رغم طابعها المتعدد الأوجه الذي يجعل من الصعب فهمها، فإن الشعبوية تتميز ببعض الثوابت التي تم تحليلها من وجهة نظر العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية، ولكن بحثها والنظر إليها من زاوية القانون المتعدد التخصصات والمقارن، لا سيما القانون الدستوري، لا يزال قليلاً وسطحياً وغير كافٍ.
تقسم الحركات الشعبوية المجتمع إلى مجموعتين متعارضتين: من جهة النخبة الفاسدة، وفي الجهة المقابلة الشعب النقي الذي يتمتع بشرعية مطلقة ومفارقة. وبالتالي فإن الظاهرة الشعبوية ترفض أي مؤسسة تمثيلية تضمن سيادة القانون، كالبرلمان، والمحاكم الدستورية، والسلطة القضائية والأجسام الوسيطة، الحزبية والنقابية والمدنية، التي يمكن أن تنافس الزعيم الشعبوي، بوصفه الممثل الشرعي الوحيد للشعب. وبالتالي فإن الشعبوية تتحدى القواعد الدستورية وقيمها من خلال إنتاج تغييرات دستورية رسمية وغير رسمية.
رغم ندرة الأبحاث في هذا الحقل، المتخصص والدقيق، فإن العمل الجماعي الذي أصدرته أخيراً جامعة “إيكس أون بروفانس” الفرنسية، والذي شارك فيه باحثون من مختلف الجامعات الأوروبية حول “تأثير الشعبوية على التغييرات الدستورية”، يعتبر مرجعياً، ويستحق الاهتمام عربياً، لأنه يقدم درساً في طبيعة التحولات المقبلة نحو العالم العربي، في ظل صعود موجة شعبوية غير مسبوقة.
في هذا العمل، تبادل الباحثون وجهات نظرهم بشأن تحولات المؤسسات الديموقراطية التمثيلية، والمراجعات الدستورية أو الاتفاقيات الدستورية التي أثارتها الشعبوية، وكذلك بشأن ردود فعل المؤسسات تجاه مثل هذه التحولات، في سبيل تسليط ضوء جديد على مسألة المواجهة بين الشعبوية والأشكال المختلفة للدستورية في البلدان الأوروبية والقارة الأميركية وروسيا.
يبدو السؤال الأساسي في هذا العمل هو ما إذا كان من الممكن إقامة علاقة بين الشعبوية والدستورية، أي ما إذا كان من الممكن التفكير في الشعبوية داخل الديموقراطيات، فيما قامت العلوم السياسية حتى التسعينات من القرن الماضي بتحليل هذه المسألة والنظر فيها، إلا أنها لم تدرس من جانب قانوني. فإذا كان بعض الدستوريين قد نظروا في العلاقة بين الدستورية والشعبوية حصرياً من حيث المعارضة، فقد أكد آخرون أن الشعبوية والدستورية تشتركان، على الأقل، في لغة مشتركة: الديموقراطية، الشعب، السيادة، السلطة التأسيسية. إلى درجة أن يتحدث بعضهم عن وجود دستورية شعبوية. وبعبارة أخرى، فإنهم ينظرون إلى الشعبوية كمشروع دستوري بديل.
في الولايات المتحدة، تطور الجدل بشأن الدستورية والشعبوية إلى حد كبير حول التعارض بين الدستورية “القانونية” والدستورية “الشعبية”، وركز على مسألة شرعية المراجعة القضائية. وفي سياق دستوري مختلف تماماً، نشأ اهتمام متجدد في المملكة المتحدة، في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بـ”الدستورية السياسية”.
رغم أنها تبدو متأصلة في الديموقراطية، إلا أن الشعبوية، من وجهة نظر كمية، علامة على درجة أزمة النظام الديموقراطي. وكلما تطورت، أصبحت شرور أداء النظام الديموقراطي أكثر وضوحاً. وبالتالي فإن الشعبوية تجعل من الممكن قياس، إن لم يكن مستوى الأزمة الديموقراطية في نظام ما، على الأقل، فهي عملياً انعكاس لـ”ديموقراطية التأثير” وهي “ليست خيانة للديموقراطية بقدر ما هي صورة كاريكاتورية لها”. وبعيداً من سياق المعنى هذا، تبرز صعوبة أخرى في قراءة العلاقة بين الدستور والشعبوية، وهما موضوعان مختلفان. إذا كانت الشعبوية عقيدة سياسية، فسيتم تعريف الدستور على أنه نص قانوني يمكن أن يحتوي على أي مضمون ويتميز رسمياً بإجراءات الإنتاج الأكثر تعزيزاً في النظام القانوني. ومن زاوية العلاقات بين هذين العنصرين، هناك منظوران ممكنان. فالدستور، باعتباره وعاءً للقيم، يمكن أن يعكس القيم الشعبوية. ويكون التعبير والترجمة، وفق الكيفيات التي ينبغي تحديدها. يمكننا بعد ذلك أن نتساءل ما هي السمات المميزة للدستور الشعبوي، سواء اعتمد الشعبويون دستوراً جديداً أم قاموا بمراجعة النص الحالي.
وعلى نطاق أوسع، من الممكن التساؤل عن تأثير الشعبوية في الممارسة الدستورية، حتى لو لم يكن الإطار الدستوري في حد ذاته شعبوياً. إذا لم يكن الدستور شعبوياً، فإن ممارسة السلطة التي يصوغها، يمكن أن تكون في حد ذاتها كذلك. وبهذا يصبح هناك نظام شعبوي، من دون دستور شعبوي. وهذا التأمل يجعل من الممكن تسليط الضوء على ما ترفضه الشعبوية في الترتيبات والآليات الدستورية التي توفرها الأنظمة القانونية الديموقراطية التعددية القائمة على سيادة القانون. وبالتالي، سيتضمن هذا تسليط الضوء على ما تفعله الشعبوية بالدستور أو النظام الدستوري. ومن ثم يمكن اعتبار الشعبوية نتيجة لبعض نقاط الضعف في الدساتير أو تنفيذها العملي، ومن ثم أيضاً سيكون علامة على الخلل الدستوري. ولن تكون الشعبوية في الواقع سوى علامة على هذا الخلل الوظيفي، وهو أمر مساوٍ لوظيفة الديموقراطية ذاتها، وبالتالي فإنها ستشجع على اقتراح العلاجات الدستورية لتجنب تطورها. ومن هذه الزاوية، سيكون من الضروري تقييم ما يمكن أن يفعله الدستور ضد الشعبوية.
أما المسألة الثانية فهي فكرة “التغيير الدستوري”، وبخاصة فكرة التغيير الدستوري غير الرسمي، إذ يحتفظ كل نظام دستوري بعلاقة مختلفة مع هذه المجموعة المعيارية المكونة من ممارسات، وسوابق، واتفاقيات، واستخدامات. وبالتالي، فإن أهمية تأثير القوى الشعبوية على الأنظمة الدستورية تعتمد على مكانة هذا الكيان في النظام القانوني. ويظهر بوضوح أن تأثير الشعبوية القوي والجذري في تغيير الدساتير يتعلق أساساً بتعديل أنظمة المحاكم العليا والمحاكم الدستورية، لأنها دائماً ما تشكل عقبةً أمام الحركات الشعبوية في السيطرة السياسية، وكذلك عائقاً أمام طموحات القائد الشعبوي، التي لا تعرف حدوداً في تفكيك كل النظام التمثيلي.