بعد مضي عامٍ كاملٍ على زلزال سوريا وتركيا المُدمِّر، لا تزال والدة الشاب محمد قبارو البالغ من العمر عشرين عاماً تبحث عنه. فُقدَ محمد منذ يوم الزلزال الأول في حي المزرلك في مدينة أنطاكية التركية. كانت فرق الإنقاذ قد انتشلت صديقيه اللذين كانا يعيشان معه في الغرفة ذاتها، بينما اختفى هو ولم يظهر له أثرٌ حتى الآن.
حكت أم محمد للجمهورية.نت قصة ولدها قبل لحظة الاختفاء: «خرج محمد قبل عامين من مدينة اللاذقية إلى تركيا بطريقةٍ ‘غير شرعية’ على أمل الوصول إلى أوروبا، لكن رحلته تعثّرت مرتين، ولم ينجح بالحصول على أوراق نظامية في تركيا، فبقي يُقيم لمدة عامين في ولاية أنطاليا، وعاد قبل ثلاثة أيام من وقوع الزلزال الى أنطاكية لأنه قرر العودة إلى سوريا».
تتابع الوالدة ما حصل مع محمد بحزنٍ شديد: «ليس لديَّ سوى محمد. فقدتُ أخته قبل سنوات برصاصةٍ في بداية الحرب. أراد الهرب من هذه البلاد على أمل إيجاد حياة أفضل. محمد كان شاباً لطيفاً وحنوناً وطيباً. قال لي سأعود لأبقى معك. لن أتركك مجدداً. سأعمل أنا ولن أتركك تعملين بعد عودتي. لقد تعبتِ كثيراً».
انفصلت الوالدة عن زوجها منذ سنوات، وكانت هي المسؤولة عن أطفالها، لذا أمضت حياتها في العمل وتأمين احتياجاتهم.
حاولت أم محمد طَرقَ جميع الأبواب، وسعت بكل السبل الممكنة لمعرفة مصير ابنها، لكن دون نتيجة. وقد لعب عاملُ البعد ووجودها في مدينة اللاذقية داخل سوريا دوراً في صعوبة البحث، خصوصاً أنها غير قادرة على الوصول إليه عبر تحليل DNA الذي يُعتبر الوسيلة الأنسب للبحث، وذلك بحكم وجودها في سوريا وضرورة إجراء التحليل في تركيا.
لا يوجد أي طريقةٍ لعبور الوالدة بشكلٍ نظامي نحو تركيا، ليبقى حلمها بإيجاد ابنها أو معرفة خبرٍ عنه مُعلّقاً: «أريد الوصول إلى محمد حتى لو كلفني ذلك حياتي»، تضيف الأم بعيونٍ دامعة.
ظلت أم محمد تُرسل أشخاصاً من معارفها إلى المبنى الذي فُقد ابنها داخله على مدار 10 أشهر، علّهم يجدون جثته قبل إزالة وترحيل المبنى دون جدوى. وعندما تمت إزالة البناء لم يجدوا له أثراً، وهي تعيش اليوم على أمل معرفة مصيره، متوقعةً «بأن يكون في إحدى المستشفيات التركية، ربما فاقداً للذاكرة».
أخرجوها ثم اختفت
تختلف قصة السيدة عبير حاج إبراهيم بتفاصيلها عن قصة الشاب محمد، لكن المصير واحد، فهي أيضاً مفقودة منذ تاريخ 6 شباط (فبراير) 2023. فبعد 9 أيامٍ من الانتظار أمام منزل عائلتها من قبل أولاد خالتها في حي المزرلك في أنطاكية، نجحت فرق الإنقاذ بإخراج عبير على قيد الحياة، فسارعت ابنة خالتها إليسار نحوها وحاولت إخبار فرق الإنقاذ باسمها، لكنهم كانوا على عجلٍ ولم يسمعوا منها.
