وسط صخب الاحتفال الضخم الذي أُقيم في ميدان الشهداء في قلب العاصمة الليبية طرابلس، وقف رجل أربعيني اسمه عبد الهادي الدحروج على بُعد أمتار قليلة من المنصة الرئيسية للحفل، أخذ يتمايل مع الموسيقى والأهازيج التي تُعزف، ويتلعثم هو يحاول ترديد أغاني المغنين العرب والأتراك الذين أحيوا الحفل، لكن علامات الدهشة كانت حاضرة على ملامح وجهه. تساءل عن البذخ على الحفل وتحضيراته، فيما تعاني المناطق المجاورة انقطاع الكهرباء لساعات كل يوم. استغرب أيضاً تضارب الأولويات، ففيما وفرت الحكومة الدولارات لإنفاقها على المنصة وأضواء الليزر والألعاب النارية، بالإضافة إلى أجور الفنانين وتكاليف استضافتهم، تعاني المصارف الليبية شُحاً في المعروض النقدي، ما أدى إلى ارتفاعات قياسية في أسعار العملات الأجنبية في السوق الموازية.
استحضر الرجل الأيام الأولى للثورة وشعارتها، وقال لـ”النهار العربي”: “شاركت في بداية الأحداث مع غيري من آلاف الشباب، كان طموحنا أن تنتقل ليبيا من حكم الفرد إلى حكم المؤسسات والتداول السلمي للسلطة. كان الأمل كبيراً في أن ينعم الشعب بثروات بلاده المنهوبة، لكن مع مرور الأيام ذهبت هذه الأحلام أدراج الرياح، وبات كل ما يشغلنا تأمين قوت يومنا”.
انتقادات الدحروج للحفل وتكلفته الضخمة اتفق معها ما يُعرف بـ”المجلس الشبابي لسوق الجمعة”، وهو أكبر أسواق العاصمة طرابلس، لكن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة تمسك بإقامته، واصفاً منتقديه بـ”المؤدلجين أعداء فبراير”.
ذكرى على وقع الانقسام
وأحيت ليبيا الذكرى 13 لثورة 17 شباط (فبراير) على نظام معمر القذافي وسط استمرار الصراع السياسي بين “أنصار فبراير” ومؤيدي النظام السابق الذين يلقبون بـ”تيار سبتمبر” في إشارة إلى انقلاب الضباط بزعامة معمر القذافي عام 1969، وبين هؤلاء تعالت خلال الشهور الأخيرة أصوات فريق ثالث يطالب بطي صفحات 55 عاماً من العمل بالنظام الجمهوري، وإحياء الملكية، لكن الدحروج يرى أن “الغالبية لم تعد تهتم بالسياسة وصراعاتها، فكل فريق يبحث عن تأمين مصالحه والوصول إلى مقعد السلطة أو الحفاظ عليها، وحتى الزخم الذي صاحب إطاحة النظام السابق تقلص مع مرور السنوات وتضاءلت الآمال في غد أفضل. كل ما يشغلنا الآن هو الحالة الاقتصادية وانعكاساتها على الوضع المعيشي”.
الانقسام السياسي الليبي كان حاضراً بقوة خلال الاحتفالات والتحضيرات لها، فبينما حرص الدبيبة على زيارة مقر الاحتفال في ميدان الشهداء، عشية انطلاقه، كما حرص على حضور فاعليات الاحتفال وسط حشد من أنصاره، وألقى كلمة عدد فيها ما وصفه بـ”إنجازات” حكومته في القطاعات كافة، ما عُدّ “استعراضاً للقوة والنفوذ” اللذين يتمتع بهما في العاصمة، فيما كان آلاف المحتفلين في المدن المتاخمة لطرابلس، وعلى رأسها الزاوية والزنتان ومصراتة (غرب ليبيا)، يرفعون الشعارات المناوئة للدبيبة والمطالبة بإسقاط حكومته. أما في شرق ليبيا وجنوبها فمرّت الذكرى بهدوء بعدما اكتفت الحكومة الموازية بإعلان السبت عطلة رسمية، كما رفضت إقامة احتفالات رسمية تضامناً مع ضحايا فيضانات “دانيال”، لتوجيه النفقات إلى إعادة الإعمار.
