لا ينتج لبنان الطائرات المسيّرة، لكنه، مثل غالبية دول العالم الثالث، يركّبها ويجمعها من قطع مستوردة من الخارج، وما زال يستخدمها في الاعراس والحفلات، ما يساهم في تقليل لجوء اللبنانيين الى إطلاق الرصاص والمفرقعات النارية في المناسبات “السعيدة”، ويحمي الأرواح والأحاسيس والممتلكات والبيئة من الخطر.
لكن هذه الطائرات، وإسمها الفني الشائع هو “الدرون”، المستعار من اللغة الإنكليزية (وجمعها “الدرونات”!) التي كانت عند اطلاقها في تسعينات القرن الماضي، أحد أخطر أدوات التجسس التي انتجتها البشرية على الاطلاق، تحولت في العقدين الماضيين الى أحد أهم أسلحة الإفناء والاغتيال، التي يمكن ان تحسم حروباً عالمية كبرى، تقليدية أو حتى نووية.
في الحرب الحالية التي تخوضها إسرائيل مع لبنان، أو إحدى طوائفه، منذ خريف العام 2023، إستخدمت تلك الطائرات بدقة وحرفية وقسوة لا مثيل لها، سواء من “حزب الله” الذي برهن عن إمكانات لا بأس بها، سرعان ما أخفقت أمام قدرات العدو، الذي أثبت تفوقاً مذهلاً، يوازي إن لم يكن يتفوق على ما تمتلكه الدول الخمس الصناعية الكبرى في العالم، وما زالت نتائجه ماثلة في الاذهان، وفي الأجواء اللبنانية التي تنتهكها يوميا تلك “الطيور الإسرائيلية الجارحة”، ولا تعود الى قواعدها إلا بعد أن تخطف المزيد من الضحايا على الأرض.
وعلى الرغم من أن وقف اطلاق النار المزعوم، الذي شلّ قدرات “حزب الله” الجوية المتواضعة، وأطلق غارات تلك الجوارح الإسرائيلية أكثر من ذي قبل، فإن جدل نزع السلاح وشروطه وأولوياته لم يتطرق بشكل مباشر الى تلك المعادلة العسكرية المختلة، ولم يعمد العدو نفسه الى التركيز على ما يمتلكه، أو بالأحرى ما كان يمتلكه، الحزب من “درونات مسلحة”… قبل الغارات الإسرائيلية الأخيرة على الضاحية الجنوبية قبل يومين، التي إدعى أنها إستهدفت مخازن ومعامل انتاج طائرات “درون” تابعة للوحدة الجوية ال127 الخاصة بالحزب!
الأكاذيب الواردة في ذلك البيان الإسرائيلي، التي دحضها الجيش اللبناني واللجنة الخماسية المشرفة على وقف النار، لا تعني سوى ان إسرائيل التي كانت تشيد بتعاون الجيش في تجريد حزب الله من أسلحته الثقيلة، جنوب الليطاني وشماله، قررت كما يبدو فتح ملف “الدرونات” التي لا تنتج في لبنان، بل يجري تجميعها، كما هو معروف، في أمكنة أشبه بدكاكين السمانة او محلات الحدادة، لا في معامل ولا في محترفات.. وتحويل ذلك الملف الى ذريعة إضافية للامتناع عن وقف النار، والى مطلب جديد يدرج على جدول أعمال الخماسية.
والقصد ليس فقط حرمان لبنان من تلك التجربة في مجال التصنيع (الحربي!)، التي أُحبطت قبل ان تكتمل، ولا توكيد السيطرة الإسرائيلية المطلقة على الأجواء اللبنانية، بقدر ما هو ربط وقف النار على الجبهة اللبنانية بوقفها على جبهات غزة واليمن وسوريا، وعلى الجبهة الأهم التي اشتعلت في الأيام القليلة الماضية، أن جبهة إيران، التي عادت الى المربع الأول (مربع العام 2015) من تهديدات متصاعدة بالحرب وعقوبات جديدة فرضة على شخصيات وكيانات إيرانية، بعدما علقت المفاوضات النووية عند العرض الأميركي الذي يطالب طهران بالامتناع عن التخصيب نهائيا وتفكيك مفاعلاتها الذرية، ووقف تسلحها الصاروخي وإنهاء دعمها لحلفائها العرب، بما في ذلك تزويدهم بما يحتاجونه لتجميع “الدرونات”..
تلك العودة الى المربع الأميركي – الإيراني الأول، هي وحدها ما يفسر خلفية الغارات الأخيرة على الضاحية الجنوبية، وما ينذر بأن الاجواء اللبنانية ما زال يمكن ان تشتعل أكثر فأكثر بالنيران الإسرائيلية.. التي قد تحرم اللبنانيين حتى من فرصة إستخدام “الدرونات” في الاعراس والاحتفالات، وتفسح المجال للمزيد من عمليات إطلاق الرصاص والمفرقعات النارية، التي تغطي سماء لبنان هذه الأيام أكثر من وقت مضى في زمن السلم او الحرب.
بيروت 8 / 6 / 2025