انطلق يوم الجمعة، السادس من حزيران/ يونيو الحالي، في عطلة نهاية الأسبوع لعيد العنصرة، المهرجان السنوي الذي تحتفل به برلين منذ عام 1996، إنه “كرنفال الثقافات”.
هو مهرجان شوارع مميز، يرمز إلى التبادل بين الثقافات والتعايش السلمي ويحمل رسائل ضد التعصب. إذ يتم الاحتفال بالتنوّع الثقافي والفني والاجتماعي في برلين لمدة أربعة أيام مرة واحدة في السنة. ويُعدّ كرنفال الثقافات حوارًا يجري بشكل متكامل ولقاءً حقيقيًا بين الناس، حيث يمكن أن يتلاقى الناس بمختلف تنويعاتهم، من الناحية الاجتماعية، والجنس، والأصل، والجنسية، والثقافة، والدين. يرمي الكرنفال إلى دعم وتعزيز مفهوم التكامل بين الثقافات، والذي يهدف إلى جعل تنوع أنماط الحياة والأفكار الجمالية عنصرًا فعالًا في إثراء الثقافة الحضرية عن طريق الفن ومتاحًا للمناقشات العامة. إنه يتيح الحوار بين الثقافات والابتكار عبرها، ويعزز دوافع اجتماعية وسياسية للتعايش السلمي والمصالح المتبادلة.
تاريخ الكرنفال
في تشرين الأول/ أكتوبر 1993، افتتحت ورشة الثقافات في برلين – نويكولن، بدعم من دائرة الأجانب في مجلس حكومة برلين، قدم المشغلون منتدىً للتواصل بين حوالي 500,000 من سكان برلين من أكثر من 180 جنسية. قادت الاجتماعات والمشاريع الفنية المنتظمة بسرعة إلى فكرة إقامة حدث عام يستمر عدة أيام. لا يمكن إغفال ردة الفعل على الاعتداءات العنصرية التي وقعت في التسعينيات في روستوك- ليشتنهاغن، كأحد الأسباب المحفّزة للقيام بهذا الكرنفال، إذ قام بعض من مثيري الشغب في آب/ أغسطس 1992 في ليشتنهاغن في روستوك، بمهاجمة سكن لطالبي اللجوء وسكن للعمال المتعاقدين الفيتناميين لعدة أيام، مع تشجيع وتصفيق ومشاركة نسبة لا بأس بها من السكان، نجم عنه تقييد البوندستاغ الحق الأساسي للجوء الذي يكفله الدستور. ومنذ عام 1996، أصبح الاحتفال يشبه إلى حدٍّ ما، في مراميه، بيانًا سياسيًا. “مناهضة العنصرية، ومكافحة التمييز، والاستدامة هي الركائز الأساسية لكرنفال الثقافات”، كما يقول المنظمون، الذين يعرّفون الاحتفال بأنه “مساحة شجاعة”. وقد وضعوا لأنفسهم في عام 2023 بيانًا يشير إلى أهدافه مجتمعة: “لطالما كان كرنفال الثقافات بيانًا إيجابيًا ومبهجًا وسياسيًا يعززنا في مواجهة الأزمات الحالية”.
أقيم أول كرنفال للثقافات في عام 1996 بدون مهرجان في الشوارع (Getty)
أقيم أول كرنفال للثقافات في عام 1996 بدون مهرجان في الشوارع. شارك 2200 ممثل في العرض، وجاء 50,000 متفرج. في العام التالي، تم استكمال العرض بمهرجان الشارع لتمثيل مناطق التنوع الثقافي. مع الوقت تطور الكرنفال إلى مهرجان شارع لمدة أربعة أيام مع العديد من العروض الموسيقية والرقصات، وبضع مئات من أكشاك الطعام المتنوع بتنوع الثقافات، ومعروضات الحرف اليدوية والمعلومات. في العام الماضي، احتفل حوالي 1.1 مليون شخص بهذه الاحتفالية التي استمرت أربعة أيام. بالفعل تتحول برلين عامًا بعد عام في هذه المناسبة إلى مهرجان فرح وألوان، حيث تتجمع الثقافات من جميع أنحاء العالم للاحتفال بتقاليدهم وموسيقاهم ورقصاتهم.