تحدثت إليسار للجمهورية.نت عن تلك اللحظات بصوتٍ تخنقه الدموع: «طلبتُ من فرق الإنقاذ أن يضعوا اسمها لكنهم رفضوا. كان كل شيء سريعاً، ونقلوها بواسطة طائرة هليكوبتر. سألتُهم إلى أي مستشفى سوف يتم نقلها؟ فقالوا نحو مستشفى أضنة، وهو المستشفى ذاته الذي كانت تتواجد فيه سارة، أختُ عبير التي تم إنقاذها قبل أيامٍ. كانت آخر مرة أرى فيها وجه ابنة خالتي. لم تتغير معالمها رغم بقائها أياماً عديدة تحت الأنقاض. سارعتُ إلى إرسال صورتها لصديقتي حتى تذهب وتراها وتستقبلها في مستشفى مدينة أضنة، ولكن منذ ذلك الحين اختفت عبير واختفى أثرها. بحثنا عنها طويلاً، ولم نترك مستشفىً في جميع الولايات التركية التي تم نقل مصابي الزلزال إليها علّنا نجدها، لكن دون جدوى».
عند إخراج عبير من تحت الأنقاض طلب فريق الإنقاذ من إليسار أن تدعو لها لتبقى على قيد الحياة: «ما زلت أدعو حتى الآن على أمل أن نجدها يوماً ما»، تقول إليسار.
أدى موت أفراد أسرة عبير إلى تعقيد عملية البحث عنها. تشرح لنا إليسار: «أخبرت السلطات التركية أنه يمكن من خلال إجراء فحص DNA أن نعثر عليها، لكن مع الأسف عائلة عبير جميعها ماتت بالزلزال، ولم يبق سوى أختها سارة التي تعرّضت للبتر ووضعها الصحي لم يكن يساعد على ذلك. ولعبير أخٌ في هولندا قدِم إلى تركيا وأجرى التحليل أكثر من مرة، غير أنهم أخبرونا أن الأخ لا يساعد في هذا التحليل، ويجب أن تكون عينة الحمض النووي مأخوذةً من الأم أو الأب أو الأطفال، وجميعهم توفَوا، حتى أطفال عبير الصغار توفوا بالزلزال، وبعد ذلك اختفى أثرها ولم نعرف عنها شيئاً».
هذان مثالان عن المفقودين والمفقودات السوريين في تركيا بعد الزلزال، وهم جزءٌ من عشرات اللاجئين واللاجئات مجهولي المصير حتى اليوم، والذين يختلف وضعهم وصعوبات البحث عنهم مقارنةً بالمفقودين الأتراك، فهناك عوائق كثيرة تحول دون العثور على مَن فُقد منهم، أبرزها عامل اللغة الذي يلعب دوراً هاماً في صعوبة البحث، فضلاً عن عدم معرفة آليات البحث أو القوانين التي تساعد الباحثين في العثور على أقاربهم. إضافةً إلى أنّ عشرات الأفراد المفقودين كانوا يعيشون دون أقارب أو حتى معارف في تركيا، وبالتالي ليس لهم من يعمل على البحث عنهم أو من يستطيع إجراء التحاليل اللازمة لذلك. أما الأمر الأهم، فهو أن كثيرين منهم كانوا يقيمون بطريقةٍ غير شرعية، ولا يملكون أوراقاً ثبوتيةً تُعرِّف عن هويتهم، مثل بطاقة الحماية المؤقتة (الكملك)، وليس لديهم بصمة على الأراضي التركية.
جهود فردية وفرق تطوعية
تُشكّل الجهود الفردية التي بذلها اللاجئون-ات السوريون في البحث عن الأصدقاء والأقارب المفقودين-ات العاملَ الأكبر الذي ساهم في معرفة مصير المئات منهم، بينما يبقى وضع الأسر البعيدة عن ذويها هو الأصعب، كما هو الحال في قصة محمد قبارو الذي ليس لديه أقارب أو أصدقاء يبحثون عنه، خصوصاً أن طبيعة حياته كانت تَحولُ دون ذلك، فهو كان يُمضي معظم وقته متخفّياً لعدم امتلاكه للأوراق. ولكن برزت فرقٌ تطوعية شكّلها شبابٌ وشابات سوريون للمساعدة في هذا السياق، منها ما انتهى عمله بعد أسابيع قليلة من الكارثة، ومنها ما هو مستمرٌ في عمله حتى الآن كفريق المفقودين الموحد.
