الذعر الإخواني
وسط حالة الذعر التي انتابت جماعات الإسلام السياسي – ولا سيما “الإخوان المسلمون” – اكتملت حلقات المصالحة بين مصر وتركيا، بدخول أردوغان قصر الاتحادية بالقاهرة متأبطاً ذراع السيسي، في “يوم عيد الحب” – بحسب موقع تركي – يرافقه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، والمالية محمد شيمشك، والدفاع يشار غولر، والصحة فخر الدين كوكا، والصناعة والتكنولوجيا محمد فاتح كاجر.
العدو الأكبر!
ظل الموقف من “الإخوان المسلمين” أبرز علامات الشقاق بين الدولتين، إذ باتت تركيا – أردوغان “العدو الأكبر” لثورة 30 يونيو. وقفت بقسوة وعنجهية ضد إرادة المصريين، استضافت أقطاب الجماعة الهاربين، جعلت أراضيها منصة لمخططاتهم وفضائياتهم التي تحرض على نظام الحكم في القاهرة التي ضاقت ذرعا بتلك الممارسات؛ فطردت السفير التركي، ثم نسجت – دون ضجيج – تحالفاً اقتصادياً أمنياً، من تحت أنف أنقرة، ضم اليونان (العدو التقليدي لتركيا)، وقبرص، لاستغلال الثروات الطبيعية بالمنطقة، خاصة حقول الغاز شرق المتوسط، ووثقت الوشائج السياسية والعسكرية. انزعج الأتراك، ثم أتى التدخل الروسي في سوريا عبئاً ثقيلاً عليهم، تبدت مخاطره الجمة، بعد إسقاط المقاتلة الروسية واغتيال السفير وعرقلة بوتين مخططات أردوغان بسوريا، ودعمه طموحات الأكراد الانفصالية (كابوس الأتراك الأكبر)؛ مما يهدد بتمزيق الوحدة الترابية لتركيا نفسها.
عامل آخر تحول من عنصر قوة إلى “نقطة ضعف” فى جدار حكم “حزب العدالة والتنمية”، أي دعم جماعات الإسلام السياسي، بكل ما اقترفته تلك الجماعات من عنف دموي وإرهاب في سوريا والعراق مروراً بسيناء وليبيا وغيرها. فقد سعت تركيا لتعزيز حضورها الإقليمي خلال السنوات العشر الأخيرة؛ اعتماداً على العامل العسكري في سوريا وليبيا والعراق؛ ما تسبب في توتير علاقاتها مع الدول العربية الرئيسية، خاصة مصر. أسهم “تضارب الأهداف” في اتساع رقعة الخلافات والعداء بين الدولتين، خاصة في ظل رغبة أنقرة بالتوسع والهيمنة، في دوائر الأمن القومي العربي: القضية الفلسطينية، وليبيا والسودان والصومال وسد النهضة والسيطرة على أنابيب الغاز العابرة للحدود، إلخ. كل ذلك دفع القاهرة للدعوة إلى تشكيل “قوة عربية مشتركة”، دفاعاً عن المصالح العربية وضبط الأوضاع وكبح التدخلات الخارجية، من جانب قوى دولية أو إقليمية، مثل إيران وتركيا، حتى كادت مصر وتركيا تخوضان “حربا ساخنة” في ليبيا، بعدما تدخلت الأخيرة ونقلت قوات ومستشارين وأسلحة إلى ليبيا، ما دفع مصر لإعلان “الخط الأحمر” سرت – الجفرة، تخوض الحرب لو اخترقته القوات التركية من غرب ليبيا إلى شرقها.