“كرنفال الثقافات هو برلين”…
المدن كما البشر، هناك كيمياء بينها وبين الوافد إليها، إن كان للزيارة أو الإقامة، فإما أن يشعر بالألفة معها من النظرة الأولى/ اللقاء الأول، أو تولّد لديه مشاعر جفاء وعدم قبول. أما برلين فهي مدينة ودودة، يشعر المرء بمجرد دخولها والاحتكاك بمجالها الحيوي أنها مدينة أليفة، تفسح مجالًا لكل وافد وتشعره بالطمأنينة، وهي متعددة الساكنين إلى درجة كبيرة، يمكن أن يسمع الوافد في شوارعها وأسواقها عشرات اللغات واللهجات، ويرى عشرات السحنات الآدمية والبشرات الملونة، لذلك يمكن القول إن “كرنفال الثقافات هو برلين”، إذ يظهر حنوّ سكان برلين على قيمهم المشتركة كل عام: التنوع والحب والمزاج الاحتفالي. إنه مهرجان للتنوع وفرح الحياة.
جرت العادة أن يكون حي كرويتسبرغ المعروف بتنوعه الكبير، منطلق الكرنفال، جرى في هذا العام تعديل، حول مسار عرض الشوارع، لأسباب فرضتها بعض الأعمال الإنشائية في المسار التقليدي. لكن يبقى حي كرويتسبرغ قلب الكرنفال النابض، فهو فضاء التنوع، وملهم كرنفال الثقافات.
“إن التعددية بمختلف تجلياتها هي المنقذ الوحيد لهذه الشعوب التي أنهكتها التجارب التاريخية القائمة على الشمولية والطغيان بمختلف أشكاله والثقافة التي تقدس الماضي”
يُعدّ حي كرويتسبرغ، بحسب كثيرين، قبلة الثقافة والتنوع، ولا يخفى على من يرتاد الحي مظهر التنوع، من خلال طرائق الحياة المتنوعة، والمطاعم وأكشاك طعام الشوارع، والمقاهي المتنوعة الموجودة في الحي، كذلك المتاجر، وأزياء الناس وغير ذلك، ما يبرز حيوية مدينة برلين، وقدرتها على زرع الشعور لدى أي فرد بأنه يعيش في بيته، ومدينته.
حي كرويتسبرغ هو أكثر من مجرد مكان، فهو نابض بالحياة، ويقدم كل ما يحتاج إليه الناس في تفاصيل يومهم، وهذا يساعد على تطوير شعور قوي بالانتماء للمجتمع. كما إن لهذا الحي تاريخًا وثقافة متجذرين بعمق في التنمية الحضرية في برلين. بنظرة إلى الوراء، نراه تاريخًا حافلًا بالأحداث ما أدى إلى تطوره إلى مركز ثقافي حيوي على مر العقود. ففي سبعينيات القرن الماضي، الفترة التي اتسمت بالاحتجاجات الاجتماعية والسياسية، ساهمت هذه الأحداث، بدرجة كبيرة، في تشكيل صورة الحي اليوم التي تُعدّ رمزًا للثقافة البديلة. ويُعد التنوع الثقافي وتاريخ الهجرة في كرويتسبرغ عنصرين أساسيين لهوية وسحر هذه المنطقة المتميزة في تنوعها في برلين.
أهمية رسالة الكرنفال اليوم
المهرجان هذا العام هو أكثر من مجرد حدث صاخب في الشوارع. جاء في مقال صحافي بتاريخ 29/4/2025، منشور في أحد المواقع الألمانية: في مواجهة التوترات الاجتماعية، يضع الحدث نفسه بوضوح أكثر من أي وقت مضى كرمز مناهض للعنصرية. مناصر للتضامن والديمقراطية والتنوع. ويؤكد المنظمون على أهمية دمج المناطق الجديدة وتعزيز التماسك الاجتماعي.
“نحن ندافع عن التماسك”، يؤكد المخرج المشارك إيساتو بنجر، جنبًا إلى جنب مع آنا ماريا سيفرت، التي تدعو الناس إلى اتخاذ موقف معارض ومناهض للإقصاء. كما جاء في المقال نفسه.
