بعد ستة أشهر من تعيين أبو حفص الهاشمي على رأس تنظيم “داعش”، خلفاً للزعيم السابق أبي الحسين القرشي الهاشمي، الذي اتّهم التنظيمُ “هيئةَ تحرير الشام” بقتله في إحدى مناطق الشمال السوري، بدأت تتضح بعض الخيوط الأساسية في الاستراتيجية الأمنية والعسكرية التي وضعتها قيادة التنظيم الجديدة، على خلفية التطورات التي تجري في شرق الفرات وسوريا خصوصاً، وفي المنطقة، ولا سيما الحرب الدائرة في غزة عموماً.
وفي حين لم تفقد البادية السورية موقعها المركزي في استراتيجية تنظيم “داعش”، وهو ما تؤكّده الهجمات الدامية التي شنّتها خلايا التنظيم منذ مطلع العام الجاري ضدّ قوات الجيش السوري المنتشرة في محيط الطرقات، التي تشقّ البادية وتمثل خطوط إمداد رئيسية بين المدن السورية مقطّعة الأوصال، يبدو أنّ الخطوة الثانية بعد تكريس مركزية البادية، هي جسّ نبض بعض المدن التي ابتعد عنها التنظيم منذ عام 2019 (تاريخ انكساره وانحسار سيطرته الجغرافية)، عبر تنفيذ عمليات أمنية محدودة، قد يكون الهدف منها استشعار مدى قابلية بعض هذه المدن للخروج عن الأطر الأمنية والعسكرية التي تحكمها؛ سواءً من قِبل الجيش السوري أو من قِبل “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد)، وبالتالي السماح لتنظيم “داعش” باستعادة موطئ قدم فيها، مستفيداً من الصراعات المركّبة التي تشهدها المنطقة، سواءً بين “قسد” والعشائر من جهة، أو بين الميليشيات الإيرانية والقوات الأميركية من جهة ثانية.
عودة بوصلة “داعش” إلى استهداف المدن تجلّت بشكل خاص من خلال عمليتين، تعود آخر سابقة لهما إلى ما قبل عام 2019، وهو ما قد يشكّل مؤشراً هاماً إلى أنّ تنظيم “داعش” قد يكون تجاوز تاريخ هزيمته وما ينطوي عليه من تداعيات نفسية وعسكرية. وللمرّة الأولى منذ سنوات نجح التنظيم عبر خلايا أمنية صغيرة في اختراق مدينة القامشلي، مستهدفاً المربّع الأمني الواقع تحت سيطرة الجيش السوري، حيث تبنّت معرّفات التنظيم على مواقع التواصل الاجتماعي، المسؤولية عن استهداف نقطة عسكرية في مدينة القامشلي في شهر كانون الثاني (يناير) الماضي، اسفرت عن مقتل وإصابة ثلاثة اشخاص على الأقل.
كذلك تعرّض موظف في هيئة “الدفاع الذاتي” التابعة لـ”الإدارة الذاتية” لاستهداف مباشر بالرصاص في حي المفتي في مدينة الحسكة، في أثناء وجوده قرب منزله برفقة عائلته، على يد عناصر من تنظيم “داعش”، بعد غياب لنشاط التنظيم دام لسنوات عن المنطقة.
الاستهداف الذي وقع في الثامن من الشهر الجاري، وتبنّاه التنظيم عبر معرّفه في منصّة “تيلغرام”، أثار مخاوف العاملين لدى “الإدارة الذاتية”، ممن يعتقدون أنّهم قد يكونون أهدافًا للتنظيم في أي لحظة، وفق ما أكّد تقرير لموقع “عنب بلدي” السوري المعارض.
وجاء هجوم التنظيم ضمن زيادة حدّة الهجمات التي نفّذها منذ مطلع العام الجاري، تزامنًا مع انتهاء حملة أمنية نفّذتها “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) في مخيم “الهول” الذي يضمّ عائلات مقاتلين في التنظيم شرقي محافظة الحسكة.
وعلى الرغم مما تتسمّ به هاتان العمليتان من محدودية وضآلة في الحجم والتأثير، غير أنّهما تحملان مؤشرات كثيرة إلى وجود متغيّرات جذرية في طريقة تعاطي تنظيم “داعش” مع التطورات التي تشهدها المنطقة، وتدل إلى وجود رغبة لديه في استثمار بعض هذه التطورات، من أجل أن يكون له دور ما في حال تصاعدت حدّة التطورات وأنذرت بقرب حصول متغيرّات استراتيجية على صعيد خريطة السيطرة في المنطقة.
وقد تكون نقطة الانطلاق في هذا التغيّر، هو أنّ تنظيم “داعش” عاد إلى وضع بعض المدن المكتظة بالسكان ضمن “بنك الأهداف” التي يسعى إلى ضربها. ولكن نجاحه في تنفيذ عمليتين متتاليتين في مدينتين مختلفتين، يدلّ إلى ما هو أكثر من ذلك، لأنّ الانتقال من التخطيط إلى التنفيذ يعني أنّ التنظيم أصبحت لديه قدرات على اختراق التحصينات الأمنية في المدن، وأنّه بات يمتلك خلايا في الداخل تزوده بالمعلومات وبما يحتاجه من أمور لوجستية لتنفيذ مثل هذه العمليات.
تأتي هذه التطورات بخصوص تزايد واتساع نشاط تنظيم “داعش” في ظلّ انشغال مختلف الأطراف بملفات بعيدة من الشأن السوري، حيث أرخت الحرب في غزة بظلالها على كامل المشهد في المنطقة، وهو ما فرض على أطراف، مثل الولايات المتحدة وإيران وروسيا، مواجهة هواجس متعلقة باحتمال توسّع الصراع ليشمل دولاً في المنطقة لهذه الأطراف مصالح فيها، وقد أدّى ذلك إلى انحسار الاهتمام الدولي بموضوع “داعش” واحتمالات عودته.
وخلال إحاطة قدّمها لمجلس الأمن الدولي منتصف الشهر الجاري، استعرض وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب فلاديمير فورونكوف، التقرير الذي يتناول التهديد الذي يشكّله تنظيم “داعش” للسلام والأمن الدوليين، ونطاق الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة دعماً للدول الأعضاء في مكافحة هذا التهديد.
وأكّد التقرير الأممي أنّه رغم أنّ تنظيم “داعش” والجماعات المنتسبة إليه ظلوا يواجهون استنزافاً في القيادة ونكسات مالية، إلاّ أنّهم احتفظوا بقدرتهم على شنّ هجمات إرهابية والتخطيط لتهديد خارج مناطق عملياتهم. وظلّ خطر عودة ظهور التنظيم قائماً في سوريا والعراق.
ويرى خبراء أمميون، أنّ تنظيم “داعش” يمتلك بين 5000 و7000 عنصر في سوريا والعراق، وأنّ مقاتليه في أفغانستان يشكّلون اليوم أخطر تهديد “إرهابي”، في حين يحاول التنظيم إعادة بناء نفسه وتجنيد أشخاص جدد، وتحديدًا من مخيمات شمال شرقي سوريا، بحسب تقرير نشرته وكالة “أسوشيتد برس” الأميركية، وكذلك من “المجتمعات الضعيفة” في الدول المجاورة لسوريا.