تؤكد تصريحات القادة الإيرانيين أنهم يعملون على تبريد ساحات الاشتباك التي فتحتها حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين في غزّة، وحصرها ضمن الحدود الجغرافية للقطاع، وضمن الحدود السياسية، التي تمكّن الأطراف المعنية من متابعة عملية التفاوض الشاملة في المنطقة، مع الولايات المتحدة. وهم يسعون، من خلال ذلك، لبعث رسالة إلى القوى الإقليمية والدولية بأن إيران هي التي تملك القرار النهائي في مختلف الجبهات التي تديرها أذرعها المحلية في لبنان وسورية والعراق واليمن، من جانب. ومن جانب آخر، يعطي ذلك انطباعا للمعنيين، ولا سيما الولايات المتحدة، بنوع من عقلانية، أو واقعية، في سياسة إيران الخارجية، إذ هي جاهزة للتفاوض، وتسيطر على الوضع، في الصراع مع إسرائيل، علماً أن ذلك يتناقض مع ما ظلت تروّجه عبر سياساتها السابقة، في تبريرها إنشاء مليشيات طائفية مسلحة في بلدان المشرق العربي، وفي ادّعاء إمكانية محو إسرائيل وتسويتها بالأرض خلال أيام.
في هذا الإطار، يمكن النظر إلى تصريحات وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان في بيروت (10 فبراير/ شباط)، في مؤتمره الصحافي في لبنان، أنها بداية لمرحلة جديدة في الحوار الإيراني – الأميركي، تتموضع فيه إيران في جهة المعارضين لتوسيع الحرب ضد إسرائيل، عبر الجبهات التي تحكمها، أو تهيمن فيها، وهو إذ يقول: “إن إيران ولبنان يؤكّدان أن الحرب ليست الحل، وأنهما لم يسعيا لتوسيعها”، يدلّ على أن الرسائل المتبادلة مع الجانب الأميركي، بما فيها مطالب الأخير، ولا سيما في لبنان، قد حقّقتها إيران، ما ترك حركة حماس وحيدة في مواجهة إسرائيل، وهو ما يحصل منذ أربعة أشهر، من دون أي مؤازرة من حلف “وحدة الساحات”، أو مساعدة فاعلة تتناسب مع قوة حرب إسرائيل في قطاع غزّة وقسوتها ووحشيتها.

يجب أن يخضع كل شكل من الكفاح المسلح للدراسة والتأكّد من نجاعته في استنزاف إسرائيل أكثر من استنزاف الشعب الفلسطيني

خروج ما يُسمى حلف “المقاومة والممانعة” من الصراع الدائر اليوم في غزّة، أو نأيه عنه، يعني استفراد إسرائيل بحركة حماس، وهو بالقدر الذي ينطبق فيه على الحرب، أي إنها حرب “حماس” وحدها، يعني أن الحل سيكون، أيضاً، على حساب حماس فقط، بحسب ما تفرضه معادلات القوة، التي تتفوّق بها إسرائيل، وأيضاً المعطيات العربية والدولية غير المواتية لحماس، بحيث تبقى تلك الحركة وحيدة قوة مسلحة في الميدان في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، إلى جانب الجهاد الإسلامي، مع استثناء قطر وتركيا من الحالة الدولية اللامبالية لأي دور فاعل لحل الصراع، وهما (قطر وتركيا) تعملان من أجل التهدئة الدائمة لتجنيب الفلسطينيين مزيداً من الخسائر، والعودة إلى القرارات الدولية بما يضمن قيام دولة فلسطين.
إضافة إلى الواقع الدولي والعربي المحبط عموماً، فقد أُخرِج نحو مليوني فلسطيني من معادلات الصراع مع إسرائيل في قطاع غزّة، إذ باتوا مجرد لاجئين ونازحين يطلبون النجاة، وهم بالكاد يتدبرون أمور حياتهم اليومية، ما يزيد الضغوط الموجهة على “حماس” ويجعل خياراتها محدودة وصعبة ومكلفة لضمان سلامة من بقي من الفلسطينيين، وكي تحافظ على مكانتها السياسية وصورتها كجهة مسؤولة أمام شعبها.
ضمن ذلك تواجه “حماس” خيار الاستمرار في المعركة الجارية، وغير المتكافئة، حتى النهاية تحت شعار “إما نصر وإما استشهاد”، كما طرحته قياداتها، وهو خيار مكلف جداً على الفلسطينيين وعلى “حماس”، ضمن الظروف العربية والدولية التي تحدثنا عنها، حيث من الصعب تحميل “حماس” مسؤولية دحر إسرائيل، بالنظر لقوة إسرائيل الذاتية، وبالنظر للدعم الأميركي والغربي لها، وبالنظر لحال تجاهل الأنظمة العربية لدورها في الصراع مع إسرائيل، ولا سيما مع اقتراب معظم الدول العربية من إتمام صفقة التطبيع مع إسرائيل.