هذا المشهد نفسه بكل ما انطوى عليه من خطورة شديدة وإمكان تفجير المنطقة برمتها، كان بداية لمساعي تبريد الجبهات وتغيير المعادلات، بين الطرفين، وبمرور الوقت تقاربت القاهرة وأنقرة، وجاءت زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لتركيا عقب زلزال شباط (فبراير) عام 2023، ونظيره التركي للقاهرة، ثم عودة سفيري البلدين غلى موقعيهما وطُبّعت العلاقات في منتصف العام الماضي، وصولاً إلى قيام الرئيس التركي بزيارة القاهرة الأسبوع الماضي ولقائه نظيره المصري الذي سوف يزور أنقرة في نيسان (أبريل) المقبل، في ظل شبه اتفاق على تجنب كل طرف التدخل في الشؤون الداخلية للآخر، ما يشير إلى تبدلات مهمة فى توازنات الشرق الأوسط تجبر نظام أردوغان على إعادة ترتيب أوراقه، بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وإدراكه أن التيار الإسلامي تراجع بشدة.
الشرق الأوسط الجديد
من المبكر بالطبع قراءة كل مدخلات ومخرجات ومفاعيل العلاقات المصرية – التركية والدوافع الأساسية وحسابات المكسب والخسارة وراء التقارب بينهما، فوراء الأكمة ما وراءها، إنها شجرة تخفي غابة.
إن الدولتين قوتان مركزيتان فى المنطقة، تحوزان قدرات استراتيجية هائلة وإرثاً حضارياً زاهياً، لكن الحرائق المشتعلة والمتغيرات العميقة وحالة الفوضى والسيولة بالشرق الأوسط دفعت البلدين إلى طي صفحة الخلافات، تكتيكياً أو استراتيجياً، مع إدارة المنافسة بينهما على أساس تقاسم المكاسب والفوائد للجميع، خصوصا في المجال الاقتصادي بين مصر وتركيا، حيث بلغ التبادل التجاري بينهما 6 مليارات دولار، وتعد تركيا من أكبر مستوردي الغاز الطبيعي المصري، ولها استثمارات صناعية كبيرة في مصر.
تتسم السياسة الخارجية لتركيا بطابع براغماتي واضح. تعيد أنقرة تموضعها في ظل ظروف إقليمية ودولية شديدة التعقيد والتباينات، ولذلك ترغب في إعادة بناء نظام إقليمي أمني تكون تركيا رأس الحربة فيه مع مصر والسعودية والإمارات. منظومة جديدة، تكبح جماح الصراعات في المنطقة، بعد عقد كامل من “اهتراء العلاقات الإقليمية”، بين أنقرة والعواصم العربية الرئيسية، إذ تخشى تركيا أن يتشكل الشرق الأوسط الجديد دون أن تكون فاعلة ومؤثرة فيه، على سبيل المثال فإن زيارة أردوغان للقاهرة ترفع الاعتراض المصري على الدور التركي في القضية الفلسطينية، حيث لا تزال القاهرة صاحبة الدور الأبرز في هذا الملف المشتعل.
كما تفتح الباب لنوع من التهدئة في ملف ترسيم الحدود البحرية واستثمار حقول الغاز شرق المتوسط، مع إمكانية قيام القاهرة بتقريب وجهات النظر بين اليونان وقبرص وتركيا بهذا الخصوص. أيضاً في الأزمة الليبية، حيث يمثل التقارب المصري – التركي رافعة لإنهاء الانقسام بين الشرق والغرب وقيام الانتخابات وبدء إعادة الإعمار في عموم ليبيا. كذلك تتوافق وجهات النظر بين القاهرة وأنقرة إزاء أزمات السودان والصومال والتمدد الإيراني في المنطقة، وإن تباينت في قضايا أخرى مثل سوريا والعراق وسد النهضة، لاختلاف أولويات كل منهما.
من المؤكد أن كلا الجانبين يسدد فاتورة فادحة للعداء مع الآخر، ومن ثم يبدو مبكراً الحكم على شكل “الوفاق الودي” بين مصر وتركيا وانعكاسه على قضايا الإقليم ومصالح بقية اللاعبين الكبار، لكن الحقيقة الساطعة تقول: إن الخلافات يمكن تجاوزها، لكن “صلف بعضهم” لا ترياق له سوى لغة الأقوياء ومواقفهم!