جرت العادة أن يكون حي كرويتسبرغ المعروف بتنوعه الكبير، منطلق الكرنفال (Getty)
يتجه كرنفال الثقافات اليوم لأن يكون سياسيًا أكثر من أي وقت مضى، خاصة في ظل تنامي السجال السياسي حول موضوع الهجرة الذي أصبح مشكلة خلافية بين الأحزاب السياسية وبين الحكومة والمعارضة في ألمانيا، علمًا بأن ألمانيا بلد لجوء، وهذه حقيقة من الجدير الإقرار بها، فبينما يقوم وزير الداخلية الجديد ألكسندر دوبرينت (CSU) يوميًا بصياغة تحديات جديدة ضد الهجرة غير الشرعية، وقد نجح حزب البديل من أجل ألمانيا في جعل مصطلح “إعادة الهجرة” أو الهجرة العكسية، قابلًا للنقاش في فئات اجتماعية أوسع، تظهر مثل هذه المسيرات الملونة وكأنها سياسية أكثر من أي وقت مضى، كما قالت السياسية من حزب الخضر كلارا هيرمان، عمدة حي كرويتسبرغ الذي تنطلق منه الفعاليات في العادة منذ تأسيس المهرجان: “نحن ندافع عن تنوعنا، حتى وإن تم الاعتداء عليه”، وإحدى هذه الوسائل في الدفاع، “كرنفال الثقافات”.
أحلام مستقبلية
إن كان حي مثل حي كرويتسبرغ في برلين، النواة التي منها انطلقت فكرة الاحتفال بالتعددية الثقافية، وتكريسها جسرًا تصنعه الشعوب من أجل العبور إلى المستقبل، فهل يمكن الحلم بأن ينبثق من تحت ركام مدننا التي أنهكتها الحروب جيل من الشباب الرافض لمعظم الثقافة الرائجة التي قولبت المجتمع بقالب شمولي متكلس، مدعومة بتحالف سلاطين المجتمع كلها، من سياسية واجتماعية ودينية، فأنتجت أجيالًا مصابة بالعطالة في معظمها، ومسكونة باليأس من إمكانية التغيير، جيل يشكّل أحياء الحلم التي تشبه حي كرويتسبرغ، أو أي حي يحنو على المتنوعين بكل اختلافاتهم، بينما يجمعهم أصلهم الإنساني؟
لا يخفى على المتابع والمراقب ما وصلت إليه المجتمعات التي وقعت تحت ظروف حروب من قبيل تلك التي وقعت في أكثر من دولة من الدول العربية، وتسببت بدمار هذه المجتمعات، ودمار الشخصية الفردية، ودفعتها إلى الوراء عقودًا من الزمان فباتت بعيدة عن مسار الحضارة الإنسانية، وغريبة عن العصر الحالي المنطلق بتسارع كبير نحو المستقبل، بينما لم يعد بإمكان أي شعب في عصر الثورة الرقمية والتكنولوجيا الرقمية والإنترنت ومنصاته، أن ينأى بنفسه بعيدًا عنها، فأي فصام يمكن أن تعيشه هذه الشعوب في ما لو لم تصنع حاضرها القادر على أن يشكل أرضًا صلبة ينطلق منها نحو المستقبل؟
إن التعددية بمختلف تجلياتها هي المنقذ الوحيد لهذه الشعوب التي أنهكتها التجارب التاريخية القائمة على الشمولية والطغيان بمختلف أشكاله، والثقافة التي تقدس الماضي وتحارب التغيير والتحديث، وتُعدّ أي اختراق لثوابتها تمردًا من الضروري محاصرته بكل أدوات القوة لديها. من دون أن تسهم كل مكونات هذه الشعوب في صناعة هذا التغيير، القائم على اعتراف هذه المكونات ببعضها بعضًا عتبة أساسية لبناء هذه الثقافة المتعددة الواعدة، سوف تفلت منها اللحظة التاريخية الملائمة، لحظة القبض على أول الطريق في مسيرة البناء من أجل المستقبل.
هل سيخرج، في يوم ما، جيل من الشباب إلى الشوارع في مجموعات مختلفة لإعلان رفضهم لكلّ أشكال التعصب، والدفاع عن مجتمع منفتح ومستدام وسلمي؟ أليس من المطلوب أن يخرج هذا الحلم من “حلمه” ويصبح مشروع أوطان؟
لقد أثبتت سنوات الثورة في سورية، أو الحرب، أو غيرها من التسميات التي لم تسلم من أن تكون نقطة خلاف بين السوريين، أن الشعب السوري، في غالبيته، كان جاهلًا بمناطق بعضه بعضًا، وبثقافة تلك المناطق، وكل ما كان ينمو ويكبر كالفطر السام، هو الصور النمطية التي تشكلت تاريخيًا في الوعي الجمعي لكل مكون تجاه بعض المكونات الأخرى التي تزيد في التعصب وإقصاء الآخر، وتعزز أسباب التقسيم والفرز ودق الأسافين بين مكونات شعب عريق له تاريخ اغتنى بتعدديته، ولم يبقَ في وعيه من هذا التاريخ سوى العصبيات والـ “الهويات القاتلة”.
شارك هذا المقال