إعادة تقييم أي عملية، وما آلت إليه نتائجها، ونقدها، والاستفادة من دروسها، واجب على أي جهة تتصدّر العمل السياسي أو العسكري

ثمّة خيار آخر أمام حماس وأصدقائها، قوامه العمل على وقف هذه الحرب، من مدخل إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، عبر إعادة تشكيل السلطة الفلسطينية، وهو أحد الخيارات التي تعمل عليها الأطراف الفاعلة المقربة من “حماس” والسلطة الفلسطينية في رام الله، وفي هذا الخيار تتكبّد حماس بعض الخسائر، مقابل تجنيب الشعب الفلسطيني في غزّة المزيد من المعاناة والتضحيات، وهو خيار لا يعني هزيمة المقاومة، بالقدر الذي يعزز صورتها كجهة مسؤولة إزاء الشعب الفلسطيني، وهو خيار سبقها إليه في لحظة تاريخية سجلت للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات عام 1982 عندما اختار مغادرة بيروت لإنقاذ المدينة وسكانها.
لقد مارست حركة حماس في قطاع غزّة، في فلسطين، حقها المشروع في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، كما هو حال كل قوى النضال ضد المحتلين في العالم، بيد أن ذلك لا يعني صوابية كل أشكال الكفاح، بالنظر إلى حسابات الجدوى، أو للمخاطر التي نجمت عن هذا الشكل أو ذاك، على الشعب الفلسطيني، إذ يجب أن يخضع كل شكل للدراسة والتأكّد من نجاعته في استنزاف إسرائيل أكثر من استنزاف الشعب الفلسطيني، من دون أن يقلل ذلك من قدر العمل النضالي وقيمته، أو من مشروعيّته.
على الجانب الآخر، إعادة تقييم أي عملية، وما آلت إليه نتائجها، ونقدها، والاستفادة من دروسها، واجب على أي جهة تتصدّر العمل السياسي أو العسكري، وقد حدث هذا مع حزب الله في تقييمه عملية خطف جنديين إسرائيليين (الوعد الصادق) ومآلاتها على لبنان وشعبه عام (2006)، وتصريح الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله: “لو علمت أن عملية الأسر كانت ستقود إلى هذه النتيجة (قتل أكثر من ألف لبناني وتدمير الضاحية الجنوبية لبيروت وقرى في الجنوب) لما قمنا بها”، على الرغم من أن حزب الله أغلق من خلالها ملف الأسرى اللبنانيين لدى إسرائيل، وهو ما لم يتحقّق للجانب الفلسطيني، رغم كل الأثمان المدفوعة في هذه الحرب، لكنها حتما غيّرت من مفاهيم كثيرة سوّقتها إسرائيل عن نفسها، أنها الدولة الآمنة لشعبها، وهو ما لم يتحقق في ظل تعنّتها، وعدم استجابتها لمشاريع التسوية العادلة للقضية الفلسطينية.