يوضح مؤسس ومدير الفريق عبد الرحمن كريم للجمهورية.نت أنهم باشروا عملهم في اليوم السادس بعد وقوع الزلزال، وكانوا ثمانية متطوعين في البداية، وتم التنسيق بينهم عبر مجموعة على تطبيق واتساب؛ كل شخص بحسب مكان تواجده وبحسب الإمكانيات التي يستطيع أن يُقدّمها. قاموا بتوزيع العمل فيما بينهم: قسمٌ كان يتوجّهُ للبحث في المستشفيات، وقسم آخر لتوثيق حالات المفقودين من اللاجئين عبر توثيق الاسم باللغتين العربية والتركية وصفات المفقود-ة، وماذا كان يرتدي ليلة وقوع الزلزال، وهل هناك أي «علامات مميزة» لدى الشخص المفقود، مثل عمره وصورة شخصية له وصورة بطاقة الحماية المؤقتة الخاصة به في حال وجدت. وكان عدد أفراد الفريق يزداد يومياً مع انضمام منتسبين من مختلف الولايات التركية، بعضهم بقي لفترة قصيرة، ولكنهم جميعاً كانوا يقدمون العون الكبير لعمل الفريق.
يضيف كريم: «لقد نجح فريقنا بالعثور على أكثر من ألف شخص من المفقودين الذين كنا نُبَلَّغ عنهم من قبل ذويهم، ولدينا الآن قائمة من 40 شخصاً سورياً ما زالوا مفقودين، ولكن الرقم أكبر من ذلك، فهذا الرقم يشمل فقط الذين أبلغ ذووهم فريقنا باختفائهم حتى الآن. في كل فترة كانت تتغير الأماكن التي نتوجّه إليها للبحث بحسب المدة الزمنية. في البداية كنا نتوجه إلى المستشفيات والبرادات والمقابر، وبعدها إلى مركز الخدمات الاجتماعية (السوسيال) الذي كان يؤخذ إليه الأطفال الذين يتم العثور عليهم دون ذويهم».
وعن معوقات العمل ومدى تعاون الجهات التركية الرسمية مع جهودهم يُجيب كريم: «هناك تعاون كبير من قبل الموظفين الأتراك. في البداية كان العمل أصعب، ولكن مع مرور الوقت وبناء علاقة ثقة بين فريقنا والجهات التركية، خصوصاً بعد نجاحنا بإيجاد الكثير من المفقودين، أصبح عملنا أسهل. أصعب الحالات تتعلق بمَن فُقدت جثته تحت الأنقاض أو جرى ترحيلها مع الأنقاض. هؤلاء يصعب معرفة مصيرهم والتأكد من احتمالية أن يكون قد جرى ترحيلهم مع الأنقاض أو ما زالوا موجودين في مكانٍ ما».
أما عن الصعوبات التي واجهت عملهم كفريق تطوعي في هذا المجال، فقد لخَّصَ كريم أهمها: «صعوبة الحركة والتنقل جراء أوضاع الولايات التي ضربها الزلزال، وتغيير القرارات بالنسبة لعمليات البحث والأوراق المطلوبة، إضافةً إلى الصعوبات النفسية التي طالتنا جميعاً نتيجة رؤيتنا المتكررة للجثث والضحايا أثناء التعرُّف عليهم، فضلاً عن الحاجة للدعم المادي والمعنوي».
