلا تنظيم الدولة في سيناء) وبالتالي تعتبر هدفا محتملا للقوات المسلحة العراقية، التي تعتبر هذه الميليشيات جزءا منها!
ربما تجدر الملاحظة هنا أن هذه المفارقة ليست لها أبعاد طائفية. فالحشد الشعبي شيعي والحكومة شيعية. المسألة هي محاولة الحكومة العراقية الحفاظ على توازن صعب مع إيران التي اخترقت الدولة العراقية بعمق، بما فيه الجيش من خلال الميليشيات، بطرق منها إبقاء الصلة العسكرية مع الولايات المتحدة، لعل وعسى أن تتغير الظروف ويحصل العراق على قدر أكبر من الاستقلال لاحقا.
في هذه الأوضاع، هجمات الحشد الشعبي على المواقع الأمريكية مكسب صافي لإيران. فباسم “وحدة الساحات”، التي لا تشمل أبدا الساحة الإيرانية نفسها، تتعالى المطالبات بطرد القوات الأمريكية القليلة المتبقية لكي تصبح العراق بالكامل في أيدي إيران، وعلى الأقل قد تنجح هذه الدعاية في تخفيف السخط العراقي على الهيمنة الإيرانية على البلاد، لكن الضربة التي وجهتها إيران في أربيل أججت هذا السخط، خاصة أن إيران لم تحاول حتى الاعتذار عنه، بما يعني، كما أشار عراقيون، أن إيران ترى أن لها مطلق الحرية في استعمال العراق كأداة في إدارة صراعها مع إسرائيل (حسب دعواها أنها قصفت جواسيس يعملون لصالح إسرائيل) بينما تبقى إيران نفسها آمنة.
المفارقة الأخيرة الأصعب هي أن سلوك هذه الميليشيات (حزب اللـه، الحوثي، الحشد الشعبي) يعني أنها تقبل واقعيا بفكرة أن أمن دولة إيران مقدَّم على أمن الشعوب التي تدعي الانتماء إليها (لبنان، اليمن، العراق)، وأن الميليشيا، أيا كانت، مجرد أداة، أما المعبود الحقيقي الذي يُفتدى فهو الدولة (الإيرانية في هذه الحالة). ولهذا يعامل الجميع هذه الميليشيات، أيا كان حجمها وتسليحها، وحتى لو حصلت على “دولة” مثل الحوثي، على أنها مجرد قرابين على مذبح دولة إيران المقدس.