إحاطة جديدة من باثيلي
هذا المشهد رصده الموفد الأممي عبد الله باثيلي خلال إحاطة جديدة تلاها الخميس أمام مجلس الأمن، قائلاً: “ثلاثة عشر عاماً والليبيون لا يزالون في انتظار تحقيق تطلعاتهم إلى السلام الدائم والديموقراطية”، مشيراً بأصابع الاتهام إلى الأطراف المؤسسية الليبية الرئيسية “غير الراغبة في حل المسائل العالقة محل الخلاف السياسي لتمهيد الطريق أمام الانتخابات التي طال انتظارها في ليبيا”. وأضاف: “منذ إحاطتي الأخيرة، واصلت مشاوراتي مع هذه الأطراف الرئيسية، مخاطباً فيهم حكمتهم، وحسهم بالمسؤولية إزاء وطنهم الأم، وحتى الآن، لم يتخذ أي منهم خطوة حاسمة بعيداً من موقفه الأولي، مع استمرار كل منهم في وضع الشروط المسبقة لمشاركته في الحوار كوسيلة للحفاظ على الوضع القائم، وهو ما يبدو أنه يناسبهم”، محذراً من “مبادرات موازية تستغلها الأطراف الليبية وسيلة لإدامة الوضع القائم”، كما شدد على أن “من غير الممكن إحراز تقدم في إجراء انتخابات وطنية ذات صدقية من دون التوصل إلى تسوية سياسية بين الأطراف المؤسسية الرئيسية في ليبيا”.
“أهداف ضاعت”
المحلل السياسي حمد الخراز أكد أن “فبراير ثورة شعب خرج ضد الاستبداد والتهميش لكن أهدافها في دولة مؤسسات وقانون ضاعت ولم تتحقق بسبب سرقتها من أطراف بعينها والتدخلات الدولية”، مضيفاً لـ”النهار العربي”: “ثمة صعوبات اقتصادية ومعيشية يواجهها المواطن، واستياء عام بسبب تفشي الفساد… ليس لدينا دستور ولا حرية رأي ولا حقوق إنسان، كل الشعارات التي نادى بها الليبيون لم تتحقق”. واعتبر أن الحشد للاحتفال في العاصمة طرابلس “لا يُعبر عن استمرار الزخم الشعبي، بل إن هناك قطاعات واسعة احتجت على إهدار الأموال”. ورأى أن هذا الحشد “يأتي ضمن محاولات الدبيبة وأركان حكومته لاستعراض القوة والنفوذ في مواجهة تغير لهجة القوى الدولية ومطالبتها بتشكيل حكومة جديدة موحدة”.
أما الأكاديمي والسياسي عبد الله العتامنة فأكد أن “الحالة الاجتماعية في ليبيا متجانسة ولا تعاني أي انشقاقات طائفية أو مذهبية، في المقابل ثمة انشغال بالواقع السياسي على مستوى الطبقة الحاكمة التي تجاهلت الواقع الشعبي ومعاناته على مر عقود”. وأضاف لـ”النهار العربي”: “من حق كل طيف سياسي أن يطرح رؤيته في شأن النظام السياسي الذي يفضله، سواء كان بالعودة إلى الملكية أم الجمهورية، لكن يفترض أنه في النهاية من يُقر هذا النظام أو ذاك الغالبية الشعبية عبر الصناديق”. ورأى أن “غالبية الليبيين يريدون استقراراً وحياة آمنة من دون النظر إلى شكل النظام أو شخوصه… نحتاج إلى عمل سياسي تحرري شامل يُخلص ليبيا من المستنقع. ثمة ضرورة ملحة للخروج من دائرة الصراع العقيم الحالي بين قوى فبراير وسبتمبر والملكيين، والحوار بين كل الأطراف على قاعدة الرغبة المشتركة في تنحية السلاح جانباً والعمل على إعادة الاستقرار للبلاد، ومن ثمّ طرح مسألة شكل النظام المستقبلي على الاستفتاء ليختار الشعب”.
وشدّد العتامنة على أن حل المعضلات الاقتصادية والمعيشية للمواطن “يبدأ بالاستقرار الأمني، والأخير لن يأتي من دون استقرار سياسي ترسخه صناديق الانتخابات”.