الائتلاف معنيٌّ بالملف، لكن دون أثر
عمل مكتب الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة من خلال مكاتب اللاجئين التابعة له في الولايات المتضررة من الزلزال للمساعدة بحسب أحمد جميل بكورة، منسق شبكة اللاجئين والنازحين في الائتلاف، إذ قال للجمهورية.نت إنهم «عملوا على التنسيق بشكل رسمي مع إدارة الهجرة التركية لبحث ملفات المفقودين من اللاجئين السوريين، ومؤخّراً تم إطلاعهم على وجود أربعين طفلاً لا يُعرَف ذووهم يتواجدون ضمن مكتب الخدمات الاجتماعية، وربما بعضهم من أبناء اللاجئين السوريين».
وأضاف بكورة أن لديهم خطاً ساخناً بخصوص هذه القضية، ويمكن لأي لاجئ سوري التواصل معهم عبره لعرض مشكلته والحصول على المساعدة في مختلف القضايا، ومنها قضية المفقودين. وزعمَ أنهم تمكّنوا من مساعدة العديد من الحالات التي لجأت إليهم، منوِّهاً إلى أن آلية عملهم بسيطة جداً. إذ يقوم الشخص المعني بعرض مشكلته من خلال تعبئة استمارة الطلب وشرح الخدمة التي يحتاج إليها. غير أننا تحدثنا إلى عدد من العوائل من أهالي المفقودين-ات، وأشاروا إلى أنهم لم يحصلوا على ردّ من جانب الائتلاف رغم أنهم قاموا بتعبئة الاستمارة وطلب المساعدة في الوصول إلى مصير ذويهم المفقودين.
وقد قمنا بالتواصل مع مسؤولين في الهلال الأحمر التركي، فأكّدوا لنا أن عملهم يتركز على الجانب الإنساني وتقديم الدعم والمساعدة للمحتاجين من متضرري الزلزال، لكّنهم غير مختصين بحالات المفقودين، بل يقومون بوصل الأشخاص الذين يطلبون المساعدة مع الجهات المسؤولة. وأوضح أحد المسؤولين في حديثنا معه أنه «في حالة اللاجئين السوريين، يتم تحويلهم نحو إدارة الهجرة التركية التي تعمل على مساعدة الأجانب في مختلف قضاياهم».
وسائل التواصل الاجتماعي
لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في البحث والعثور على المفقودين-ات بعد الزلزال، لا سيّما في الأشهر الأولى، وكان يجري النشر وتبادل الأخبار من خلال عدة تطبيقات، حيث أسَّست مجموعة من اللاجئين-ات مجموعات مخصصة لهذا الأمر، تبادلوا عبرها صور المفقودين وصفاتهم وأسماءهم والمعلومات المتوفرة عنهم. كذلك كان ينشر أشخاص من مرافقي المصابين تفاصيلَ عن مفقود موجود في إحدى المستشفيات مع معلومات عنه بهدف إيصال خبر عن مكان تواجده. ورغم مع مرور هذا الوقت الطويل، ما تزال الأخبار التي تُنقل عبر هذه التطبيقات المصدرَ الوحيد للمعلومات بالنسبة لكثير من الأسر. إذ نقلت مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً خبراً البالغ من العمر 18 عاماً، وذلك تحت ركام منزلهم في أنطاكية بعد مرور حوالي 9 أشهر على الزلزال.
وكانت السلطات التركية قد وثَّقت مقتل اعداد في عموم المناطق التي ضربها الزلزال في تركيا، بينما بلغ عدد المصابين 107,204 مصاباً، ولا يوجد إحصائية دقيقة عن نسبة السوريين منهم، إلا أنها كبيرة لأن الزلزال ضرب مناطق جنوب تركيا التي يعيش فيها العدد الأكبر من اللاجئين السوريين الموجودين على الأراضي التركية. أعلنت الدوائر الرسمية التركية، قُبيل الذكرى السنوية الأولى للزلزال، لتتلاشى مع هذا القرار آمالُ مئات الأسر في العثور على أحبّتها.